الاقتصاد الأمريكي تحت ضغط التنافس السياسي والأزمة الصحية
يشهد الاقتصاد الأمريكي حالة من عدم الاستقرار الشديد الذي فرضته جائحة "كورونا"، مما أثّر على حظوظ الرئيس، دونالد ترامب، بالنسبة للفوز بالسباق الرئاسي المنتظر. تستعرض هذه المادة إيجازاً عن المسار الاقتصادي خلال سنوات حكم ترامب، وتبين أبرز جوانب النقد التي تعرض لها هذا المسار قبل وبعد تفشي فيروس "كورونا" المستجد.
الكاتب ستراتيجيكس
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ٢٦/١٠/٢٠٢٠
* هذه هي المادة الثالثة من ضمن سلسلة مقالات وأوراق يتم نشرها تباعاً، تناقش جوانب معينة من الأبعاد الداخلية والخارجية للانتخابات الأمريكية المقبلة.
لطالما كان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، يصرح في المؤتمرات الصحفية وغيرها من المناسبات والفعاليات السياسية أن إدارته عملت على إعادة بناء الاقتصاد بتحسين النمو الاقتصادي وتعزيز مؤشراته بشكل كبير، وتقوية موقع الولايات المتحدة اقتصادياً في البيئة الدولية، مع العلم أن الإجراءات التي جرى اتخاذها للتعامل مع الاقتصاد لا تزال محط جدال ليس فقط بين المتنافسين على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، وإنما أيضاً بين أقطاب المجتمع الدولي من دول ومنظمات وهيئات معنية.
ويتوجب على من هو بصدد التعرف على آلية تعامل إدارة ترامب مع الملف الاقتصادي خلال السنوات الأربع الأخيرة، الرجوع والاطلاع على حال الاقتصاد الأمريكي ما قبل تفشي فيروس "كورونا" المستجد، الذي أدخل العالم في تحديات اقتصادية وصحية جديدة، ومقارنته مع الوضع الحالي الذي يشهد حالة من اللايقين تجاه موعد انحسار الوباء وما يترتب على ذلك من انفراجة محتملة للواقع الاقتصادي.
استقرار حذر
أورد موقع businessinsider في يناير 2020 مقارنة لحالة الاقتصاد الأمريكي في عهد كل من: ترامب وأوباما وبوش الابن، وتشير المادة المنشورة إلى أن ترامب لم يستلم الاقتصاد بحالة سيئة من الأساس عند دخوله البيت الأبيض عام 2017، وذلك يرجع في أحد أسبابه إلى الخطة التحفيزية التي طبقتها إدارة أوباما في أعقاب الأزمة المالية العالمية التي أدت إلى انكماش الاقتصاد الأمريكي بواقع 2.5%، وبالتالي يمكن النظر إلى المؤشرات الاقتصادية الإيجابية التي حققها ترامب في السنوات الثلاث الأولى كاستمرار للاستقرار الاقتصادي الذي خلفته إدارة أوباما.
وقد وصلت معدلات البطالة ذروتها إبان الأزمة المالية، بفقدان 8.7 مليون وظيفة في الفترة الممتدة ما بين 2007-2010، لتصل النسبة إلى 10.2% في أكتوبر 2009 (أي في نهاية عهد بوش الابن)، وذلك قبل أن تنخفض بشكل خطي - إلى حد ما - بعد عام 2011، وبحسب الموقع فإن نمو الوظائف في عهد ترامب كان مشابهاً لمثيله في عهد أوباما، ووصلت نسبة البطالة في الولايات المتحدة إلى 3.5% في أكتوبر 2019 - نسبة لما يشهده الاقتصاد الأمريكي منذ نصف قرن - إلا أن الأجور في عهد ترامب نمت بواقع 3% وهذا يمكن أن يكون مرده إلى التخفيضات الضريبية التي أوصت بها إدارة ترامب تجاه المؤسسات والشركات الأمريكية.
أما بالنسبة لأسواق الأسهم، فتشير إحصائيات الموقع المذكور أن مؤشر "S&P 500" الذي يقيس أداء أكبر 500 شركة مدرجة في البورصات الأمريكية، قد شهد تأرجحاً في عهد ترامب مقارنة مع أدائه في فترة أوباما وحتى في عهد بوش - باستثناء فترة الأزمة المالية 2008-2009 وسبب ذلك هو المشهد الضبابي الذي خلقته السياسة التجارية للإدارة الأمريكية، ويمكن تعميم هذا المشهد على مجمل أداء الأسواق المالية خلال ولاية ترامب.
وفي التقرير الذي أصدره مجلس الاستشاريين الاقتصاديين "CEA" المنشور عبر الموقع الإلكتروني للبيت الأبيض في 20 فبراير 2020، تمت الإشارة إلى أنه على الرغم من "الرياح المعاكسة القوية" التي أثرت على الاقتصاديات العالمية بشكل سلبي، فقد أدت الإدارة الأمريكية المرنة للاقتصاد إلى نمو العديد من المؤشرات التي من ضمنها الإنفاق الاستهلاكي والإنتاجية ونصيب العمالة من الدخل الوطني.
ويبين التقرير أن نمو الإنتاج في مجال الطاقة (النفط والغاز الصخري)، وفّر على الأسرة الأمريكية المتوسطة ما يقدر بـ 2500 دولار سنوياً، وهذا لم يكن ليتم لولا إلغاء خطة الطاقة النظيفة، وفي نقطة أخرى موجهة ضد إدارة أوباما التي أقرت قانون الرعاية الصحية المعروف بـ Obamacare""، يذكر التقرير أن "الاختيار والمنافسة" هي المبادئ الناظمة لتعزيز النظام الصحي الأمريكي على اعتبار أن المنافسية هي التي تقود نمو الاقتصاد بشكل عام.
وفي نهاية العرض، توقع التقرير أن ينمو الاقتصاد الأمريكي بمعدل 3.1% في الأرباع الأربعة من عام 2020، وبوتيرة سنوية تصل إلى 2.9% في الفترة الممتدة ما بين عامي (2019 – 2030) إذا ما استمر التعامل بنفس الأجندة السياسية والاقتصادية الحالية.
ويظهر بجلاء أن هناك جدلاً متصاعداً حول مدى نجاعة تعامل إدارة ترامب مع الملفات الاقتصادية وما يرتبط بهذا التعامل من نتائج يلمسها الأمريكيون بشكل يومي، إلا أن هناك بعض المؤشرات التي لا تنسجم مع تصريحات وتوجهات ترامب لتعزيز دور الصناعة الأمريكية، فعلى سبيل المثال تراجع مؤشر التوريد الصناعي إلى مستوى وُصف بالخطير في أغسطس 2019، ما كان يهدد بحدوث ركود بحسب رئيس لجنة المسح التجاري في معهد إدارة التوريد الصناعي، تيم فيور، الذي أشار أيضاً إلى أن قطاع الصناعات التحويلية قد انكمش للمرة الأولى منذ عام 2016، حيث ازدادت نسبة الطلبيات غير المنفذة بواقع 0.1% بالمقارنة مع يوليو 2019.
وفي نفس الفترة، انخفض عدد عاملي قطاع الصناعة في ولايات (ويسكونسن، ميشيغان، كارولاينا الشمالية، وبنسلفانيا) ليخرج بعدها حاكم ولاية لويزيانا، جون بيل إدواردز، المنتمي إلى الحزب الديمقراطي، ليعزي سبب تراجع الطلب الصناعي في الولايات المتحدة إلى الحروب التجارية التي تقودها إدارة ترامب، والتي تدافع عن متانة الاقتصاد الأمريكي في وجه وسائل الإعلام التي اتهمها كبير المستشارين التجاريين في البيت الأبيض، بيتر نافارو، بأنها تتعامل مع الأرقام والمؤشرات الاقتصادية بشكل انتقائي.
وقد تكون هذه المؤشرات هي التي دفعت بشكل أو بآخر الإدارة الأمريكية إلى التوقيع على ما يعرف بـ "المرحلة الأولى" من الصفقة التجارية مع الصين في 15 يناير 2020 بعد ما يقارب الـ 18 شهراً من اندلاع الحرب التجارية بينهما، والتي يذكر أنها أثرت بشكل كبير على المزارعين الأمريكيين الذين تمثل الصين بالنسبة لهم وجهة مهمة فيما يتعلق بمنتجاتهم وبالأخص فول الصويا، ففرض الرسوم الجمركية على هذه المنتجات اضطر الإدارة الأمريكية إلى تخصيص حزم دعم كبيرة إلا أن هذا لم يحل إلا جزءاً من المشكلة.
ولا يمكن إلقاء اللوم بشكل كامل على إدارة ترامب الاقتصادية ما قبل أزمة "كورونا"، وذلك بسبب العديد من العوامل، أبرزها الاستقلالية النسبية للبنك الاحتياطي الفيدرالي في اتخاذ القرارات الناظمة للسياسة المالية الأمريكية التي كان يعتبرها ترامب - قبل كورونا - الحاجز أمام تحقيق برنامجه الاقتصادي على أكمل وجه، وفي المقابل يرى معارضوه داخل الاحتياطي الفيدرالي وخارجه أن سبب المشاكل الاقتصادية هو السياسة التجارية.
ماذا حدث مع تفشي فيروس "كورونا" المستجد؟
بالفعل، حقق الاقتصاد الأمريكي في عهد ترامب استقراراً ملحوظاً، حيث شهدت السنوات الثلاث الأولى نمواً سنوياً بمعدل 2.5%، إلا أن الربع الثاني من عام 2020، شهد انكماشاً قد يكون الأكبر منذ بدء التسجيلات بواقع 30%، كما بلغت البطالة ذروتها منذ أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي لتصل في أبريل 2020 إلى نسبة 14.7%.
وفرض تفشي فيروس "كورونا" المستجد على العالم أجمع حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي، وأدخلته في أزمة امتدت لتصيب جميع الفعاليات والأنشطة الاقتصادية، أزمة كان أثرها كبيراً على المجتمع الأمريكي، تبينها المؤشرات التي سقطت سقوطاً حراً داخل المنطقة السلبية كما هو واضح أعلاه، حيث ازدادت نسب البطالة والفقر وغيرهما.
ومن القطاعات الاقتصادية التي تأثرت بشدة على خلفية تفشي فيروس "كورونا" المستجد، هي الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تعمل في مجال تجارة التجزئة والبناء والرعاية الصحية وغيرها، والتي لا يتم الحديث عنها في أغلب الأحيان لصالح التركيز على الشركات الكبيرة والعابرة للقارات، على الرغم من أن الأولى تضم ما يقارب 47% من القوى العاملة الأمريكية، بالإضافة إلى مساهمتها في إيجاد السيولة وبالتالي الاستقرار النقدي.
إن إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن حالة الطوارئ الوطنية لاحتواء تفشي فيروس "كورونا" المستجد في مارس 2020، مثّل نقطة مفصلية في الحياة الاقتصادية ومسيرة ترامب السياسية في البيت الأبيض، حيث نُسفت المنجزات الاقتصادية التي حققها بغض النظر عن الجدل الذي دار حولها، وبات من الواجب عليه التعامل مع الآثار الاقتصادية للفيروس لا مع سُبل إيجاد الآليات لتحقيق الرؤى الاقتصادية لفريقه.
وعليه، أقر البيت الأبيض أكبر حزمة مساعدات مالية في تاريخ البلاد بواقع 2.2 تريليون دولار مع أواخر مارس الماضي (2020)، تبعها عدد آخر من التشريعات التي تضمنت مساعدات للأفراد والمؤسسات والقطاع الصحي بمئات ملايين من الدولارات.
إذا أردنا المقارنة بين الأحداث الاقتصادية في عهدي بوش الابن وترامب، نرى أن هناك توسعاً في الإنفاق الاستهلاكي من قبل الدول مدفوعاً بتخفيضات ضريبية، إلا أن عهد بوش انتهى بأزمة مالية عالمية، وما زالت النتيجة في حالة ترامب مجهولة، لكنها سلبية بالتأكيد فعلى الرغم من التحسن الجزئي لبعض المؤشرات في الربعين الثاني والثالث، إلا أنه يوجد مخاوف من استمرار النمو المنخفض والسالب ما يهدد بحدوث كساد طويل الأمد الذي ربما يترافق معه انخفاض قيمة الدولار.
ويرى الرئيس السابق لمورغان ستانلي - فرع آسيا وأستاذ الاقتصاد في جامعة ييل، ستيفن روتش، أن انهيار العملة الأمريكية بات سيناريو مطروحاً نظراً لتفاقم الاختلالات البنيوية بين الادخارات والحساب الجاري التي تعاظمت مع تفشي فيروس "كورونا" المستجد، ويؤكد ذلك توقع مكتب الميزانية في الكونغرس أن يشكل الدين العام الأمريكي ما نسبته 98% من الناتج المحلي الإجمالي مع نهاية العام الجاري (2020)، إلى جانب عجز في الموازنة العامة بواقع 16%.
ويشير روتش في مقاله المنشور عبر وكالة بلومبرغ في يونيو الماضي (2020)، إلى أن المدخرات الوطنية انخفضت بنسبة 1.4% من الدخل الوطني، وهو الانخفاض الأقل منذ عام 2011، هذا يعني أن إعانات البطالة والمساعدات المباشرة للأسر سيكون لها أثر مؤقت فقط، كما أن الوضع سيزداد سوءاً إذا ما عكفت بكين على شراء السندات الأمريكية، ما سيطرح التساؤل التالي: من سيُموّل الدولار؟
إن الارتفاع الجنوني لأسعار الذهب في الفترة الممتدة ما بين 2019 – 2020 وتأرجح البيانات حول مستقبل الاقتصاد الأمريكي، يُنذر بأن الثقة بالدولار كملاذ آمن قد انخفضت، ناهيك عن تخلي العديد من الدول الشرقية عن العملة الخضراء في عمليات التجارة البينية التي تجمعهم، بالإضافة إلى عدم تقديم واشنطن لأي مقترح لعملة افتراضية التي من الممكن أن تنافس الإيوان الرقمي الذي أصدره البنك المركزي الصيني في مايو 2020.
الاقتصاد والانتخابات الرئاسية
يعمل الواقع الاقتصادي في أي مجتمع على رسم التوجهات السياسية للجماهير المنخرطة في العملية السياسية تمثيلاً أو انتخاباً، ولا شك أن الناخبين الأمريكيين يحاولون اختيار المرشح الذي من شأنه وفريقه التنفيذي أن يخرجهم من المأزق الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشونه.
وقد استغل الحزب الديمقراطي ظرف الجائحة بتحميل إدارة ترامب كافة التبعات الصحية والاقتصادية التي أصابت البلاد، متهماً إياها بأنها لو تصرفت بشكل مبكر ووقائي، لما وصل الحال إلى هذا الحد من التدهور، ليتم الرد عليه من قبل المعسكر الجمهوري بأن الأوضاع لما كانت عليه قبل الجائحة التي تعتبر ظرفاً استثنائياً شملت العالم ككل.
وما يزال ترامب يمتلك فرصة لدى العديد من القطاعات الاقتصادية التي منحها تخفيضات اقتصادية، ناهيك عن وادي السيليكون الذي من الممكن أن يدفع باتجاه انتخاب ترامب، ومرد ذلك إلى تخوف العديد من مالكي الشركات هناك من مشروع قانون تفكيك شركات التكنولوجيا الذي طرحه مشرعون ينتمون إلى يسار الحزب الديمقراطي، وبالتالي قد يكون ترامب لوادي السيليكون الخيار الأقل وطأة على الرغم من المناوشات التي تحدث بين الحين والآخر بينه وبين بعض منصات التواصل الاجتماعي حول مدى عدالة تمثيل الخطاب الجمهوري من خلالها.
المميز في هذه الانتخابات أن لا أحد يعلم - بما في ذلك المترشحين - ما الذي سيحصل لبرامجهم الاقتصادية في حال استمر الوباء بالتفشي جاراً معه المؤشرات الاقتصادية إلى مستويات خطيرة، لكن ما تعلمه أوساط النخبة السياسية الأمريكية هو أن البلاد متجهة نحو أزمة اقتصادية غير واضحة المعالم قد تمتد لثلاث سنوات على الأقل.
ويمكن اختتام هذه السطور بالقول، بعد أن انهارت المنجزات الاقتصادية لإدارة ترامب بسبب الجائحة، فقدَ الرجل الكثير من أدواته التسويقية، إلا أن ذلك لا يشكل حسماً للنتيجة، لأن هناك أبعاداً ثقافية وفكرية تربط إدارة ترامب بالعديد من القطاعات والمنظمات واللوبيات التي تعبر عن مصالح اقتصادية وسياسية مُعينة سواء على الصعيد المحلي أو الخارجي، ويهمها بل ويعجبها آلية تعامل ترامب وفريقه مع القضايا المعنية، وبالتالي فإن فوز ترامب بولاية ثانية لا يزال يحتل موقعه على قائمة الاحتمالات التي تبدو غير واضحة إلى حد بعيد.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات