المشهد المتغير في آسيا الوسطى بعد صعود طالبان
عادت دول آسيا الوسطى من جديد في واجهة الأحداث والتحليلات بعد سيطرة حركة طالبان على أفغانستان تزامناً مع الانسحاب الأمريكي. تبحث هذه المادة في ردود فعل دول آسيا الوسطى في سياقها المحلي والإقليمي ومستقبل علاقاتها مع حركة طالبان.
الكاتب ستراتيجيكس
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ٠٨/٠٩/٢٠٢١
تزامناً مع انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، غرد الرئيس الأمريكي جو بايدن بالقول: " إن الانسحاب من أفغانستان لا يتعلق بهذا البلد فقط، بل هو متعلق بإنهاء حقبة من العمليات العسكرية الكبرى لإعادة تشكيل دول أخرى"، في إشارة إلى انتهاء عقود من التدخلات العسكرية الأمريكية حول العالم، وبشكل أدق لإعادة تشكيل دول أخرى نتيجة للفشل في تحقيق الحملات العسكرية الأمريكية أهدافها الرئيسية في أفغانستان والعراق.
حيث التدخل الأمريكي في أفغانستان مدة العشرين عاماً الماضية، لم يكن كافياً في القضاء على حركة طالبان أو حتى إضعافها، ودلالة ذلك قدرة الحركة على السيطرة والإمساك بزمام السلطة في أفغانستان عقب بدء القوات الأمريكية انسحابها. وهو حدث سيخلف أبعاداً وتغيرات سياسية يتردد صداها في جميع أنحاء العالم، لكن تبرز دول آسيا الوسطى في محور التغيرات الجيوسياسية، باعتبارها الأكثر تأثيراً وتأثراً في وتيرة التطورات المتسارعة في المشهد الداخلي الأفغاني.
ومن بين دول آسيا الوسطى نفسها، تبدو الدول الواقعة على الحدود الشمالية لأفغانستان (طاجيكستان، أوزباكستان وتركمنستان) الأكثر عرضةً لتلقي الارتدادات الأمنية والسياسية القادمة من كابل مقارنة بكل من كازاخستان وقرغيزستان.
آسيا الوسطى والاستجابة لسيطرة طالبان
حتى اللحظة لا تظهر طالبان بأنها تهديد مباشر على أمن هذه الدول، لكن تلعب الخلفية التاريخية في دور طالبان السلبي مع دول آسيا الوسطى الدافع لاتخاذ هذه الدول قراراتها بمزيد من القلق والترقب من خلال زيادة تواجدها العسكري وإجراءاتها الدفاعية على الحدود مع أفغانستان.
فقد شهدت سنوات حكم طالبان في الفترة الممتدة من 1996-2001، تكبد دول آسيا الوسطى من الخسائر المادية والبشرية، جراء تصاعد وانتشار العديد من التنظيمات الإرهابية التي كانت تتلقى الدعم من حركة طالبان وبايعت زعيمها "الملا عمر"، مثل حركة أوزباكستان الإسلامية 1998، بالإضافة إلى جماعات أخرى مثل إمارة القوقاز الإسلامية 2007، التي نشطت في الضفة الأخرى لبحر قزوين، وشكلت تهديدا لكل من تركمانستان وكازاخستان، وكذلك منظمة الإيغور المسلحة المعروفة بأسماء عدة منها "حركة تركستان الشرقية الإسلامية"، التي تطالب باستقلال إقليم شينجيانغ شمال غرب الصين والمتهمة من قبل الحكومة الصينية بسلسلة من العمليات الإرهابية، وشكلت تهديداً للحدود الغربية لكل من طاجيكستان وقرغيزستان.
مع ذلك تظهر هذه الدول اليوم أنها أكثر استعداداً للتعامل مع تداعيات سيطرة حركة طالبان عما كانت عليه في العام 1996، وتحافظ عدداً منها على تواصل دائم مع الحركة بخلاف طاجيكستان، لكن لا يزال عليها الاستجابة لجملة من التحديات وأهمها مشاكل اللاجئين، وتزايد نشاطات المنظمات الإرهابية أو الإجرامية وما يبعث القلق من عمليات إرهابية أو تدفق المزيد من المخدرات عبر حدودها، فضلاً عن المخاوف من سيناريو الحرب الداخلية في أفغانستان.
اللاجئون
شهدت دول آسيا الوسطى المحاذية لأفغانستان مفاوضات بهدف الاستقبال المؤقت لعدد من المتعاونين مع القوات الأمريكية والغربية إلى حين نقلهم في وقت لاحق، فضلاً عن هروب مئات الجنود الأفغان إلى طاجيكستان وأوزباكستان بعد سيطرة طالبان على المناطق الحدودية في أواخر يوليو ومطلع أغسطس الماضيين.
بالنسبة إلى طاجكستان التي أعلنت أنها لن تستقبل اللاجئين الأفغان، باعتبار أنها استوعبت أكثر من 15ألف لاجئ خلال السنوات الماضية، وهذا المنع يقع ضمن رفض صدر عن الكرملين، حيث أشار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على أنه لا يريد أن يتسلل المتطرفين إلى بلاده تحت ستار اللجوء الإنساني، كما أنه دعا دول آسيا الوسطى إلى اتخاذ إجراءات مماثلة، باعتبار أن عمليات السفر والتنقل بين روسيا ودول آسيا الوسطى تتم دون الحاجة إلى تأشيرات دخول.
الإرهاب
هناك مخاوف من أن يشكل صعود طالبان إلى إعادة إحياء الجماعات الإرهابية التي كافحت دول آسيا الوسطى في هزيمتها، حيث الجيل الجديد من المتطرفين قد يرى في نجاح طالبان السيطرة على كابل الفرصة لإعادة تجديد نفسها أو الاستفادة من الفراغ الأمني في أفغانستان لمهاجمة الدول المجاورة، فضلاً عن المخاطر والتهديدات التي يضيفها تنظيم "داعش-خراسان"، والذي اظهر قدرة على استغلال الظروف والعوامل في أفغانستان في تنفيذ هجوم إرهابي على مطار كابل في 30 أغسطس الماضي، مع إمكانية ان تشهد البلاد هجمات أخرى تستهدف المعابر الحدودية والمؤسسات والمرافق الحيوية الأفغانية.
الحرب الأهلية
صرح رئيس هيئة الأركان الأمريكي، مارك ميلي، بوجود احتمال كبير لاندلاع حرب أهلية في أفغانستان، وهو سيناريو مطروح وتتعامل معه العديد من دول العالم بجدية، ويبقى قائماً حتى مع إعلان طالبان في 6 سبتمبر الماضي السيطرة على ولاية بنجشير بالكامل، فمن المحتمل استمرار المعارك بين طالبان و"جبهة المقاومة الوطنية في أفغانستان" وتمددها إلى مناطق أخرى من الخريطة الأفغانية في إطار اقتتال محلي أو في إطار حرب في الوكالة أحد أطرافها قوى دولية وإقليمية تريد أن تفرض رؤيتها على حركة طالبان.
وقد ينتقل العمل العسكري للجبهة المذكورة لطور الاستهدافات الفردية، مع استخدام الغطاء الإثني للعرقية الطاجيكية لهذه الأنشطة باعتبار أن غالبية المقاتلين تحت راية هذه الجبهة هم من إثنية الطاجيك، والتي تشكل 37% من الفسيفساء السكانية الأفغانية.
آسيا الوسطى في سياقها الإقليمي
عادت أفغانستان مجدداً ضمن الأبعاد الاستراتيجية لمنطقة آسيا الوسطى، وعلى وجه الخصوص في موقف القوى الكبرى منها وهي روسيا؛ التي تؤدي وظائف وأدواراً أمنية في آسيا الوسطى من خلال قواعدها العسكرية في طاجيكستان مثل قاعدة دوشنبه وقاعدة كيولياب التي تبعد حوالي 100 كيلو متر عن الحدود الأفغانية.
بينما تنشط الصين اقتصادياً في آسيا الوسطى نظراً لمركزية المنطقة في مشروع "الحزام والطريق"، حيث تربط آسيا الوسطى جغرافيا بين القارتين الأوروبية والآسيوية، وكذلك بالمنطقة العربية وإيران.
وعليه، من المؤكد أن الانسحاب الأمريكي قد خلف فراغاً أمنياً ومساحة استراتيجية كبيرة في أفغانستان، قد تؤثر سلباً على الاستقرار في آسيا الوسطى ككل، وحيث يعتمد الاستقرار في المنطقة على توازن قائم بضمانة روسية للأمن ونظرة تنموية صينية، فإن آخر ما تريده الدولتان هو الفوضى في أفغانستان.
ولذلك تظهر الدولتان سعياً ملحوظ لاستيعاباً حركة طالبان، والتعاون معها في محاولة لتعديل سلوكها في المجال السياسي وخاصة الحفاظ على أمن حدودها وإقامة علاقات نفعية مع جيرانها، ويمكن قراءة الاطمئنان الروسي تجاه حركة طالبان في تصريح المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى أفغانستان، ضمير كابولوف بأن روسيا لا ترى في طالبان تهديداً على دول آسيا الوسطى، فضلاً عن الزيارات التي قام بها وفد من طالبان لكل من روسيا والصين وهي رسالة مفادها بأن البلاد لن تكون منطلقاً للأعمال التخريبية أو الإرهابية، لكن تبدو أبعاد التغيرات في أفغانستان أكثر نفعية بالنسبة للصين التي تنظر في دور جغرافيا البلاد في دعم مستقبل مشاريعها المتعلقة في الحزام والطريق، ووفقاً لما يصدر عن الخارجية الصينية في مناسبات عدة عن رغبتها في تقديم الدعم الاقتصادي اللازم لإعادة إعمار أفغانستان.
من هنا، تتيح التغيرات في أفغانستان فرصاً لروسيا والصين إلى جانب التحديات، ولعل القضية المحورية تتعلق في انسحاب القوات الأمريكية، كآخر شكل من أشكال التواجد العسكري الأمريكي في منطقة آسيا الوسطى بمفهومها الجغرافي الأوسع الذي يضم أفغانستان وباكستان وشمال شرق الهند بعد إغلاق القاعدة الجوية الأمريكية في قيرغيزستان في عام 2014، حيث لم تعد المنطقة تستضيف قواعد أمريكية منذ ستة سنوات تقريباً.
بناء على ما سبق، فإن نتائج توفر علاقات جيدة بين حكومة طالبان وكل من روسيا والصين سينعكس على منطقة آسيا الوسطى من خلال:
1- بناء علاقات متوازنة بين دول آسيا الوسطى وطالبان بحكم الواقع الجيوستراتيجي عليها.
2- قد يوفر مسار شبه واضح للتنمية الاقتصادية وغطاء دبلوماسي ثنائي روسي صيني لإمكانية تهذيب حركة طالبان سياسياً وبالتالي قدرتها على إدارة الدولة كأي تيار سياسي طبيعي.
3- قد يحفز الحركة للسعي نحو تعزيز مصالحها وتأمين حدودها الشمالية لعدم نفاذ العناصر المتشددة إلى آسيا الوسطى.
طالبان ومشاريع البنى التحتية في آسيا الوسطى
هناك تمايز في مواقف حكومات آسيا الوسطى من التغيرات المتسارعة في أفغانستان، حيث تشير تصريحات القادة والمسؤولين في كل من أوزباكستان وتركمنستان إلى توفر الرغبة في إقامة علاقات مع حركة طالبان تضمن حسن الجوار وتحافظ على الحوار، في حين تبدو التصريحات الصادرة من العاصمة الطاجيكية دوشنبه، أقل تفاؤلاً مقارنة بغيرها.
في الواقع، تربط دول آسيا الوسطى العديد من المشاريع والمصالح الاقتصادية المتبادلة والمشتركة، حيث تسعى تركمانستان لاستكمال مشروع خط غاز "TAPI" أو خط غاز تركمانستان-أفغانستان- باكستان- الهند، الذي من المقرر أن ينقل الغاز من حقل "جالكينش" في تركمانستان عبر أنبوب بطول 1600كم إلى الهند مروراً بكل من أفغانستان وباكستان، وعلى الرغم من أن المشروع كان مطروح بين باكستان وتركمانستان منذ عام 1995 إلا أن الحرب في أفغانستان ومن ثم الغزو الأمريكي حال دون تنفيذه.
وهناك مشروع آخر لنقل الكهرباء بين تركمانستان وباكستان عبر أفغانستان المعروف باسم TAP500 KV line، الذي لا يزال قيد الدراسات الفنية على عكس الأول الذي يتم العمل عليه بكثافة، هذين المشروعين هما بالمساهمة والتنسيق مع بنك التنمية الآسيوي.
ومع التوسع بالبحث، تبين أن هناك مشروع لنقل الطاقة من قرغيزستان إلى باكستان عبر طاجكستان، تحت اسم Central Asia-South Asia Regional Energy Market (CASAREM)، والذي يهدف إلى نقل الغاز من آسيا الوسطى إلى جنوب آسيا.
ومن المؤكد أن دول آسيا الوسطى تنظر إلى هذه المشاريع باعتبارها أداة لتعزيز الاستقرار والسلام في المنطقة، ومن المحتمل أن تواصل كل من تركمانستان وأزباكستان هذه الدول مشاريعها مع شركائهم في الداخل الأفغاني حتى بمعزل عن توجهات الحكومة الأفغانية الجديدة، بينما يبدو أن الاعتبارات الأمنية هي محور النظرة في طاجيكستان أكثر منها فيما يتعلق بالمصالح الاقتصادية.
من جهة أخرى هناك حاجة ماسة لطالبان للمشاركة في مشاريع اقتصادية مع دول الجوار من أجل الاستجابة للتحديات الاقتصادية التي قد تهدد مستقبل سيطرتها، وتظهر الحركة من خلال رسائلها وتصريحاتها رغبة أقوى مما سبق في الانضمام إلى المجتمع الدولي وتعميق علاقاتها الاقتصادية وعلى وجه الخصوص مع الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي.
بناء على ما سبق؛ إن المشهد المعقد اقتصادياً وأمنياً لم يعد يرتبط بنفوذ الولايات المتحدة في آسيا الوسطى، والذي من المرجح أن يتموضع في جنوب شرق آسيا في المدى المتوسط، وإنما تُرك لقوى دولية وإقليمية أخرى لملء الفراغ بمسار سيكون مختلف نوعياً عما كان خلال العشرين عام الماضية، باعتبار أن تطلعات هذه الدول هو مختلف نظيرتها الأمريكية بالدرجة الأولى.
وفي النهاية تظهر دول آسيا الوسطى قدرتها على التكيف مع حكومة يسيطر عليها قادة طالبان، كما فعلت في السابق، لكن في هذه المرحلة تبرز القضايا الرئيسية للاستجابة على حدود هذه الدول مثل قضية اللاجئين والتهديدات الإرهابية، من جهتها تسعى الحركة لإظهار قدرتها وإمكانياتها على مكافحة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم داعش، وكذلك استعدادها للانخراط في تدابير بناء الثقة نظراً لإدراكها على ما يبدو لأهمية المصالح الاقتصادية في ديمومة الدول وحكوماتها.
مع ذلك تبقى المخاوف الأمنية قائمة لدى دول آسيا الوسطى، خاصة وأن تجربة طالبان التاريخية كان عاملاً في تهديد الدول المجاورة لها، ولا تزال العديد من العوامل تنذر بالخطر من قبيل سوء إدارة طالبان للتركيبة الديمغرافية المعقدة في البلاد، أو تزايد تردي الأوضاع الاقتصادية وهو تحديات ستتضح معالمها أكثر في المستقبل.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات