ما بعد السنوار: حركة حماس أمام مفترق طرق
يضع اغتيال السنوار حركة "حماس" أمام مفترق طُرق على مختلف المستويات التنظيمية والسياسية والعسكرية، لا سيما في سياق مجريات الحرب في قطاع غزة ولبنان، ودور الحركة في اليوم التالي من الحرب، والذي قد يؤثر في تحالفاتها وعلاقاتها داخلياً وخارجياً.
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ٢٩/١٠/٢٠٢٤
يعتبر اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، يحيى السنوار، في 16 أكتوبر 2024، حدثاً مفصلياً في سياق الحرب في قطاع غزة منذ اندلاعها في 7 أكتوبر 2023، ومرحلة مفصلية في تاريخ الحركة، في ضوء ضغوط عسكرية وسياسية لم تشهدها منذ تأسيسها عام 1987. فمن جهة يُعد السنوار المخطط الرئيس لهجمات أكتوبر، ويحظى بنفوذ سياسي وعسكري واسع داخل الحركة، ومن جهة أخرى؛ يأتي اغتياله في ظل فقدان الحركة وجناحها العسكري لعدد من قادتها السياسيين والعسكريين. ما يضع الحركة أمام مفترق طُرق على مختلف المستويات التنظيمية والسياسية والعسكرية، لا سيما في سياق مجريات الحرب في قطاع غزة ولبنان، ودورها في اليوم التالي من الحرب، وقد يؤثر في تحالفات الحركة وعلاقاتها داخلياً وخارجياً.
تاريخ من اللحظات المفصلية للحركة
يعتبر اغتيال السنوار، أحد الفصول العديدة التي واجهتها الحركة منذ تأسيسها، وفي سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ ليست المرة الأولى التي يُقتل بها قائد الحركة، وقد لا تكون الأخيرة، بالنظر إلى تاريخها الذي شهد لحظات مماثلة ومشابهة، فبعد عامين من تأسيسها عام 1987، اعتقلت إسرائيل معظم قيادات الحركة والمؤسسين لها في العام 1989 من بينهم الشيخ أحمد ياسين، وهو ما أدى إلى حدوث فراغ قيادي في بنية التنظيم الهيكلية، وذلك إثر اختطاف الحركة جنديين إسرائيليين في قطاع غزة.
وفي تسعينات القرن الماضي؛ واجهت الحركة حملات إبعاد واغتيال إسرائيلية لأهم قادتها، ففي العام 1992 قامت إسرائيل بإبعاد أكثر من 400 شخص من قادة الحركة وكوادرها إلى جنوب لبنان لمدة عام كامل بعد أن قتلت الحركة جندياً إسرائيلياً وخطفت آخر. وفي العام 1993 اغتالت إسرائيل مجموعة من قادة الحركة العسكريين في الضفة الغربية وقطاع غزة، من بينهم أحد مؤسسي كتائب القسام عماد عقل، تبعها اغتيال يحيى عياش المعروف بـ "المهندس" في عام 1996، ومن ثُم اغتيل محيي الدين الشريف إلى جانب القيادي في الحركة عادل عوض الله عام 1998.
وفي فترة الانتفاضة الثانية عام 2000 وما بعدها، واجهت الحركة أوسع سلسلة من الاغتيالات التي طالت قادتها، إذ اغتالت إسرائيل جمال منصور وهو أحد القادة المؤسسين للحركة في الضفة الغربية في 2001، وفي العام ذاته اغتالت القياديين جمال سليم ومحمود أبو هنود، وفي الفترة (2002-2004)، وجهت إسرائيل ضربات قاسية ضد قادة الصف الأول للحركة في قطاع غزة من بينهم الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وإبراهيم المقادمة، ومؤسس كتائب القسام صلاح شحادة، وكذلك كبير مهندسي القسام عدنان الغول. بالإضافة إلى عدد آخر من قيادات الحركة قُتلوا في الداخل والخارج خلال الأعوام اللاحقة من بينهم وزير الداخلية في أول حكومة لحركة حماس سعيد صيام عام 2009، ونائب القائد العام لكتائب القسام أحمد الجعبري في غزة عام 2012، ومحمد الزواري الذي اغتيل في تونس في عام 2016، ومازن فقهاء أحد قادة كتائب القسام في الضفة عام 2017.
وبعد اندلاع الحرب في قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، دخلت الحركة وسط سلسلة جديدة ومُتسارعة من الاستنزاف في قادتها السياسيين والعسكريين، منذ اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي صالح العاروري مطلع يناير 2024 في بيروت، ومن ثُم اغتيال ورئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية في طهران أواخر يوليو، والإعلان الإسرائيلي عن اغتيالها القائد العسكري للحركة محمد الضيف مطلع أغسطس، بالإضافة إلى عدد من قادة الوحدات والألوية الميدانية في قطاع غزة، في مقدمتهم نائب القائد العام لكتائب القسام مروان عيسى في مارس 2024.
استثنائية اغتيال السنوار
بخلاف التاريخ السابق من خسارة الحركة عدداً من أهم قادتها، إلا أن اغتيال السنوار على وجه التحديد، يعتبر استثنائياً بالنظر إلى دوره داخل الحركة، وارتباط اسمه بهجمات أكتوبر، وفي ضوء التهديدات المحيطة بالحركة بعد عام تقريباً من تلك الهجمات.
فمن جهة، يعتبر السنوار أحد مؤسسي الخلايا الأمنية والعسكرية الأولى للحركة الإسلامية في فترة الثمانينات حتى ما قبل الإعلان رسميا عن تأسيس حركة حماس، ويحظى بنفوذ ومركزية على الجهازين السياسي والعسكري، وهناك إجماع بشأنه بين معظم تيارات الحركة خاصة تيار غزة والسجون والضفة الغربية، وكان له دور في التقارب ما بين الحركة والمحور المدعوم من إيران. وجاء استلامه لرئاسة المكتب السياسي لحركة حماس، خلفاً لإسماعيل هنية، تجسيداً لذلك الدور المركزي داخل الحركة.
من جهة أخرى؛ يعتبر الظرف والتوقيت الذي قُتل فيه استثنائياً، حيث تدخل الحرب عامها الثاني، وسط ظروف إنسانية غير مسبوقة، وفي ظل معرقلات عدة تواجه التوصل إلى اتفاق يقضي بإنهاء الحرب، وتعقيدات وتشابكات تُحيط بالمسائل الجوهرية لليوم التالي من الحرب، في مقدمتها إعادة الإعمار وترتيبات الحكم والإدارة للقطاع ما بعد حركة حماس، بالإضافة إلى "اللحظة المفصلية" التي يشهدها "محور المقاومة" المدعوم إيرانياً، لا سيما بعد سلسلة الضربات التي وجهتها إسرائيل لحزب الله اللبناني، قتلت خلالها هيكله القيادي وأمينه العام حسن نصر الله في 27 سبتمبر 2024، وخليفته المُتوقع صفي الدين هاشم الذي أعلن الحزب مقتله في 23 أكتوبر 2024، ومع بدء إسرائيل عملية عسكرية برية في لبنان، ترفع فيها من الضغوط المفروضة على الحزب والمحور بشكل عام.
وبذلك؛ من المُرجح أن يترتب عن اغتيال السنوار تداعيات عدة ومركبة، قد تطال في تأثيرها بنية حركة حماس التنظيمية، ومركزية صنع القرار داخلها، وقد تمتد آثارها على خطابها السياسي، وشبكة تحالفاتها، خاصة أن الحركة وسط حالة من الفراغ القيادي وتأثر التوازن ما بين تياراتها الأربعة (قطاع غزة، والسجون، والضفة الغربية، والخارج) والتي كان السنوار عاملاً مُعادلاً لها، وهو ما يضع الحركة أمام "مفترق طرق" قد تُحدد خياراتها القادمة الاتجاه العام الاستراتيجي للحركة ومستقبلها.
حماس أمام "مفترق طرق"
يُعقد اغتيال السنوار من الحسابات داخل حركة حماس، وفي مقدمتها الحسابات التنظيمية لقيادة الحركة وفي قُدرتها على اختيار شخصية تحظى بذات المكانة، أو تنال القبول لدى جميع تيارات الحركة، خاصة أن المرشحين لخلافته مختلفون في توجهاتهم ومواقفهم من الحرب ومفاوضات وقف إطلاق النار، وكذلك في شبكة حلفائهم. وفي حين تكاد خيارات خلافة السنوار تنحصر في خيارين، يضع نفاذ أي منهما الحركة على "مفترق طرق"، لما يترتب عن كل خيار من آثار مستقبلية على هيكل الحركة ومواقفها وتوجهاتها.
فمن جهة؛ قد تتجه الحركة نحو استحقاق انتخاب أحد قادتها رئيساً للمكتب السياسي خلفاً للسنوار، وتكاد الخيارات تنحصر بين مرشحي التيار المقرب من "محور المقاومة"؛ وفي مقدمتهم خليل الحية، وتيار آخر مُقرب من مرجعية الإخوان المسلمين؛ من أبرزهم خالد مشعل ومحمد درويش رئيس مجلس شورى الحركة. ويُسلط انتخاب رئيس المكتب السياسي لشخصية من أحد التيارين على الكيفية التي يُمكن أن تتأثر بها الحركة بتوجهات قائدها، إذ يعتبر خليل الحية على سبيل المثال، أحد قادة إقليم غزة المقيمين في الخارج، والذي كان نائباً للسنوار لتقاطع مواقفهما لا سيما تجاه الحرب والعلاقة مع "محور المقاومة" الذي تقوده إيران، وهو المسؤول عن ملف المفاوضات، ويعني انتخابه استمرار الحركة بنهجها الراهن دون تغيير يُذكر في مواقفها وتوجهاتها. فيما يمثل انتخاب خالد مشعل أو محمد درويش المقيمان في قطر، انتقالاً لمركز الثقل داخل الحركة من قطاع غزة إلى قطر وتركيا، وقد يشهد الخطاب السياسي لحماس تغيراً باتجاهات أقرب للاستعداد للتسوية السياسية، وأبعد عن خطاب المحور الإيراني الداعي للتصعيد العسكري.
وفي جميع الحالات؛ فإن القائد القادم للحركة، قد لا يتمكن من السير باستراتيجية "التوازنات الدقيقة" التي كرسها إسماعيل هنية، وقد لا يحظى بالوقت نفسه بالنفوذ الذي تمتع به السنوار على الجهازين السياسي والعسكري، ما يعني أن خيارات حماس ما بعد السنوار، قد توسع من الفجوات بين تيارات الحركة، ويحتمل أن تطفو التباينات بين تياراتها على السطح، خاصة وأن الحركة تواجه مرحلة استثنائية من عُمرها، حيث يرى التيار الأول أنه باستمرار الحرب يُمكن الحفاظ على الحركة، فيما الثاني يرى بالحلول السياسية والاندماج مع النظام السياسي الفلسطيني خياراً وجودياً، والبحث عن طرق لإعادة تأهيل الحركة في المجتمع الدولي وفق قاعدة تحولها لحركة سياسية.
وبناء على ذلك؛ فإن قُدرة رئيس المكتب السياسي القادم للحركة في عكس توجهاته ومواقفه قد تكون محدودة للغاية، فالتيار المقرب من إيران سيواجه بمواقف تيار الإخوان المسلمين ومقارباته لما بعد الحرب، خاصة بعد الضربات التي تعرضت لها الحركة، وفقدانها السيطرة على مركزها في قطاع غزة، فيما سيواجه تيار خالد مشعل ضغوطاً من الجهاز العسكري خاصة من جهة من تبقى من الشخصيات المتشددة أو ذات النفوذ العسكري في غزة، مثل محمود الزهار، ومحمد السنوار، وروحي مشتهى، وهو ما قد يضعف من صلاحيات القيادة السياسية، ويضعها أمام اختيار مصيري على المستوى التنظيمي.
أما الخيار الآخر أمام الحركة، يتمثل في تشكيل هيئة قيادية جماعية، أو قد تكون شكلته بالأساس وفقاً لما جاء في العديد المصادر المفتوحة دون إعلان أو تأكيد رسمي من الحركة حتى اللحظة. وهي خطوة تأتي لتتخطى أي خلافات أو تباينات بين أعضاء الحركة وتياراتها، وتتجنب أيضاً احتمالات اغتيال قائدها الجديد والعودة من جديد لمأزق الفراغ القيادي، وبما يضمن في الوقت نفسه من تمثيل مختلف تيارات الحركة داخلها، ويحافظ على استراتيجية "التوازنات الدقيقة"، وقد تضم كل من خليل الحية وموسى أبو مرزوق وخالد مشعل ومحمد درويش.
مع ذلك؛ وبالعودة إلى "استثنائية المرحلة"، فإن تشكيل هيئة قيادية يضع الهيكل التنظيمي للحركة أمام استحقاقات متعددة، وتساؤلات عدة؛ من بينها ما يتعلق بطرق اختيار الأعضاء وقبول استقالاتهم، وآليات التصويت واتخاذ القرارات، ونسب تمثيل مختلف التيارات، ومدى التزام الأعضاء خارجها بقراراتها لا سيما الجهاز العسكري، وحول إذا ما كانت الهيئة ستختار رئيساُ لها وناطق باسمها، وذلك يُعيدها إلى الخيار الأول بانتخاب رئيس للحركة، ففي الحالتين تواجه الإجراءات مجموعة من التعقيدات.
علاوة على ذلك؛ فإن قُدرة حماس على استدامة الاستقرار داخل الهيئة القيادية تعتبر تحدياً قائماً بحد ذاته، إذ لن تكون معرضة للاستقطاب بين أعضائها فحسب، بل بالضغوط الإقليمية من مختلف الأطراف الفاعلة والمؤثرة، سواء من قبل مصر أو تركيا أو قطر، أو من إيران ومختلف أطراف "محور المقاومة"، وتلك الضغوط قد تُمارس تجاه القضايا الجوهرية مثل مفاوضات وقف إطلاق النار، وتجاه القضايا الأقل أهمية مثل بيانات الحركة وغير ذلك.
وأخيراً؛ تمر الحركة بفترة مرتفعة الحساسية، خاصة بعد فقدانها ثلاثة من أبرز قادتها، منذ اغتيال صالح العاروري في بيروت ومروراً باغتيال إسماعيل هنية في طهران، ووصولاً إلى اغتيال يحيى السنوار في قطاع غزة، ومن المتوقع أن تشهد الحركة انتقالاً في مركز قرارها من قطاع غزة إلى الخارج، وقد تكتسب التيارات المتباينة مكانتها بحسب مجريات الحرب، فكلما تزايدت الضغوط على الحركة وجناحها العسكري، قد تتجه مركزية الحركة نحو التيار المقرب من الإخوان المسلمين، ليصبح مسؤولاً عن تيارات الضفة الغربية وقطاع غزة خاصة في الخارج، فما تشهده من ظروف شبيه إلى حد كبير بالضربة التي تلقتها عام 1989، والتي اضطرت على إثرها حركة حماس نقل مركز القيادة الى الخارج وتشكيل أول مكتب سياسي برئاسة موسى أبو مرزوق في العام 1990.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات