قوى الشرق الصاعدة
الصين وروسيا والهند
ترغب الولايات المتحدة في التأكيد على استمرار تسيدها هذا الشكل من النظام الدولي. إلا أن استمرارية الأحادية الأمريكية في هذا التسيد على المدى البعيد هي في موضع شك؛ خاصة في ظل بروز قوى دولية فاعلة ترغب في ترسيخ موقعها على الساحة الدولية. ورغم هذا التنافس المحموم الدائر حول أكثر من قضية عالمية؛ فإن عقلانية التعاون وكلف الصراع الدولي يمنعان انتقال التنافس المحموم إلى مستوى الصراع المباشر؛ لذا تناقش هذه المادة مستقبل توسّع كلّ مِن: الصين وروسيا والهند كقوى صاعدة، ومدى تعارض هذا التوسع على التوازن الحالي للقوى.
الكاتب بلال العضايلة
- الناشر – STRATEGEICS
- تاريخ النشر – ١٦/٠٣/٢٠١٩
تشكّل حالةُ عدم الاستقرار أو الفوضى الاستراتيجية المسيطرة على العالم، فرصةً جاذبة للدول الساعية لزيادة نفوذها الإقليمي والدولي. بالتالي يمكننا القول إنّ حالة القُطب الواحد في العالم، لن يتم التخلّص منها خلال أُفقٍ منظور، ولكنّنا أمام حالةٍ من تشكّل واقعٍ تنافسيٍ جديد، يبرزُ قوىً سياسية واقتصادية صاعدة. والولايات المتحدة الأمريكية التي ما زالت تعتبر نفسها القطب الأوحد والأهم والأكثر قوة، تدرك هذا الصعود وتحاول التكيّف معه، أو إيجاد صيغةٍ تضمن تفوّقها الاستراتيجي. سيناقش هذا العنوان مستقبل توسّع كلّ مِن: الصين وروسيا والهند، كقوىً صاعدة، وما مدى تعارض هذا التوسع، على توازن القوى القائم.
القوة الناعمة للصين
تستغلُّ الصين عناصر قوّتها الناعمة لخلقِ أكبر قدرٍ من التأثير في الساحة الدولية. تشتمل أبرز عناصر قوّة الصين الناعمة في: عدد السكان، وطبيعة النظام السياسي، والموقع الجيوسياسي، وقوة الانتشار الاقتصادي لمنتجاتها. بلغ عدد سكان الصين هذا العام مليار وثلاثِمئةٍ وأربعةٍ وتسعين نسمة وهو ما يشكّل قوةً بشرية تساهم في رفد الاقتصاد الصيني بالعُمال. وحرصاً من الصين على استدامة العنصر البشري، تخلت عام 2015 عـن سياسة إنجاب الطفل الواحد، واستبدلتها بالطفلين. ورغم ذلك، لا زال معدّل النموّ السّكاني منخفضاً نسبياً عند 0,6%.
وهذا ما يضع الصين أمام تحدٍ مستقبليٍ يتمثّل في انخفاض أعداد القوى العاملة، وتحوّل نسبةٍ كبيرة من السّكان إلى الشيخوخة. أمّا طبيعة النظام السياسي الصيني، فهي مزيجٌ ما بين المركزية الشمولية تحت حكم الحزب الواحد، والانفتاح الاقتصادي الليبرالي على العالم الخارجي استناداً إلى نظامٍ محلي اقتصادي، بروحٍ اشتراكية صينية خاصّة. هذا الشكل من النظام الديمقراطي الهجين، يمنح صنّاع القرار السياسي المرونة اللازمة للتعامل مع الأزمات، ويمكّن الصين من التأقلم مع مستجدات السياسة الدولية.
وقد أدخل المؤتمر التاسع عشر، للحزب الشيوعي الصيني الحاكم في 2017، استراتيجية الرئيس الصيني الحالي، شي جين بينغ، إلى دستور الحزب، في تعبيرٍ فعليّ عن جوهرية وأهمية التحسينات التي قام ويقوم بها هذا الرئيس. وقد أعلنت وسائل الإعلام الحكومية عن هذه الاستراتيجية تحت مسمّى "نظرية شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية من أجل عصرٍ جديد"، في إشارةٍ إلى عصرٍ ثالث في تاريخ الصين المعاصر بعد عصر الزعيمين: ماو الذي أنهى الحرب الأهلية، ودينغ بينغ رائد الإصلاح. إلّا أنّ هذا النظام السياسي سيكون محدود الفاعلية دون القوّة الاقتصادية الضاربة للصين. فالناتج الإجمالي المحليّ لهذا العام بلغ 12,273 تريليون دولار، وهو ما يشكّلُ 15% من الاقتصاد العالمي. ورغم تأثّر معدّل نموّ الناتج المحلي بالعقوبات الأمريكية، إلّا أنّه لا زال مرتفعاً نسبياً عند 6,5% وهو ما يعطي الاقتصاد الصيني ميزةَ تحقيق التفوّق في الميزان التجاري عالمياً. فقد بلغت صادرات الصين في 2018 – باستثناء ديسمبر– قرابة 2274 مليار دولار، مقابل وارداتٍ بقيمة 1827 مليار دولار، أي أنّ هنالك فائضاً بقيمة 447 مليار دولار في الميزان التجاري الصيني.
ورغم النمو الحالي المرتفع للصين، إلّا أنّه يُعدُّ أبطأ نموّ منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، وسط تنامي المخاطر المتعلقة بتعامل السياسات الصينية مع الديون في ظلّ تبادل فرض العقوبات مع الولايات المتحدة. وحتى مع الأخذ بعين الاعتبار الصعوبات التي تواجه الاقتصاد الصيني، فإنّ معظم الدراسات تشيرُ إلى أنّ الصين مؤهلة لتسيّد النظام الاقتصادي العالمي في المدى المتوسط أو البعيد على أبعد تقدير. حسب دراسة شركة مراجعة الحسابات "برايس ووتر هاوس" التي تتخذ من لندن عاصمةً لها، سيحتلُّ الاقتصاد الصيني المرتبة الأولى عالمياً بحلول عام 2050 متفوقةً على الولايات المتحدة التي ستحتلّ المرتبة الثالثة عالمياً. وعليه، تدعم المؤشرات الاقتصادية فرضية تخلخل ترتيب القوى الاقتصادية عالمياً في المستقبل، فالولايات المتحدة شكّلت العام الحالي ما نسبته 24,3% من حجم الاقتصاد العالمي، بناتجٍ إجمالي يبلغ 20,5 تريليون دولار.
الانتشار العسكري في بحر الصين الجنوبي
وفي مسعى الصين لترجمة قوّتها الاقتصادية إلى قيمةٍ سياسية، تعمل على زيادة نفوذها بما يضمنُ لها تحقيقَ مكانةٍ سياسية مرموقة في النظام الدولي، لا سيما وأنّها تتنازع السيادة على بحر الصين الجنوبي – المُشار له في عنوان "التنافس الجيوستراتيجي على الشرق الأوسط والشرق الأقصى" – أحد أهم مضائق العالم، مع عدّة دولٍ في رابطة جنوب شرق آسيا "آسيان". وتقوم الولايات المتحدة بتعزيز علاقاتها مع دول هذه الرابطة، نظراً للأهمية الحيوية التي يتمتع فيها هذا البحر. فقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في أغسطس الحالي عن دعم دول "آسيان" بما قيمته 300 مليون دولار بحجة مواجهة التهديدات العابرة للحدود. ولم تكتفِ الولايات المتحدة بدعم الدول التي تنازع الصين السيادة على هذا البحر ماديّاً، بل عزّزت حضورها العسكري في المنطقة، في عملية "حرية الملاحة" ردّاً على ما تراه الولايات المتحدة عسكرة الصين "لبحر الصين الجنوبي". وفي المقابل، تحاول الصين احتواءَ الأزمة مع دول بحر الصين الجنوبي، وحصرها بالنطاق الإقليمي، أي تحاول تحييد الولايات المتحدة عن هذه الأزمة، ومحاولة الوصول إلى تفاهمات مشتركة إقليمياً.
وفي لقاءٍ جمع الرئيس الصيني شي جين بينغ، مع الرئيس الفلبيني في نوفمبر 2017، أبلغ الرئيس الصيني نظيره الفليبني حسب وكالة أنباء الصين الجديدة "شينخوا"، أنّ "الصين ستواصل العمل مع دول رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان) على ضمان السلام والاستقـرار والرخاء فى منطقة بحر الصين الجنوبي". وبموازاة إظهار الرغبة في احتواء الأزمة، تظهر الصين أيضاً تشدداً في مواقفها، فقد رفضتْ بصورةٍ قاطعة قرار محكمة تحكيمٍ في لاهاي في يوليو 2016 القاضي بانتهاك الصين حقوق الفلبين السيادية في بحر الصين الجنوبي، وأنّ لا حقّ تاريخي للصين في هذا البحر وهو ما دفعها إلى تجديد تعهّدها بمقاطعة كلّ الإجراءات المتعلّقة بالتحكيم، والتأكيد على دور جيشها في حماية السيادة الوطنية والمصالح البحرية. وفي تطوّرٍ لافت على صعيد عسكرة أزمة بحر الصين الجنوبي، قامتْ عدّة قاذفات صينية في مايو 2018 وللمرّة الأولى، بعملية هبوط في إحدى الجزر المتنازع عليها مع الفلبين وتايوان وفي نفس الشهر، أبحرت سفينتين بحريتين أمريكيتين قرب جزر اصطناعية تزعم الصين السيطرة عليها، وهو ما تعتبرته بكّين "تهديداً لسيادتها".
الصين وإسرائيل والغضب الأمريكي
لا تتوسع الصين في محيطها الجيوسياسي فقط، بل تسعى عبر توقيع شراكاتٍ اقتصادية طويلة الأمد، إلى زيادة حضورها في الشرق الأوسط من بوابة إسرائيل. فحسب تقريرٍ صادرٍ عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي بعنوان "دون مباركة أمريكية؛ ما سِرّ التقارب بين الصين وإسرائيل" نما حجم الاستثمار الصيني في إسرائيل عام 2017 إلى 25 مليار دولار، بعد توقيع 10 اتفاقياتٍ ثنائية، بزيادةٍ قدرها 10 أضعاف عن 2015. ففي زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، إلى بكين العام الماضي، كشف أنّ نسبة الاستثمار الصيني في التكنولوجيا الإسرائيلية الفائقة، تشكّل ثلث حجم هذا القطاع، رغم حساسية هذه التكنولوجيا الأمنية. وأيضاً تستثمر الصين في قطاع البُنى التحتية الإسرائيلي، ضمن مشروعها العملاق طريق الحرير؛ الهـادف إلى خلق شبكة نقلٍ عالمية. فقد وقّعت شركة "SIBG" عقداً لتوسيع ميناء حيفا لمدة 25 عاماً، وهو ما دفع رئيس مركز السياسات والاستراتيجية البحرية في جامعة حيفا، إلى التحذير من أنّ هذه الاستثمارات الحيوية، قد تُشكّل خطراً أمنياً على إسرائيل، فحسب مجلة "تايمز أوف إسرائيل" يقع هذا الميناء قرب قاعدةٍ بحرية إسرائيلية، يعتقد وجود غوّاصات نووية إسرائيلية فيها. وعليه يمكن القول إنّ هذه العلاقة لا زال يلزمها بناءُ الثقة، مقارنةً بعلاقة الولايات المتحدة وإسرائيل، ولا زالت أيضاً في طَور البناء والتأكد من أنّ هذه العلاقات الناشئة لن تؤثر على علاقة الولايات المتحدة الراسخة مع إسرائيل. ففي جريدة "هآرتس" كتب في سبتمبر الماضي عن وجود تحذيراتٍ غاضبة لجنرالات بحريّة أمريكيين من أنّ إدارة الصين لميناء حيفا، تحدُّ وتعرقل من حرية الأسطول السادس الذي يعتبرُ حيفا بيتاً له. هذه التحذيرات جاءتْ في مؤتمرٍ مشترك، طالب فيه الجانب الأمريكي بضماناتٍ على أنّ هذه المشاريع الصينية، لن تؤدّي إلى تحسين الوضع الاستراتيجي والقدرة الاستخبارية للصين، خصوصاً مع الانتشار الكثيف للبحرية الأمريكية في هذه المنطقة. وسط هذا الغضب الأمريكي، ستحاول الصين الموازنة ما بين المخاوف الأمنية الأمريكية، والمصالح الاقتصادية التي تطمح إلى تحقيقها في علاقاتها البينية مع إسرائيل. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار نفوذ اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، فإنّ تل أبيب تستطيع استغلال علاقاتها المميزة مع الولايات المتحدة لتخفيف حِدّة التوتر الحالي بين الصين والولايات المتحدة، ومحاولة المشاركة في تقديم بدائل عن نهج العقوبات المتبادل بينهما.
يبدو أنّ طريق الصين في سبيل زيادة نفوذها وصولاً إلى الهيمنة العالمية، مليءٌ بالتحديات والعقبات وحتى بالعقوبات. إلّا أنّ الثقافة غير التصادمية التي رسّخها، منذ القدم، الفيلسوف الصيني كونفوشيوس، تجعل الصين تميل إلى التفاوض ومحاولة خلق حلول وسط، دون الميل إلى العنف. ناهيك عن أنّ إنفاقها العسكري البالغ هذا العام 173 مليار دولار، يشكّل تقريباً ربع الإنفاق العسكري الأمريكي البالغ 700 مليار دولار. و مع ذلك تستمر الصين في زيادة حضورها السياسي دولياً، فمثلاً اشتركت مع روسيا في استخدام حق النقض "الفيتو" مرتين في 2016 و2017، بينما طول مسيرتها في مجلس الأمن من 1946-2015، لم تستخدم الصين "الفيتو" سوى تسع مرات فقط.
روسيا: قوة نووية صاعدة باقتصادٍ نامٍ
في ندوةٍ مهمة للبروفيسور الأمريكي جوزيف ناي، عبر منصّة "تيد" في العام 2010 حول مستقبل القوة في القرن الحادي والعشرين، تطرّق إلى مفهوم "انتشار القوة" وهو كيف تتوزع القوة عالمياً عبر الدول ومختلف الأطراف الفاعلة. ربط البروفيسور في ندوته، القوة الخشنة والقوة الناعمة في قالبٍ واحد لإنتاج قوّة ذكية تمكّن الدولة من استغلال كل الموارد المتاحة في سبيل تحقيق المصالح العليا للدولة. وإذا ما نظرنا في العُمق إلى روسيا، نجد أنّها تعاني ضعفاً في بعض معايير القوة الناعمة كالنموّ السكاني، وحجم الاقتصاد. فقد بلغ عدد سكانها هذا العام 144 مليون نسمة، موزّعين على 17 مليون كيلو متراً مربعاً، مساحة روسيا الدولة الأكبر عالمياً.
تواجه روسيا تحدّياً على المدى المتوسط، يتمثّل في ضعف الزيادة السكانية. وأحياناً يكون معدّل النموّ السّكاني سالباً، أي أنّ عدد السكان يقلّ، مثل هذا العام الذي حقق فيه معدل النموّ انخفاضاً قدره 0,02%، وهو ما يشكّل ضغطاً على الموارد البشرية في سبيل تحقيق متطلبات سوق العمل، أو تلبية الاحتياجات الأمنية العسكرية المتزايدة. أمّا الاقتصاد الروسي، فرغم تأقلمه مع انخفاض أسعار النفط، والعقوبات الغربية المفروضة بسبب موقف روسيا من أزمة أوكرانيا، والاتهامات الأمريكية بوجود تدخّلٍ روسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2016، إلّا أنّه لا زال يأخذ مساراً متذبذباً مع تحقيق مكاسب متواضعة نسبياً. فقد بلغ معدّل النموّ السنوي هذا العام 1,5% بناتج إجمالي بلغ 1,57 تريليون دولار، وهو ما يحول دون تحقيق روسيا لموقعٍ اقتصادي متقدّم على المستوى العالمي، إذ بلغ الناتج الإجمالي المحلي هذا العام للولايات المتحدة والصين، 19,3 و 12,2 تريليون دولاراً على الترتيب. ولا يُتوقع أن يشهد الاقتصاد الروسي أيّ طفرات على هذا المستوى، إذ يُتوقع أن يبلغ الناتج الإجمالي الروسي عام 2022 قرابة 1,80 تريليون دولار.
بلغت الصادرات الروسية 41,3 مليار دولار بحلول نهاية عام 2018، إذ أن 80% من هذه الصادرات مرتبط بالهيدروكربونات. ومع انخفاض أسعار النفط عالمياً، وزيادة التوجّه العالمي نحو استخدام مصادر الطاقة البديلة، تبرز الضرورة لتقليل الاقتصاد الروسي اعتماده على النفط عبر تنويع القطاعات الفاعلة، والتركيز أكثر على قطاع التكنولوجيا الفائقة، خصوصاً وأنّ بعض العقوبات التي فٌرضت على روسيا حظرت بيع روسيا هذه التقنية. فضمن حملة "صنع في روسيا" دعا الكرملين الشركات الروسية لتطوير حلولٍ تقنيّة لمواجهة تداعيات العقوبات المفروضة، واستبدال التقنيات المستوردة بأُخرى مطوّرة محلياً. وقد حصلت العديد من شركات التكنولوجيا الفائقة عام 2017 على تمويل بقيمة 256 مليون دولار من الميزانية الفيدرالية الروسية لهذا الغرض. ونجحت شركات هذا القطاع المتوسطة والصغيرة، العاملة في موسكو وحدها، في اجتذاب استثمارات بقيمة 100 مليار روبل، مستفيدةً من الميزات التي توفرها المجمعات الصناعية عالية التقنية التي أقامتها مدينة موسكو.
وفي تعبيرٍ عن مدى اهتمام روسيا بالاستثمار في قطاع التكنولوجيا الفائقة، وبعد مؤتمره السنوي في ديسمبر 2017، التقى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بممثلي المجمع الصناعي العسكري الروسي. وقد تطرّق بوتين في اجتماعه إلى زيادة الاستثمار في القطاع العسكري، وأنّ هذا المال "لا ينبغي أن يساعد فقط في الحفاظ على قدرة روسيا الدفاعية، ولكن أيضاً لتمكين الشركات الروسية من التغلّب في كلّ من الأسواق الروسية والأجنبية بمنتجات مدنية عالية التقنية". ولتواضع تأثير الاقتصاد الروسي عالمياً، مقارنةً مع الاقتصادات الكبرى، تلجأ روسيا إلى تعظيم قوّتها العسكرية لتعويض هذه الفجوة، رغم تأثّر إنفاقها العسكري بالظروف الاقتصادية التي تعيشها. فبحسب "معهد ستوكهولم لدراسات السلام الدولية"، بلغ حجم الإنفاق العسكري الروسي عام 2017 ما قيمته 66 مليار دولار، بتراجعٍ نسبته 17% عن 2016. وحتى لو حققت روسيا التفوّق العسكري النوعي عالمياً، ستبقى مجرّد قوة نووية ما لم يترافق هذا التفوّق، مع تعزيز عناصر القوّة الناعمة، والتمدد في قطاعات تجارية حيوية يحتاجها العالم، حتى تتمكّن من المنافسة جديّاً في سباق الزعامة العالمية، وهو ما تحاول روسيا تحقيقه في المرحلة الحالية رغم التحديات. فهي تدرك، أنّ القوة النووية قوة ردع ليس بالإمكان الاستفادة منها بصورةٍ مباشرة، لتحقيق المكاسب الاستراتيجية العليا للدولة.
الهند الصاعدة
بمعدل نموّ في الناتج المحلي الإجمالي بلغ 7,5% مقارنةً بالعام السابق، حقق الاقتصاد الهندي المرتبة الأولى عالمياً في نسبة النموّ متفوقاً على الصين، والمرتبة الخامسة في حجم الاقتصاد، حسب وكالة "بلومبرغ". وقد شكّل الاقتصاد الهندي البالغ حجمه 2,6 تريليون دولار 15% من النمو العالمي حسب صندوق النقد الدولي. وتشير كثيرٌ من التوقعات أنّ الهند تتوسّع بهدوء في محيط الاقتصاد العالمي، فقد توقّع "مركز أبحاثِ الاقتصاد والأعمال" في لندن، أن تحتلّ الهند المركز الثالث بالحجم الاقتصادي بحلول العام 2032. و في دراسةٍ أُخرى تشمل مدىً أبعد، أجرتها شركة مراجعة الحسابات "برايس ووتر هاوس" تتنبأ بأن يحتلّ الاقتصاد الهندي المرتبة الثانية بعد الصين، ومتفوقاً على الولايات المتحدة بحلول 2050. تُرجِع بعض التقارير القفزة السريعة التي يمرُّ بها الاقتصاد الهندي إلى الإصلاحات الهيكلية الاقتصادية الصعبة التي يقوم بها رئيس الوزراء الهندي، ناريندا مودي، وبصورةٍ خاصة إدخال ضريبة السلع والخدمات. وفي تحليل "كيو ان بي" المنشور في سبتمبر 2018، توقّع ازدهار الصادرات الهندية العام القادم، وأنّ الهند حال تطبيقها الإصلاحات بالكامل، سيكون بإمكان الناتج الإجمالي المحلي تحقيق نموّ بنسبة 8% بصورةٍ اعتيادية. إلّا أنّ ضخامة عدد السكان وعدم رضا بعض الفئات عن فرض الضرائب، يضعُ هذه الإصلاحات في تحدّي التطبيق الكامل، لا سيما وأنّ العام القادم سيشهد انتخابات نيابية. وبالتالي فإنّه على الرئيس الهندي وحزبه، ضمان حصول الدعم السياسي الكافي، خصوصاً في الأرياف ذات الكثافة السكانية العالية. فعدد سكّان الهند البالغ 1,358 مليار نسمة، يشكّل ضغطاً على صُنّاع السياسات في الهند، كي ينعكس النمو الاقتصادي، على نموّ حصة الفرد من الناتج المحلي البالغة الآن 1940 دولاراً سنوياً. فما يخفف من شعور الفرد الهندي بالنمو الاقتصادي هو تفوق النمو السكاني على النمو الاقتصادي، وحسب دراسةٍ صادرة عن الأمم المتحدة، يتوقّع أن تكون الهند الأكبر سكانياً بحلول 2022.
الاستثمار الأمريكي بالعلاقات مع الهند
تسعى الولايات المتحدة إلى استغلال الموقع الجغرافي للهند لضمان منطقة نفوذٍ في أخطر أقاليم العالم. فمع تنازع الصين والهند على بحر الصين الجنوبي، وتلاقي مصالح الولايات المتحدة والهند فيما يتعلق بالتعامل مع الملف الأفغاني، تتنامى العلاقات العسكرية البينية. فقد زوّد الجيش الأمريكي نظيره الهندي بتقنياتٍ عسكرية حساسة، لم تزوّدها سابقاً إلا لعددٍ قليل من حلفائها الموثوقين، حسبما صرّحت أليس ويلز، المبعوثة الأمريكية إلى أفغانستان وباكستان. كما تمّ التوصل إلى اتفاقية التوافق والأمن للاتصالات "كومكاسا" بين الجيش الهندي ووزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون، والتي تكمن أهميتها حسب ما جاء في صحيفة "الإيكونوميست تايمز" البريطانية في: توفير إطارٍ قانوني للولايات المتحدة للتخلي عن معدّات الاتصال والرموز الحساسة الخاصة به لتمكين نقل المعلومات التشغيلية في الوقت الفعلي. وتُستخدم هذه المعدّات بشكلٍ كبير في الاتصالات الأرضية، وتركيب طائراتٍ عسكرية أمريكية المنشأ للتمكين من التوعية بأوضاع المعركة. وفي مسعى إضافي من الولايات المتحدة، للتأثير في ميزان القوى في هذا الإقليم، تخطط الولايات المتحدة لإنشاء مشاريعَ عسكرية في السنوات السبع القادمة في الهند، بقيمة 30 مليار دولار، مع الاستمرار في بيع الأسلحة المتطورة للهند. فقد بلغت مبيعات الولايات المتحدة من الأسلحة للهند في العقد الماضي 15 مليار دولار.
وقد أعلنت وزيرة الدفاع الهندية، نيرمالا سيتارامان، إجراء مناوراتٍ عسكرية مشتركة للمرة الأولى مع الولايات المتحدة في العام 2019 على الساحل الشرقي للهند. وليست الصين فقط ما يجمع الولايات المتحدة والهند، وإنّما تتقاطع مصالحهما في أفغانستان أيضاً، فالولايات المتحدة تسعى بعد 15 عاماً من الانخراط في حربٍ فعلية ضد الإرهاب، لحلٍّ "أفغاني" تتعهد فيه حركة طالبان، إن دخلت في حوارٍ مع الحكومة الأفغانية، بالالتزام بالدستور الأفغاني. وهذا التقاطع في المصالح، يثير مخاوف الغريمة النووية للهند، باكستان التي تمتلك أوراق قوّةٍ وتأثير قد تستغلّها للتأثير السلبي في أفغانستان، خصوصاً مع التوتر الحالي للعلاقات الأمريكية الباكستانية في عهد الرئيس الأمريكي ترامب، الذي اتهم باكستان صراحةً بدعم الإرهاب وليس محاربته. وفي إقليم الشرق الأوسط تعمل الهند على توثيق مكتب علاقتها مع إسرائيل، فقد ارتفع التبادل التجاري بين الدولتين إلى أربع مليارات دولار، حسب رئيس الحكومة الإسرائيلية، مقارنةً بـ200 مليون دولار عام 1992، و هو العام الذي شهد بدء العلاقات الدبلوماسية. وما يضفي على هذه العلاقة الطابع الاستراتيجي المميز، هو ارتكازها على الجانب العسكري. فبحسب وزارة الدفاع الإسرائيلية احتلتْ الهند المرتبة الأولى في قائمة الدول التي استوردت أسلحةً من إسرائيل في 2017، بقيمةٍ بلغت 2 مليار دولار، مساهمةً في زيادة الصادرات العسكرية الإسرائيلية البالغة 9,2 مليار دولار. وهو ما مكّن الصادرات العسكرية الإسرائيلية من تحقيق نموّ بنسبة 40% عن 2016.
عقلانية التعاون
رغم استمرار القوى الصاعدة في سعيها لتحقيقِ مزيدٍ من المكاسب على الساحة العالمية، تبدو حالة التغيّر هذه، أقرب للتنافس المحموم منها للتصارع الدموي. فما يقلل من حِدّة التوترات، هو الاعتماد المتبادل والتداخل الاقتصادي، بحيث أنّ ما يؤثّر في اقتصاد الولايات المتحدة، سينعكس على الصين مثلاً. أي أنّ طبيعة النظام الاقتصادي الحالي المتشابكة والمتشعبة، تخلق مصالحَ مشتركة تشجّع على التعاون، بنفس القدر الذي تخلق فيه تنافساً على تحقيق المكاسب بصورةٍ أُحادية. وهذا المناخ يخـتلف عن مناخ الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الذي كان فيه الصراع على انتزاع المصالح من منظور أنّ الصراع صفري، مع سيطرة النزعة القطبية الأيديولوجية على العلاقات الدولية في ذلك الوقت. ستبقى الصين في حالةٍ ديناميكيةٍ مستمرة، لكي تستطيع أن تتموضعَ بالشكل الذي تريد وتخطط له. أمّا روسيا فتحاول تحسـيـن معادلتها للقوة، ولعل وجودها في الشرق الأوسط، أعطاها ميزةَ تفوّق مهمة، يمكن توظيفها بشكلٍ يحقق مصالحها الاستراتيجية. في حين ستبقى نيودلهي وفيّةً لمصالحها الخاصّة ومصالح واشنطن، كونها لا زالت تنظر إليها بأنّها القطب الأهم والأقوى، كما أنّ الهند لا زالت تريد المُضيّ نحو الشرق الأوسط عبر بوابة إسرائيل ودول الخليج العربي.
بلال العضايلة
مساعد باحث مهتم في قضايا السلم الدولي وفض النزاعات