سوريا الجديدة.. وموعد مع التاريخ آن أوانه
على السوريين أن يدركوا حجم الصعوبات والتحديات التي سيواجهونها، وأن يعوا حجم المخاطر التي تتهددهم، ذلك لأن آثار طول عهد الاستبداد لا يمكن أن تزول بين يوم وليلة، كما أن بناء الأوطان لا يمكن أن ينجح بالتمني والصدق في النوايا فحسب، بل لا بد من التخطيط السليم والمدروس، ومدّ اليد للجميع لضمان توحيد الجهود وتعظيم نتائجها.
الكاتب حسن إسميك
- تاريخ النشر – ٣٠/١٢/٢٠٢٤
أتابع اليوم، وعن كثب شديد، المشهد السوري بكافة تفاصيله وبقدر ما أستطيع من التركيز والإلمام بأصغر الأمور كما بأكبرها، مثل الصور التي تأتي من هناك حيث دمشق وحلب وباقي المناطق، كذلك أقرأ ما يكتبه السوريون على مواقع التواصل، وأستمع إلى رسائل الأصدقاء وهم ينقلون لي ما يعايشونه مقروناً بمشاعرهم المختلطة بين الفرح العارم والأمل الكبير والحذر الواجب والخوف من المجهول. وأتابع من جهة أخرى أخبار السياسة وهي تنقل وقائع زيارات وفود شتى إلى دمشق بعد قطيعة دامت قرابة عقد ونصف، واثقاً أن هذه الزيارات وما يصدر حولها، بالإضافة لأعمال الحكومة الحالية والإدارة الجديدة، هي الأسس التي ستبنى عليها اللبنات الأولى في الدولة الجديدة.
في سياق آخر.. أراقب نشاط المجتمع السوري وقد استأنف فاعليته السياسية بعد قطيعة ستين عاماً، ولا تقلقني كثرة المبادرات السياسية الداخلية وبيانات تأسيس المبادرات والحركات، أو دعوات التجمع والتعبير عن الرأي ومحاولة المشاركة في صياغة شكل الدولة التي يطمح السوريون إليها، فالأغلبية تريدها ديموقراطية، والبعض ينادي بالمدنية أو العلمانية، والبعض الآخر ضد هذا المطلب ويراه متسرعاً قليلاً قبل أن تُنجز المرحلة الانتقالية ويتوافق الجميع على دستور جديد.. لا يقلقني ذلك أبداً! فالسوريون وأنا بهم خبير ومنهم قريب، كانوا وما زالوا دائماً أصحاب أكثر المجتمعات العربية تنوعاً على صعيد الإثنيات والأعراق والثقافات والمعتقدات، ومن الطبيعي أن تتنوع مطالبهم ومشاربهم ورؤاهم المستقبلية ووجهات نظرهم في كل شيء، أما إذا اتفقوا في كل ذلك فهذا هو الأمر المقلق لأنه لن يكون طبيعياً ولن يعكس حقيقة الشخصية السورية التي تنفض اليوم عن كاهلها طبقات شتى من الغبار المظلم والكثيف الذي راكمه استبداد الستة عقود وحرب العقد الأخير.
الحدث السوري اليوم حالة شديدة التكثيف والخصوصية، لا ينبغي أن يقف المراقبون عليها كما وقفوا على ما سبقها في بعض الدول لعربية من الاضطرابات السياسية وتبدل الأنظمة وتغير أشكال الحكم، ولا بد أن ينطلق فهمنا اليوم لسوريا الجديدة من أنها كانت منذ فترة قريبة المعقل الأخير لشكل النظام الاستبدادي الشمولي الذي كان يجمع بين شدة القمع وتجذر الفساد وهيمنة الأيديولوجيا المقيتة والموهومة، وزوال هذا الاستبداد اليوم عن سوريا يعني خروجه من آخر معاقله العربية، هذا ما ينبغي أن يكون، وهذا ما نتمنى أن ينجح السوريون في طي صفحته للأبد.. للأبد الحقيقي و المنطقي والعادل، لا للأبد الذي كان يتوهمه النظام.
أغلب السوريين اليوم، وبحسب ما أرى وأسمع منهم، ليسوا معنيين بالوصول إلى الحكم أو السلطة، بل يبدون في الحقيقة شديدي التسامح وغير متحفظين على ما ينبغي أن تكون عليه السلطة الجديدة، إلا في الخطوط العامة التي تضمن لهم الحرية والعدالة وتكافؤ الفرص، ذلك لأنهم معنيون في الدرجة الأولى بالعمل من أجل استعادة بلادهم كاملة غير منقوصة، وإعادة بناء ما دمّره الاستبداد على صعيد المجتمع والثقافة والاقتصاد والعلم والحضارة. أما التضحيات السابقة التي قدموها جميعهم، من كل فئات الشعب ومكوناته وأديانه ومذاهبه دون استثناء فهي خلاصة الدرس الذي ينبغي أن يستفيد منه السوري، والذي مفاده أن الاستبداد هو أعظم الشرور وأخطرها، وأن الأثمان التي تُدفع من أجل الخلاص منه تبقى مستحقة مهما بلغت كلفتها. ومع أن جزءاً كبيراً من السوريين ليسوا مشغولين بالسعي إلى الحكم اليوم، لكنهم أصبحوا مدركين تماماً أهمية شكل النظام السياسي الذي يجب أن يدير شؤون بلادهم، وعازمون على أن لا عودة للماضي مهما كلفهم الأمر، فالاستبداد الذي كان جاثماً على صدورهم لم يكن مشكلة عامة فحسب، بل كان مشكلة تخص كل فرد منهم، وسبباً رئيساً في حبسه أو موته أو ظلمه، أو التضييق عليه في رزقه وأمنه وكرامته.
عشية سقوط النظام.. وباتصالي المباشر مع السوريين ومن كل المشارب، لاحظت منذ اليوم الأول حالة لم أكن أعهدها فيهم من قبل، إذ ومع أن انتظار هذا السقوط ترافق لدى أغلبهم طيلة سنوات الثورة مع حالة خوف شديد مما يمكن أن تؤول إليه الأمور، ومن التهديد بالاقتتال الأهلي والدمار الشامل، إلا أن فرحهم كان أكبر بكثير من هذا الخوف، ثم تعزز هذا الفرح أكثر حين تتالت الأحداث بسهولة ويسر مدهشين، وفي غضون مرحلة انتقالية من الفوضى للاستقرار قصيرة جداً، حتى قُضي الأمر بلا خسائر تذكر، وآمن الجميع أن عناية إلهية حمت البلاد وأهلها من نار العنف والاقتتال.
ورغم ما كان يعم البلاد من نقص في كل شيء، ومن تدهور في الخدمات الأساسية ومقومات الحياة، ومن شح في الموارد والأعمال في ظل العقوبات التي تسبب بها النظام المستبد، كانت شدة الفرح بادية في الأصوات والوجوه، وقد وصف لي أحد الأصدقاء هذا المشهد قائلاً: (أقسم لك أننا نشعر وكأن الهواء من حولنا قد تبدل، فأصبح أكثر نقاء وصحة، وأن عيوننا قد استعادت بصرها من جديد فأصبحنا نرى الألوان والأشياء على حقيقتها، جميلة ومحببة كأننا لم نكن نراها من قبل). علمت حينها أن البلاد لم تتغير بين عشية وضحاها، إنما الذي تغير هو العقول التي انكسر عنها قيد المستبد، والنفوس التي انزاح عنها ثقله الجاثم فوق القلوب.
توقفت بعد ذلك طويلاً عند العبارة التي حفظها السوريون عن ظهر قلب، وأصبحوا يرددونها في منازلهم وشوارعهم، ويضعونها نغمة على هواتفهم المحمولة، وهي العبارة التي قالها المذيع على إحدى المحطات الفضائية: (الساعة الآن السادسة وثمانية عشر دقيقة.. سوريا بلا بشار الأسد) إذ لقد لا مست هذه العبارة وجدان كل سوري، فبعد اقتران اسم سوريا بالأسد طيلة أربعة عقود، رقصت قلوب الجميع فرحاً حين استعادوا وطنهم، لتعود سوريا لهم جميعاً بعدما احتكرها فرد واحد وألصقها باسمه.
مرة أخرى وعلى صعيد شخصي، يسرني كثيراً ويشرفني في الحقيقة أن أشارك السوريين فرحتهم الكبرى، ويعلم المقربون مني بأن رباطاً وثيقاً يربط بيني وبين هذه البلد وأهلها وأرضها، ليس على صعيد العمل فحسب وهذا أقل ما يكون، بل وعلى صعد عدة فيها الصداقة والقربى والاهتمام والمحبة، وأنا شديد التفاؤل بأن السوريين قد طووا الفصل الأخير من فصول الاستبداد الشمولي والمؤسس في منطقتنا، وإيماناً بأهمية عقد القول مع العمل، فأنا في انتظار لأن تبدأ سوريا مرحلة التعافي لأضع كل ما يمكنني وضعه من الإمكانات في سبيل إعادة البناء، وفي كافة المجالات؛ الاقتصادية والفكرية والخيرية، وأنا مؤمن جداً أن سوريا لا تستحق العناية من أهلها فحسب، بل ومن محيطها العربي الشقيق والعالم أجمع، إذ لقد كان السوريون، ورغم ما حاق بهم من ظلم واستبداد، ذوي فضل في أغلب بقاع الأرض، وبرزت آثارهم في العلم والفن والثقافة في أماكن شتى، غير أن بلادهم وهي الأولى بهم، كانت الأكثر تضرراً بغيابهم عنها وحرمانها منهم، وقد آن الأوان لتستعيد أبناءها ويستعدوا دورهم الضروري لولادتها الجديدة.
نعم.. المشهد السوري اليوم مخاض عظيم لولادة جديدة، والسوريون مدعوون جميعاً، دون استثناء أو إقصاء أو تمييز، لبناء وطنهم للمرة الأولى، ذلك لأن غالبيتهم قد بلغ أشده بعد عام 1963، وهو العام الذي أُسرت فيه سوريا وارتهن قرار أهلها بفئة ضيقة صادرت حريتهم وعطّلت إرادتهم وحرمتهم حق المواطنة. لذلك وحفظاً للتضحيات التي بُذلت عبر السنوات، وتقديراً لقيمة الدماء التي سالت لأجل الوطن، يجب أن لا يستنكف أي فرد عن المشاركة في بناء الوطن، وأن يعزم الجميع على المضي قدماً فيه، وألا يسمحوا لأحد أن يعيد الماضي مرة أخرى، حتى لو كلفهم الأمر تضحيات جديدة ودماء جديدة لا سمح الله.
على السوريين أيضاً أن يدركوا إلى جانب ذلك حجم الصعوبات والتحديات التي سيواجهونها، وأن يعوا حجم المخاطر التي تتهددهم، ذلك لأن آثار طول عهد الاستبداد لا يمكن أن تزول بين يوم وليلة، كما أن بناء الأوطان لا يمكن أن ينجح بالتمني والصدق في النوايا فحسب، بل لا بد من التخطيط السليم والمدروس، ومدّ اليد للجميع لضمان توحيد الجهود وتعظيم نتائجها. والفرصة أمام السوريين عظيمة وتاريخية لن تتكرر في سياق الزمن المنظور، فهم اليوم يبدأون من جديد ونقطة صفرية حقيقية، وغالباً ما تكون ثمار التأسيس من نقطة الصفر وبناء منظومة جديدة أفضل بكثير من إصلاح منظومة سابقة، تماماً كما أن الرقع في الثوب القديم لا يضاهي استبداله بثوب جديد.
أخيراً.. آمل أن يصب السوريون جهدهم الرئيس في المرحلة الحالية على صياغة دستور عادل ومتسامح ومنفتح، ليستطيعوا أن يضعوا بناء عليه منظومة قوانين عصرية ومرنة تضمن لهم حفظ الحقوق وحماية الحريات وتعزيز القدرات وجذب كل ما يخدم المصلحة العامة للبلاد، وأن يعززوا في إثر ذلك قيم التشاركية والإنصاف والإبداع والحرية والعدالة، فتصبح سوريا نموذجاً يُحتذى بعدما كان حالها مظلماً وأسود يخشاه الجميع.
حسن إسميك
رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS