الأردن وسوريا: مناورة اقتراب حذرة
تشهد العلاقات الأردنية السورية بوادر الانعطاف نحو حالة من تسكين عوامل النزاع بين الدولتين الجارتين، حيث جرت في عمان لقاءات ثنائية عالية المستوى بين مسؤولين عسكريين وحكوميين، وبلغ هذا التواصل مستوى سياسي قيادي في الاتصال الهاتفي بين الملك عبدالله الثاني والرئيس بشار الأسد. تستعرض القراءة التحليلية التالية أهم القضايا العالقة بين الجانبين وتقدم تشخيصاً لأبرز العقبات التي قد يصطدم بها مسار التفاعلات الأردنية السورية.
الكاتب ستراتيجيكس
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ١٤/١٠/٢٠٢١
شهدت الأشهر القليلة الماضية تطورات ملحوظة في العلاقات بين الأردن وسوريا، ففي 3 أكتوبر الجاري تلقى جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين، اتصالاً هاتفياً من الرئيس السوري بشار الأسد، هو الأول من نوعه منذ العام 2011، ووفق البيان الرسمي الصادر عن الديوان الملكي حمل الاتصال طابعاً سياسياً إذ تم بحث سبل تعزيز التعاون المشترك، كما أكد جلالة الملك على دعم جهود الحفاظ على "سيادة سوريا واستقرارها ووحدة أراضيها وشعبها".
وفي 19 سبتمبر استضاف رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأردنية يوسف الحنيطي، وزيرَ الدفاع، رئيس أركان الجيش السوري علي أيوب، في زيارةٍ استمرت ليومين لم وأشار البيان الرسمي حول اللقاء القضايا التي بحثها الجانبان؛ "وفي مقدمتها تنسيق الجهود لضمان أمن الحدود المشتركة بين البلدين، والأوضاع في الجنوب السوري، ومكافحة الإرهاب والجهود المشتركة لمواجهة عمليات التهريب عبر الحدود وخاصة تهريب المخدرات".
صحيح أن هذه الملفات حدودية الطابع، لكن في العمق يمكن استدلال بدء عودة التفاعلات الأردنية السورية إلى مستويات عالية من التنسيق، لكنها تبقى بعيدة عن العلاقات ما قبل عام 2011، حيث تُدلل اللقاءات والاتصالات الأخيرة أن النقاش قد يتعدى الترتيبات الحدودية والأمنية ليشكل مناقشة أوسع لقضايا عالقة بين البلدين منذ عمر الأزمة السورية.
أبرز هذه القضايا تتصل بطبيعة الانتشار العسكري الحدودي، وضرورة الالتزام بإبعاد أي قوات غير رسمية 40 كم عن الحدود الأردنية تطبيقاً لاتفاق أردني – روسي – أمريكي تم في يوليو 2017 تمهيداً لخفض دائم للتصعيد في جنوب سوريا. ولذلك لا يمكن فصل لقاء الحنيطي – أيوب عن التطورات الأخيرة في درعا وتحديداً "درعا البلد" التي باتت تحت سيطرة الدولة السورية، وتم إعادة فتح المركز الأمني فيها وانسحاب بعض المقاتلين الذين تصنفهم الحكومة السورية على أنهم إرهابيون نحو إدلب.
وهذه التطورات جاءت استجابةً للفوضى التي سادت في المحافظة تزامناً مع قرار فتح المعابر الحدودية بين البلدين، حيث قطع مسلحون الطريق الدولي وأشتبك على إثرها الجيش السوري وحلفائه مع فصائل مسلحة وجماعات إجرامية. وهذا التزامن بين قرار فتح المعابر وتفجّر الأوضاع يشي بوضوح أن ثمة من لا يريد عودة العلاقات الأردنية السورية إلى سابق عهدها إلا ضمن متطلبات ومعايير يراها تخدم مصالحه ورؤيته الإقليمية.
ثاني هذه القضايا تتمثل في عودة اللاجئين السوريين في الأردن البالغ عددهم وفق الأرقام الرسمية 1.3 مليون لاجئ من ضمنهم 664 ألف فقط مسجلين في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ووفقاً لتقارير إعلامية يتخوف كثير من السوريين من العودة إلى ديارهم بسبب مخاوف من تعرضهم للاعتقال على خلفية سياسية، أو الخدمة الإجبارية في الجيش السوري، كما أن الأوضاع الأمنية والاقتصادية لا تشجع اللاجئين السوريين للاستقرار في بلادهم.
ثالث القضايا هو إعادة التأكيد على الحصص المائية القادمة من سوريا إلى الأردن، فوفق اتفاقية المياه الأردنية السورية المشتركة عام 1987؛ يتولى الأردن تشييد سد حدودي بسعة 220 مليون متر مكعب على امتداد نهر اليرموك، في حين تستفيد سوريا من الطاقة الكهربائية المولدة عبر السد. وقد تم الانتهاء عام 2010 من بناء سد الوحدة، ولكن بنصف السعة المتفق عليها، ورغم ذلك لم يمتلئ السد بسبب بناء قرابة 60 سد فرعي في سوريا والتوسع في حفر الآبار الجوفية، مما حجب النسبة الأكبر من مياه النهر عن السد.
ومثل هكذا قضايا استراتيجية لا يمكن للمستوى العسكري حسمها بحكم اختصاصه، مما يعني حكماً أن التواصل السياسي بين الدولتين أصبح خياراً ممكناً، ولا يستغرب عقد لقاء عالي المستوى بصبغة سياسية يتم فيه الإعلان عن تسمية سفراء جدد، وقد يحدث هذا اللقاء في إحدى العواصم على هامش المشاركة في أحد الاجتماعات الدولية، تماماً كلقاء وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، ونظيره السوري، فيصل مقداد، على هامش اجتماعات الدورة 76 للجمعية العامة للأمم المتحدة والذي ناقشا فيه "الجهود المبذولة للتوصل لحل سياسي للأزمة السورية ومعالجة تبعاتها بكل جوانبها".
ولأن العلاقات الدولية عملياً تقوم على مبدأ تبادل المصالح، فإن الدراسة الوزانة لما يمكن أن تقدمه كل للأخرى، تسهم في رسم خارطة طريق لعلاقات أردنية سورية تعود بالنفع على اقتصاد الدولتين.
أردنيا، يمكن للدبلوماسية الأردنية أن تؤدي دوراً في إعادة تأهيل دمشق في البنية العربية والدولية، عبر الحصول على مزيد من الاستثناءات لقانون عقوبات قيصر، وعبر الإسهام في بلورة صيغة للحل في سوريا تكون جامعة شاملة غير إقصائية وبما ينسجم مع القرارات الدولية في هذا الشأن، أبرزها قرار مجلس الأمن 2254 الصادر بالإجماع في ديسمبر 2015 والمتضمن تشكيل حكومة انتقالية تشرف على انتخابات بعد إقرار دستور جديد.
ورغم أن دمشق ترفض مثل هكذا طروحات، إلا أن القرار لم يتطرق إلى مستقبل الرئاسة السورية، ونظراً للحقائق الميدانية على الجغرافية السورية، يمكن للرئيس السوري، بشار الأسد، الترشح في هذه الانتخابات، ولكن تدعو المصلحة السورية العليا إلى أن تكون هذه الانتخابات ضمن خارطة طريق تؤهل لعملية سياسية متكاملة محلياً ودولياً بالاشتراك مع جهات سورية معارضة تصوّب أوضاعها وتلتزم بالدستور "الجديد".
ويمكن لعمان تقريب وجهات النظر بين هذه الجهات والحكومة السورية، وذلك بالتنسيق مع بعض العواصم العربية التي احتضنت في وقتٍ سابق نشاط هذه الجهات. ولا يخفى على أحد أن معظم دول منظومة "أصدقاء سوريا" - التي كانت تطالب جهاراً بنظام سياسي جديد في سوريا، راجعت حساباتها وأعادت تقييم الموقف في ضوء عدة متغيرات، أبرزها صعود الإرهاب، وعدم توفر بديل قادر على فرض السيادة على كامل الجغرافيا السورية، وتعذّر حسم "المعركة" في سوريا عسكرياً دون تدخل دولي معقّد ومكلف وله ارتدادات مباشرة على الطرف المتدخِّل.
جدير بالذكر أن مواقع لبنانية مقربة من الموقف السوري الرسمي ادّعت صدور تعليمات رسمية أردنية عليا بعد لقاء الحنيطي – أيوب تقضي بعدم التعرض للدولة السورية بما فيه تهويل أو تشويه، وعدم الاستمرار في "النغمة" السابقة عند التطرق للشأن السوري، وأشارت بعض التقارير إلى اختفاء كلمة "النظام السورية" وظهور كلمة "الحكومة السورية" في الصحف والمواقع الإخبارية الإلكترونية المرخصة في الأردن.
ويُلاحظ منذ الاتفاق الأردني الأمريكي الروسي في يوليو 2017 المشار إليه في موضع سابق، أن الأردن قلّص من تواصله مع الجهات المعارِضة، وأخذ يتواصل مع دمشق عبر البوابة الروسية أو عبر اتصالات غير معلنة تتم في حلقة مغلقة بمعزل عن الطابع الرسمي البيروقراطي.
بالإضافة إلى "إعادة تأهيل سوريا دبلوماسياً" يمكن للدولتين إعطاء زخم لعلاقاتهما الاقتصادية، وبالفعل تجري في هذه المرحلة لقاءات تقنية عالية المستوى لتزويد سوريا بالغاز والكهرباء عبر الأردن ضمن مشروع خط الغاز العربي الذي سيشمل أيضاً لبنان، فسوريا ولبنان تجمعهما أزمة اقتصادية هوت بسعر صرف العملة المحلية تأثراً بالاضطرابات السياسية والعقوبات الأمريكية التي أُقرت بحكم علاقتيهما مع إيران.
وسيشهد الشحن البحري من ميناء العقبة نحو سوريا كثافة ملحوظة بعد قرار وزارة الداخلية الأردنية الفتحَ الكامل للمعابر بين البلدين نهاية سبتمبر 2021، حيث قدّر نقيب أصحاب شركات التخليص ونقل البضائع في الأردن، ضيف الله أبو عاقولة، أن الزيادة في حجم العمل بالبضائع الواردة من العقبة إلى سوريا تتجاوز 600%، داعياً الجهات المعنية من موانئ وجمارك إلى تقديم التسهيلات اللازمة لانسياب الترانزيت عبر الأردن إلى سوريا ولبنان.
في المقابل، يمكن لسوريا منح حصة للشركات الأردنية في عملية إعادة الإعمار المُرتقبة، والتي أضحت جزءاً من التنافس الخفي في سوريا بين معظم الأطراف، ليس فقط لاعتبارات اقتصادية، وإنما أيضاً للمساهمة في رسم ملامح سوريا ما بعد الأزمة، ولذلك تدّعي بعض التقارير الإعلامية أن طهران تضغط على دمشق لاحتكار ما يبدو أنه عملية اقتصادية تنموية، ولإقصاء شركات مسجّلة في دول عربية.
وأثناء كتابة هذه السطور، كانت البيانات الرسمية تتوالى حول لقاءات الوفد الوزاري السوري رفيع المستوى الذي يزور الأردن في 28 سبتمبر 2021، واللافت في هذه الجولة أنها شهدت لقاءً مع رئيس الوزراء الأردني، بشر الخصاونة، بصفته السياسية، ما قد يدلل على وجود إرادة سياسية لإحراز تقدم هادئ في العلاقات الثنائية. وقد تضمن البيان شبه الرسمي حول الزيارة والذي نُشر حرفياً على معظم المواقع الإلكترونية الأردنية أنه من المتوقع "أن تتمخض الاجتماعات عن وضع تصور لسبل تأطير العلاقات الاقتصادية بين البلدين وتعزيز مجالات التعاون بما يخدم مصالح البلدين خاصة في ضوء أوضاع عدم الاستقرار التي شهدتها المنطقة وجائحة كورونا".
وبعيداً عن التفاؤل، ولكون الأزمة السورية معقدة من حيث: طول أمدها وكثرة ضحاياها وتعدد الأطراف الإقليمية والدولية؛ فإن مسار التفاعلات الأردنية السورية سيصطدم بعقبات أبرزها:
1- غياب استراتيجية دولية متسقة للتعامل مع الملف السوري
لغاية الآن ما زالت الاستجابة الدولية للأزمة السورية آنية ومحكومة برد الفعل على هذا الموقف أو ذاك، حيث تغيب الرؤية لإحداث انتقال في الحالة الصراعية، وربما تمتلك موسكو وطهران استراتيجيتهما الخاصة والمشتركة في سوريا، ولكن تفتقر الدول الغربية إلى وجود استراتيجية متجانسة تستشرف المرحلة المقبلة وتحاول التأثير فيها.
ولذلك تراجعَ مسار جنيف لتسوية الأزمة السورية، ليس فقط بسبب فعالية مسار أستانا الذي يضم روسيا وتركيا وإيران، وإنما لانخفاض قدرة الدول الغربية وحلفائها على إنفاذ إرادتها تجاه سوريا، فمن المناداة بـ "إسقاط النظام" إلى "مكافحة الإرهاب" مرّت السياسات الغربية تجاه سوريا بحالة من التخبط والتناقض بين أدوات يفترض أن تكون متكاملة وتخدم نفس الهدف.
وقد عبّر مساعد وزير الخارجية الأمريكي، جوي هود، في مقابلة تلفزيونية في يوليو 2021 عن الهدف المركزي لإدارة بايدن من الأزمة السورية، قائلاً إن الولايات المتحدة لا تسعى لتغيير النظام، بل تغيير سلوك حكومته، مؤكداً دعمها عملية سياسية برعاية أممية لتشكيل حكومة ممثِّلة عن الشعب السوري.
ويعني "تغيير السلوك" و "تشكيل حكومة" ممارسة ضغوط على دمشق، مما يديم تذبذب الأوضاع، فهنالك مستويات ليبرالية تعنى بحقوق الإنسان ترفض تليين الموقف الأمريكي تجاه سوريا قبل حسم بعض القضايا، مثل التهم المتعلقة في الهجمات الكيماوية وإجراء تحقيق أممي فيما إذا تم ارتكاب جرائم حرب ممنهجة في سوريا وتحديد ومحاسبة الطرف المسؤول.
ولذلك تتحرك الدبلوماسية الأردنية نحو دمشق في بيئة لا يمكن التيقن منها، فقد يتم تشديد الموقف الأمريكي والأوروبي حيال دمشق في أي وقت. ويستدل على حالة "عدم الوضوح" بعدة مواقف، آخرها ما صدر عن الخارجية الأمريكية في 28 سبتمبر 2021 من ترحيب بعودة الرحلات التجارية بين عمان ودمشق، فبعد ساعات من هذا الإعلان أوضحت الخارجية الأمريكية رداً على سؤال صحفي "ما إذا كان الترحيب الأمريكي باستئناف الرحلات يعكس تغيراً في وضع علاقات الولايات المتحدة مع سوريا" بالقول أنه لا يوجد ما يُعلن عن وضع العلاقات أو تغيير في السياسة، وما يمكن تأكيده هو أن الخارجية تراجع الإعلان الترحيبي.
2- الموقف الإيراني
تعثرت المفاوضات النووية بين إيران ودول "5+1"، ورفضت طهران المطالبات الدولية بإجراء صفقة شاملة تعالج كل القضايا الخلافية بما فيها سياساتها الإقليمية وحضورها النافذ على المشهد السياسي في العراق، ولبنان، واليمن، وسوريا.
وهذا التشابك يتطلب بالضرورة إحراز تقدّم في القضايا الرئيسية شديدة التعقيد من أجل تحقيق تقدّم في قضايا أقل أهمية في الحسابات الإقليمية، والتي من ضمنها العلاقات الأردنية السورية. ولا يُقصد بذلك أن طهران تتعمد إبعاد الأردن عن دول مثل سوريا، ذلك أن عمان ورغم كونها حليفة لواشنطن إلا أنها لم تبدِ يوماً أي حماس لعمل عسكري مشترك ضد إيران، ودائماً تدعو إلى الحوار وتقديم التنازلات وبناء الثقة بين إيران وخصومها الإقليميين والدوليين.
ويُفترض أن تجري في المرحلة المقبلة تفاهمات أردنية إيرانية صريحة ومباشرة حول الجنوب السوري، لتثبيت ما تم الاتفاق عليه مع سوريا وروسيا، ذلك أن خريطة السيطرة الميدانية في سوريا تظهر أن المنطقة تخضع للفرقة الرابعة من الجيش السوري بقيادة، اللواء ماهر الأسد، كما تتواجد مجموعات مسلحة تتبع لحزب الله اللبناني ولجماعات أفغانية وباكستانية مُدارة إيرانياً، كلواء فاطميون ولواء زينبيون.
ولذلك أمام وزير الدفاع السوري، علي أيوب، مهمة شاقة لتنفيذ ما تعهدت به الدولة السورية من ضمان ألا تستغل أراضيها لأي أعمال ضارة بالأردن، كتهريب الأسلحة والمخدرات.
جدير بالذكر أن وزير الخارجية وشؤون المغتربين الأردني، أيمن الصفدي، تلقى اتصالاً هاتفياً من وزير خارجية إيران، حسين أمير عبد اللهيان، ووفق البيان الرسمي بحث الجانبان "الجُهود المبذولة لحل الأزمات الإقليمية، والاتصالات ومسارات الحوار التي تشهدها المنطقة لحل الخلافات، وبناء علاقات إقليمية تُكرس الأمن والاستقرار، وتخدم مصالح جميع شعوبها ودولها" كما تم تأكيد الحرص المشترك على تطوير العلاقات الثنائية، وهو ما يعكس رغبةً في تجاوز التنافرات بين البلدين.
3- تباين المواقف العربية إزاء إقامة علاقات مع دمشق
منذ أن أعادت أبو ظبي افتتاح سفارتها في دمشق في ديسمبر 2018، والجدال مستمر حول إعادة مقعد سوريا في الجامعة العربية إلى الحكومة السورية المعترف بها في الأمم المتحدة، حيث ترى بعض العواصم العربية أن عودة التمثيل الدبلوماسي مع سوريا يتطلب مقاربة متكاملة ضمن استراتيجية ردع إيران، في حين ترى عواصم أخرى أنه يجب مزاحمة الوجود الإيراني الإقليمي عبر إقامة علاقات كاملة مع الدول العربية التي تعتبر جزءاً مما يطلق عليه "محور المقاومة".
ومؤخراً جرت عدة اجتماعات بين مسؤولين إيرانيين وعرب، بهدف البحث عن صيغة يمكن أن تكون مشتركة للأزمات المندلعة في المنطقة، ومن المنطقي أن تكون "مقايضة المواقف" مطروحة على طاولة المفاوضات غير المعلنة، فمثلاً تتخلى إيران عن دعم جماعة الحوثي "أنصار الله" مقابل ضغط دول عربية على جهات سورية معارضة للقبول بتسوية نهائية.
وأمام هذا الاضطراب الواسع النطاق الذي لا يمكن الجزم بمساره، ستجد عمان نفسها محاصرة بين التزاماتها الإنسانية والسياسية من جهة، وبين ضرورة التواصل البنّاء مع سوريا من جهة أخرى، مما يتطلب من الأردن الدقة في رسم ماهية تدفق العلاقات مع سوريا.
4- قاعدة التنف - Al-Tanf العسكرية
قرب الحدود الشمالية الأردنية، أقامت القوات الأمريكية قاعدة عسكرية على المثلث الحدودي الأردني العراقي السوري، هدفها الرسمي هو مكافحة الإرهاب ودعم الجماعات المحلية في مواجهة تنظيم "داعش" الإرهابي، أما الهدف الفعلي فهو الحفاظ على موطئ قدم للاستراتيجية الأمريكية في سوريا، وقطع التواصل الجيوسياسي بين إيران ولبنان، ذلك أن القاعدة مشيّدة على الطريق الدولي بين العراق وسوريا.
ولنفس هذه الأهداف تدعم الولايات المتحدة فصائل كردية في شمال شرق سوريا، أبرزها قوات سوريا الديمقراطية، وآخر التطورات في هذا الميدان ما نقلته وكالة "سانا" في سبتمبر 2021 من أن "القوات الأمريكية أدخلت رتلاً محملاً بمواد ومعدات عسكرية ولوجستية قادماً من العراق عبر معبر الوليد لدعم قواعدها العسكرية في منطقة الجزيرة السورية".
وفي شمال غرب سوريا، ثمة حضور عسكري تركي مباشر وغير مباشر لإبعاد الفصائل الكردية المصنفة إرهابياً على القوائم التركية، ولا تزال إدلب بؤرة للمسلحين الذين لم تشملهم التسويات السابقة في المحافظات التي عادت تحت سيطرة الجيش السوري، وتم إبعادهم إلى إدلب ضمن ترتيبات خاصة مع الجهات الرسمية السورية.
وتصنّف دمشق التواجد العسكري الأجنبي في أراضيها شمالاً وجنوباً على أنه احتلال واعتداء على الحقوق الأساسية للدولة ضمن القانون الدولي، وتصر على أنه لا يمكن إحراز تقدم سياسي فعلي دون انسحاب هذا التواجد العسكري.
وفي مرحلة لاحقة قد تصطدم العلاقات الأردنية السورية بـ"قاعدة التنف" ومطالبة الجناح المتشدد السوري بضرورة عمل الأردن على تفكيك هذه القاعدة التي يدعي هذا الجناح أنها أنشئت بترتيبات أردنية وتُستغل لتحقيق مآرب إقليمية تتشاركها عمان وتل أبيب.
5- اللوبي الإسرائيلي الدولي الضاغط نحو استمرار الصراع
دخل المجمَع الأمني الإسرائيلي في حالة استنفار منذ انخراط حزب الله والجماعات الإيرانية المسلحة في الصراع السوري، وصمم استراتيجية "المعركة بين الحروب" لتقويض الأخطار الإيرانية المنبعثة من سوريا، وتقوم هذه الاستراتيجية على تنفيذ عمليات مستمرة في العمق السوري عبر القصف الجوي أو المدفعي على أهداف حساسة، مع عدم التصريح بمسؤولية إسرائيل عن هذه العمليات.
وقد تكون تل أبيب هدفَت في مرحلة مبكرة من الأزمة إلى العمل على إسقاط النظام السياسي، إلا أنه مع تنامي الإرهاب وترسيخ الفصائل المدعومة إيرانياً لقدراتها في الأراضي السورية، أصبح الهدف الإسرائيلي ينحصر في ردع واحتواء هذه التهديدات، حتى لو تطلب الأمر بقاء القيادة السورية على ما هي عليه، لأنها ترى في شكل القيادة السورية الحالية وامتدادها أنها الخيار الأفضل لبقاء الوضع كما هو عليه لسنوات طويلة.
ولذلك، يتجه المسؤولون الإسرائيليون إلى موسكو لإعداد تفاهمات معينة حول ما يطلق عليه إسرائيلياً "الجبهة الشمالية" إذ أن حدود سوريا ولبنان مع إسرائيل تحولت إلى شبكة أمنية وعسكرية متأهبة لأي عمل يستهدف حدودها، وبالتالي ستمانع إسرائيل أي حل لا يهدئ مخاوفها ولا يزيل مكامن قلقها من الجبهة الشمالية، وهي الحدود الواقعة ضمن صلب الاستراتيجية الإيرانية لردع إسرائيل، كما تدعي طهران.
وفي هذا السياق، أقرت إسرائيل بعجزها عن إقناع إدارة بايدن بالعدول عن إجراء مفاوضات نووية جادة، وهذا الإقرار يُسمع صداه بصورة غير مباشرة في التصريحات الرسمية وبصورة مباشرة في التحليلات الأمنية الصادرة عن مؤسسات مقربة مع دوائر صنع القرار، كموقع "Walla" الأمني الذي نشر تقريراً في سبتمبر 2021 أكد فيه أن إسرائيل خسرت في أكبر كفاحٍ لها في الأعوام الـ20 الماضية، ضدّ النووي الإيراني، مشدداً في الوقت عينه على أنّ التقييمات الإسرائيلية تدرك أنّ إيران قامت بالأمر الذي يعتبر خسارة لتل أبيب.
ويمكن القول أن هنالك حالة من "السخط" الإسرائيلي الرسمي بسبب الموقف الدولي والإقليمي غير المتحمس لشن حرب ضد البرنامج النووي الإيراني، ونظراً لما تملكه تل أبيب من نفوذ في العواصم العالمية عبر جماعات الضغط التي تعبّر عن موقفها، فإنه يمكن تسكين الغضب الإسرائيلي من إيران عبر جبهات مثل سوريا، من خلال السعي الدولي إلى إبعاد الفصائل المدعومة إيرانياً عن الجولان؛ المنطقة المحتلة إسرائيلياً في حرب 1967 والتي اعترفت إدارة ترامب بالسيادة الإسرائيلية عليها، وهو الأمر الذي ترفضه دمشق وتعتبر استرجاعها متطلباً سابقاً لأي تغيير في نمط العلاقات السورية الإسرائيلية.
6- أزمة الثقة
رغم اللقاءات الوزارية التي ناقشت التفاصيل الفنية لتعاون أردني سوري، ورغم الاجتماع الأمني المغلق بين الحنيطي وأيوب، إلا أن الطرفين لا يزالان يتوجسان سياسياً من وجود مواقف غير معلنة جرّاء هذا التقارب.
فطوال عمر الأزمة السورية، تبادل الجانبان الاتهامات، فسوريا تدعي علناً أن الحدود الأردنية وُظفت لدعم الإرهاب القادم نحو سوريا عبر غرفة العمليات المشتركة الدولية "موك" في الفترة ما بين 2013 إلى 2014، أما الأردن فيرى أن سوريا تعمدت إغراقه باللاجئين ولا تزال تعرقل عودتهم، وصنعت فوضى أمنية على الحدود في مرحلة مبكرة من الصراع عندما انسحب جيشها المكلف بتأمين الجانب السوري من الحدود وليترك المنطقة عرضة للجماعات الإرهابية والإجرامية الباحثة عن ثغرة لاختراق الأمن الأردني.
وبناءً على أزمة الثقة هذه، ثمة في عمان ودمشق على حدٍ سواء تيار شعبي ورسمي - في وزارة الخارجية والجيش والأجهزة الأمنية - يرفض من منطلقات سياسية عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 2011.
الخطوة القادمة للعلاقات الأردنية السورية
تُطبّق الأردن وسوريا مناورة اقتراب بعد فترة من التباعد في المواقف، وقد تكون اتضحت ملامح التفاعلات البينية القادمة التي تبدو أنها اقتصادية مُجردة، ولكنها بخلفية سياسية بامتياز، ولذلك يمكن لهذه التفاعلات أن تتعمق إن أحسن الطرفان التعامل مع ما يستجد من تحديات.
وينبغي في الفترة القادمة التركيز على نقاط الالتقاء وعلى إبراز المواقف الإيجابية، فمثلاً رغم حالة الشحن الدولي بداية الأزمة ضد دمشق، إلا أن الأردن رفض تعليق العمل الدبلوماسي مع دمشق وبقيت سفارتا الدولتين تعملان على مستوى منخفض، كما أن الأردن رفض الضغوط الإقليمية المطالبة بتحويل حدوده مع سوريا إلى منصة متقدمة ضد النظام السوري على غرار الحدود التركية السورية، فالأردن لم ينخرط في جهد فعلي لتغيير الحكم في سوريا.
ويبقى أهم ما قد يحفّز عودة العلاقات الأردنية السورية هو عودة سوريا إلى وضعها الطبيعي، دولةً مستقرةً لا ينازع سلطانها الدستوري أي قوة حليفة أو معادية، وقادرةً على أداء وظائف الدولة الأساسية تجاه شعبها وتجاه التزاماتها الدولية.
ومن الحصافة عدم رهن تقدم العلاقات الأردنية السورية بمسارات إقليمية ودولية، فالمصلحة الوطنية تتطلب الحرص المشترك على الروابط الجيوسياسية والمجتمعية الثنائية، ولا يمكن للدولتين انتظار تحسن المؤشرات الإقليمية والدولية للقيام بما هو ضرورة ملحة.
فالشرق الأوسط الكبير يُعاد تشكيله استجابةً لمتغيرات مثل سيطرة طالبان على أفغانستان، وتركيز الجهد الاستراتيجي الأمريكي نحو إقليم الهندي – الهادي، مما أدى إلى تراجع قيمة الشرق الأوسط في الحسابات الجيوستراتيجية الأمريكية الباحثة عن احتواء الصعود الصيني.
كما أن أولويات دول المنطقة أضحت محلية أكثر مما هي خارجية، بسبب الوضع الاقتصادي الاجتماعي المتأثر بتداعيات جائحة كورونا والداعي إلى البحث عن فرص تنموية خارج "الصندوق" المليء بالاستقطابات السياسية.
فالمنطقة بحاجة إلى مشروع بمنطق التكامل الاقتصادي، على غرار الجماعة الأوروبيَّة للفحم والصلب التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الثانية وضمّت دولاً أوروبية تهدف إلى تبادل مصالح اقتصادية دون التطرق للقضايا السياسية، إلى أن أصبحت هذه الجماعة تكتل دولي متماسك هو الاتحاد الأوروبي اليوم.
وبالمثل يمكن النظر إلى مشروع الإطار التنموي الثلاثي بين العراق والأردن ومصر، على أنه بذرة أولوية لتكامل شرق أوسطي قادر على التمدد أفقياً، بانضمام دول مثل سوريا ولبنان إليه، وعمودياً، بتوسيع مجالات التعاون الاقتصادي المحتمل إلى أبعاد سياسية وأمنية في مرحلة لاحقة.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات