كيف يمكن قراءة هجمات كروكوس؟

تقدير موقف يتناول الهجمات التي استهدفت قاعة كروكوس للحفلات في روسيا، وما رافقها من جدل حول الجهة التي تقف خلف الهجمات، ما بين اتهامات روسيا للغرب وتبني تنظيم "داعش" لها.

الكاتب حازم سالم الضمور
  • تاريخ النشر – ٠٣‏/٠٤‏/٢٠٢٤

تفيد إحدى أهم القواعد الاستخبارتية بأنه "لا يوجد شيء اسمه جهاز استخبارات صديق"، ربما يكون هناك شراكة في بعض الملفات أو تحالف لجمع المعلومات، لكن التشاركية تحكمها التنافسية؛ ولأن المناطق الفاصلة بين الصراع على المستوى المحلي والعالمي أصبحت أكثر رمادية، تسود حالة عدم اليقين بشأن كثير من الأحداث الأمنية في العالم، لا سيما وأن نشاط الفواعل ما دون الدولة أصبح واضحاً ومؤثراً، إضافة إلى وجود علامة تجارية جاهزة لتبني أي حادث إرهابي عالمي أو محلي.

في 22 مارس 2024 شهدت ضاحية كراسنوغورسك شمالي غربي موسكو، هجوماً إرهابياً، استهدف قاعة كروكوس للحفلات الموسيقية، حيث أطلق مسلحون النار على مئات الحاضرين لحفل موسيقي، أعقبه إشعال النار في القاعة أثناء تواجد المدنيين، ما أدى إلى وقوع أكثر من 140 قتيلاً ومئات الجرحى.

وبالرغم من أن التاريخ الروسي شاهد على هجمات مُسلحة خلفت مئات القتلى، إلا أن هذا الهجوم الأخير يتزامن مع متغيرات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والتي تحولت فيما بعد من "عملية عسكرية محدودة" إلى إعلان البلاد أنها في "حالة حرب".

لماذا يتم استهداف روسيا بحوادث كبيرة؟

منذ أحداث 11 سبتمبر أعادت الولايات المتحدة ضبط مفاهيم مكافحة الإرهاب لديها، وحسّنت طرق وآليات تبادل المعلومات بين الوكالات الحكومية وأجهزة إنفاذ القانون، وذهبت لأبعد من ذلك، من خلال مزاعمها حول قدرتها على تحييد كل التهديدات التي تواجه الأمن القومي الأمريكي حول العالم، لذلك ذهبت إلى أفغانستان بحجة القضاء على تنظيم القاعدة وشركاءه وغزت العراق بحجة مزاعم الأسلحة المحظورة دولياً، ولكن ذلك لم يمنع من مهاجمة الولايات المتحدة، إلا أن نوعية العمليات أصبحت أقل جودة من معايير 11 سبتمبر.

في المقابل ما زالت موسكو تتعامل مع مكافحة الإرهاب ومعلومات الهجمات بمركزية أكثر، ولا تشارك معلوماتها في كثير من الأحيان، ولكن اللافت أنها بين فترة وأخرى تتعرض لهجمات نوعية تخلف وراءها عدداً كبيراً من الضحايا، ففي 31 أكتوبر 2015 أعلن عن تحطم طائرة ركاب مدنية، تابعة لشركة كوغاليمافيا الروسية في أجواء شبه جزيرة سيناء، كانت متجهة لمطار سان بطروسبيرغ في روسيا، ولقي جميع الركاب الـ224 حتفهم؛ ليعلن تنظيم داعش الإرهابي فرع سيناء مسؤوليته عن الحادث. 

كيف-يمكن-قراءة-هجمات-كروكوس-in-1.jpg

وبالرجوع إلى هجوم كروكوس تضاربت الأنباء عن الجهة المنفذة حيث أرجع البيان الصادر عن الماكينة الإعلامية للتنظيم الإرهابي "داعش" مسؤولية فرعه في روسيا، الذي لم يحدده التنظيم على هذا النحو من قبل، إذ كانت الهجمات السابقة نُسبت إلى تنظيم داعش في القوقاز، في إشارة إلى منطقة أوسع تشمل جزءًا من جنوب روسيا، ودول أخرى مثل أرمينيا وأذربيجان وجورجيا. على الرغم من ذلك هناك ترجيحات عدة أن تنظيم "داعش" خرسان، هو المسؤول الفعلي عن التخطيط والتنفيذ للهجمات. وذلك كله يعني أن العلامة التجارية للإرهاب العالمي تعود إلى استخدام استراتيجية "بقعة الحبر"، والتي تتلخص في إعلان التنظيم الإرهابي عن ولايات متعددة تقوم كل منها في دور محدد ومن ثم يمكن توحيد هذه الجهود تحت اسم واحد. وهذا يقودنا إلى سؤال؛ هل يريد تنظيم "داعش" العودة إلى المسرح العالمي عبر بوابة موسكو التي تخوض حرباً مع الغرب حول النفوذ والقوة والهيمنة؟ 

إن أكثر ما يلفت الانتباه في هجوم موسكو الأخير وعلى خلاف عمليات تنظيم "داعش" الإرهابي، التي غالباً ما يشتبك المهاجمون مع قوات الأمن ويحاولوا قتل أكبر عدد منهم إلى أن يتم تحييدهم وقتلهم؛ كما حدث في باريس وبلجيكا والولايات المتحدة،  أن المنفذين الأربعة لهجوم موسكو خططوا للفرار، ومن ثم تم اعتقالهم في مقاطعة بريانسك الحدودية مع أوكرانيا، وهذا يثير عدد من الأسئلة حول التكتيكات أو تعليمات المُشغل أو حقيقة أن "داعش" هي من خططت ومولت العملية.

بالإضافة إلى كشف الهجوم عن طرق جديدة للتنظيم لتجنيد المقاتلين، كما أظهرت في التحقيقات الروسية التي تم الكشف عنها، حول اعتراف أحد المنفذين أنه جُنّد مقابل المال، وتكمن خطورة ذلك أن المنطقة تشهد تواجداً كبيراً لمجندين ومرتزقة يتبعون شركات أمنية وفيالق عسكرية ومساجين معفى عنهم؛ ينشطون في جبهات القتال بين الجيشين الروسي والأوكراني، ومن المحتمل أن مثل هؤلاء سيكونون هدف للتجنيد، وقد يكون الدافع المادي مدخلاً لفهم سعي المنفذين للهروب أحياء من موقع الهجوم، وذلك لعدم توفر العقيدة القتالية والأيديولوجية التي كانت عند منتسبي التنظيم في فترة صعوده بعد العام 2014، والتي شكلت حينذاك الأساس لهجمات الذئاب المنفردة حول العالم.

من جهة أخرى؛ تُشير جوازات السفر الطاجيكية التي وجدت مع المنفذين، أن لتنظيم داعش خرسان علاقة مباشرة في الهجوم، بوصفه اتجاه للتنظيم لتعزيز صفوفه بين الطاجيك، الذين ينحدر منهم زعيم التنظيم ثناء الله غفاري، ذو الأصول الأفغانية الطاجيكية، إلى جانب دلالته على أن التنظيم لا يجد الترحيب في صفوف البشتون الأفغان الموالين لطالبان، ما قد يعني أن التنظيم يحاول إعادة تنظيم صفوفه في أفغانستان نحو الأطراف والأقليات وبعيداً عن المركز والأكثرية البشتونية.

كيف-يمكن-قراءة-هجمات-كروكوس-in-3.jpg

روسيا ومعضلة الخواصر الرخوة

لا يعتبر تعرض روسيا لهجوم مسلح أمراً استثنائيا، إذ وبالرغم من السلوك المستجد لمنفذي هجمات مسرح كروكس إلا أنه وعلى مدار العقود السابقة، شهدت الأراضي الروسية العديد من الهجمات المسلحة والإرهابية، وشكلت المنشآت الطبية والتعليمية والثقافية مواقع رئيسية لتلك الهجمات، بوصفها مناطق رخوة أمنياً في روسيا، من بينها على سبيل المثال اقتحام مسلحين شيشان مستشفى في مدينة بوديونوفسك عام 1995، ما أدى إلى مقتل أكثر من 100 شخص، وفي العام 1999 قُتل حوالي 300 شخص بعد تفجير مبان سكنية في مدن موسكو وبويناكسك وفولجودونسك، وفي 2002 اقتحم المسلحون الشيشان مسرح دوبروفكا في موسكو في عملية أدت الى مقتل نحو 40 مهاجماً، و129 رهينة، وفي عام 2004 هاجم مسلحين مدرسة في بيسلان بمقاطعة أوسيتيا الشمالية، واحتجاز الأطفال والمعلمين وأولياء الأمور كرهائن، وهي العملية التي أدت إلى مقتل أكثر من 300 شخص، أكثر من نصفهم من الأطفال. بالإضافة إلى هجمات أخرى استهدفت خطوط السكك الحديدية ومترو الأنفاق في موسكو، ومطار دوموديدوفو بموسكو.

في الواقع؛ وبالرغم من اختلاف المنفذين بين الهجمات السابقة والهجوم الأخير، إلا أن هناك تقاطعات عدة بين أغلب الهجمات التي عانت منها روسيا، من حيث:

1- غالباً ما يتم التنفيذ عبر مجموعة من المسلحين، التي تعتمد على احتجاز الرهائن أو إطلاق النار العشوائي.

2- تبتعد الجهات المنفذة عن الهجمات على المنشآت الرسمية أو الأمنية وتُركز على المنشآت المدنية عالية الكثافة.

3- تهدف الهجمات ضد روسيا إلى إيقاع أكبر قدر ممكن من الضحايا بين المدنيين.

4- غالباً ما يسعى المنفذين إلى تدمير مواقع الهجمات إما بالتفجير أو الحرق أو غير ذلك، وفي الهجوم الأخير أشعل المنفذين حريقاً في قاعة كروكس سيتي ما تسبب انهيار سقف المسرح.

دلالة توقيت الهجوم

سبق الهجوم مؤشرات عدة جعلت من توقعه مسألة وقت، ومن تلك المؤشرات:

1- أن هناك تصاعد ملحوظ في الهجمات التي ينفذها تنظيم داعش خرسان خاصة في منطقة آسيا الوسطى، بعد أن شهدت انخفاضاً منذ العام 2018.

2- يركز "داعش خرسان" في هجماته على مصالح الدول الشرقية أكثر من تركيزه على المصالح الغربية، وهو يستهدف بشكل أساسي كل من الصين وروسيا وإيران، ففي العام 2022، تبنى التنظيم هجوماً على فندقاً يقطنه صينيون بالعاصمة الأفغانية، وفي العام نفسه نفذ التنظيم تفجيراً في السفارة الروسية في كابول ما أدى إلى سقوط ضحاياً، وفي سبتمبر (أيلول) 2022، أعلن مسلحو التنظيم مسؤوليتهم عن تفجير انتحاري تسبب في سقوط قتلى بالسفارة الروسية في كابل، كما نفذ التنظيم هجوماً مزدوجاً في 3 يناير 2024، أثناء الذكرى السنوية لمقتل قاسم سليماني في مدينة كرمان الإيرانية.

كيف-يمكن-قراءة-هجمات-كروكوس-in-2.jpg

3- تصاعد الاشتباك المباشر مع روسيا وتنظيم داعش، بعد الدعم الذي قدمته موسكو إلى دول الساحل الأفريقي، والذي أدى مؤخراً إلى تقليص مساحات التنظيم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو.

4- تصطدم مصالح داعش خراسان في قلب معقله الرئيسي داخل أفغانستان مع مساعي الروس والإيرانيين والصينيين لإقامة علاقات جيدة مع حركة طالبان الأفغانية.

5- أحبطت روسيا في 7 مارس 2024، عملية كان تنظيم داعش يخطط لتنفيذهما في روسيا، ضد أحد المعابد اليهودية في موسكو.

6- في 3 مارس 2024، أعلنت اللجنة الوطنية الروسية لمكافحة الإرهاب عن قتل 6 من أعضاء تنظيم داعش في مواجهة مسلحة بمدينة كارابولاك في جمهورية "إنجوشيتيا".

تنظيم داعش منفذ أم واجهة؟

لعل الأمر الأكثر أهمية في الهجوم؛ أنه وبالرغم من إعلان تنظيم "داعش" مسؤوليته عن الهجمات، لا يزال كبار المسؤولين الروس مصرين على اتهام أوكرانيا وبعض دول الغرب بالتورط بشكل مباشر في الهجوم، من بينهم ألكسندر بورتنيكوف رئيس جهاز الأمن الفيدرالي، وهو أقوى مؤسسة أمنية في روسيا، الذي يُشير إلى تورط أوكرانيا والولايات المتحدة وبريطانيا، وإشارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 23 مارس بأن منفذو الهجمات تم اعتقالهم وهم يحاولون الفرار نحو أوكرانيا؛ حيث "كانت لديهم نافذة عبور للحدود"، وفي الواقع ينطلق أصحاب هذا الرأي من عدة مؤشرات أهمها:

1- أن الجهات الأكثر استفادة بشكل مباشر من الهجوم هي الولايات المتحدة والدول الأوروبية الأكثر تضرراً من الحرب الأوكرانية خاصة بعد التقدم الميداني للجيش الروسي وسيطرته على مدينة أفدييفكا الاستراتيجية.

2- أن تنظيم داعش أداة استخباراتية غربية متقدمة أثبتت فاعليتها، وجاهزيتها للاستخدام وقت الحاجة، وهو ما بدأ بالظهور بعد السابع من أكتوبر 2023، وبعد سنوات طويلة من سبات ذلك التنظيم، حيث عاد إلى واجهة الأحداث من خلال تنفيذ هجمات إرهابية في النيجر، وإيران، وتركيا، ومالي، وسوريا.

3-مسارعة الولايات المتحدة الأمريكية إلى تبرئة أوكرانيا من المسؤولية، وتحميل تنظيم "داعش" تلك المسؤولية بمفرده جزء من سياسة توظيف اسم ذلك التنظيم.

4- أن الهجوم جاء لتعقيد وتضخيم التحديات الأمنية في روسيا، خاصة وأنه تزامن مع فوز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالانتخابات، والأهمية التي يلعبها الأمن والاستقرار في البلاد في دعم شعبية بوتين، بالإضافة إلى تقويض محاولات روسيا تحييد الداخل عن أجواء ومجريات الحرب في أوكرانيا.

5- يتخذ مؤيدو هذا الرأي من تحذير للسفارة الأمريكية في روسيا مطلع مارس بشأن احتمال وقوع هجوم إرهابي في الأماكن المزدحمة من المدن الكبرى الروسية، دليلاً على ضلوع الولايات المتحدة في الهجوم.

 

مع ذلك؛ فإن هناك معطيات ومؤشرات أخرى، تتعارض مع الاتهامات الروسية للأوكرانيا والغرب، ومن بينها:

1- إن المصالح الغربية تقاطعت مع أهداف تنظيم داعش، خاصة في السياقين السياسي والعسكري، وأن هذا التقاطع ليس مؤشراً على التعاون بقدر ما يُشير إلى تعقد التشابكات بين الفاعلين المختلفين.

2- من غير الوارد عودة التحالف الغربي مع "السلفية الجهادية"، بعد تجربة دعم المجاهدين العرب في أفغانستان في تسعينات القرن الماضي ضد الاتحاد السوفييتي، بالرغم من أن ذلك كان يصب في مصلحة الغرب، إلا أن مخاطرها ارتدت عليه لاحقاُ.

3- أن تحذير السفارة الأمريكية يعبر عن مستوى متقدم لوكالات الأمن القومي الأمريكي في الوصول إلى المعلومات عن أنشطة تنظيم داعش، إما عبر التنصت أو الخوارزميات، ولا يعني بالضرورة أن هناك علاقة تعاونية بين الطرفين خاصة أن واشنطن حذرت مسبقاً أجهزة إنفاذ القانون الروسية من هجمات إرهابية وشيكة، وكانت سابقاً قد حذرت إيران سراً من هجوم داعش الذي وقع في 3 يناير 2024.

ماذا بعد الهجوم؟

يُشير الهجوم أن تنظيم داعش خرسان، يحاول العودة للظهور على نطاق عالمي، وإحياء "الجهاد المعولم" الذي شكل أساس "السلفية العالمية"، خاصة في ظل ضعف تنظيم القاعدة، وباقي فروع تنظيم داعش، وقصورهم عن تنفيذ هجمات دامية على مستوى العالم، ولذلك جاء هجوم داعش خرسان في روسيا دموياً وعنيفاً للغاية، وهو ما يعني أن التنظيم رُبما يُعد لهجمات أخرى ليس في روسيا فحسب، بل في أوروبا والولايات المتحدة، وقياساً على اختلاف أدوات التنظيم في تجنيد المقاتلين من العناصر الأيديولوجية إلى المرتزقة الأكثر احترافاً وخبرة وتدريباً، من المرجح ألا تقل الهجمات المحتملة القادمة دموية وتأثير عنها في هجمات كروكوس.

*يُعبر هذا المحتوى عن وجهة نظر كاتبه، ولا يتحمل معهد ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبه بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا يعكس المحتوى بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المعهد.

حازم سالم الضمور

مدير عام المركز/ باحث متخصص في العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية‎