التنافس الجيوستراتيجي على الأوسط والأقصى

هنالك مؤشرات وبوادر على تزايد الأهمية النسبية لإقليم الشرق الأقصى مقارنة بإقليم الشرق الأوسط الذي لا يزال في الوقت الحالي هو صاحب الميزة الجيوستراتيجية على المدى المنظور على الأقل؛ وذلك لتركز بؤرة الصراعات العالمية فيه، ولتنافس القوى العالمية على زيادة حضورها في هذا الجزء المضطرب من العالم؛ فهل سيحل الأقصى محل الأوسط من حيث الأهمية؟

الكاتب بلال العضايلة
  • الناشر – STRATEGEICS
  • تاريخ النشر – ٣١‏/٠٣‏/٢٠١٩

ستستمر الصراعات على حوافّ مناطق النفوذ في تحديد شكل العالم، مشعلةً الحالة التسابقية التنافسية لا بل والتصارعية بين القوى الكبرى على الهيمنة العالمية، عبر السعي نحو استغلال الفرصة من هذه التحولات وتحقيق متطلبات الأمن القومي ذات العلاقة. فكيف سيغير شكل التحوّلات المستمرة في 2019  الأهمية الجيوستراتيجية لإقليم الشرق الأوسط والشرق الأقصى؟

تفيد الدراسات والتقارير المتعلقة التي تتناول دراسة العلاقات الدولية، أنّ هنالك تراجعاً في أهمية الشرق الأوسط في تحديد شكل التفاعلات الدولية، بينما تتعاظم قيمة إقليم الشرق الأقصى حيث الفناء الخلفي للصين وروسيا، اللذين حددتهما استراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2018 -صراحةً- كأعداء. فهذه الاستدارة الأمريكية الجيوستراتيجية البطيئة صوب الشرق الأقصى تُعدّ نتيجةً منطقية لديناميكيات القوى الصاعدة الطامحة لانتزاع تسيّد الولايات المتحدة النظام العالمي شبه أحادي القطبية.

الأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط

اكتسب الشرق الأوسط ثقله في السياسة الخارجية الأمريكية منذ النصف الثاني من القرن الماضي؛ متأثراً بمجموعة من المحددات أهمها: أمن إسرائيل، وضمان انسيابية موارد الطاقة في خطوط الملاحة الدولية ضمن مستويات إنتاجٍ مناسبة، وأمن الحلفاء من التهديدات المختلفة. والملاحظ أنّ هنالك تراجعاً نسبياً في جوهرية بعض هذه المحددات، فالولايات المتحدة التي هرعت لإنقاذ النفط المتدفق عبر مضيق هرمز عام 1991، تغض الطرف نسبياً عن الصراع الدائر حول مضيق باب المندب.

كما أنّ فلسفة الشرق الأوسط الجديد تفرض على حلفاء الولايات المتحدة ضرورة التأقلم مع المتطلبات السياسية الجديدة؛ المرتكزة على تعزيز البنى السياسية في الدولة، بصورةٍ  تقلل من الاعتماد الوثيق على الولايات المتحدة، لتأمين وجود هذه الدول في محيط من الأزمات، ويبقى الثابت الأبرز هو أمن إسرائيل، الذي تنتهز الولايات المتحدة كل فرصة "للتجديد على الالتزام" الراسخ بأمنها، ضامنةً بصفقات التسلح عالية التقنية التي تم تنفيذها كطائرات "F 35" التفوق النوعي العسكري لها للعقد القادم على الأقل. وتسعى الولايات المتحدة جاهدةً إلى تتويج التزامها هذا بقيام علاقات دبلوماسية في بعض العواصم العربية بما يضمن للوجود الإسرائيلي "قرناً" مستقراً حسب التصوّر الأمريكي لمسار السلام في الشرق الأوسط. وكان لافتاً وضوح تصريح الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، حول تغيّر أهمية الشرق الأوسط في السياسة الخارجية الأمريكية. ففي مقابلته مع صحيفة "واشنطن بوست" في نوفمبر 2018 قال: "إذا كنا ننوي إبقاء قوات في هذا القسم من العالم، فلسبب واحد هو إسرائيل. النفط تتناقص أهميته كسبب، لأننا ننتج نفطاً أكثر من أي وقت مضى". ورغم المؤشرات على تراجع أهمية الشرق الأوسط في اعتبارات المصالح الحيوية الأمريكية، إلّا أنّ أي انسحابٍ لن يتم دون تحقيق تسوية إقليمية كبرى تحول دون تشكيل فراغ تستغله روسيا الصاعدة، وإلّا فإن الولايات المتحدة سترتكب خطأً استراتيجياً بإخلالها في ميزان القوى المضطرب أصلاً. ولضمان انسحابٍ ناعم وهادىء، ستسعى الولايات المتحدة لتحجيم النفوذ الإيراني الإقليمي؛ عبر الضغط نحو اتفاقٍ شاملٍ جديد مع إيران، جنباً إلى جنب مع مساعدة الحلفاء الإقليميين على تحقيق تنمية شاملة، تشكّل نقطة انطلاقٍ للخروج من حالة الدولة "شبه - الفاشلة" المسيطرة على العديد من دول الإقليم.

مقايضة جيوسياسية

صحيح أنّ روسيا حققت مكاسب إضافية في هذا الإقليم، إلّا أنّ هذه المكاسب لم تكن على حساب مصالح الولايات المتحدة، بل ضمن ما يمكن وصفه بأنه تفاهمٌ روسي أمريكي معطّل على إعادة تقاسم مناطق النفوذ (مقايضة جيوسياسية) نسبياً على امتداد الخارطة السياسية العالمية. فروسيا التي دفعت بكل ثقلها لمساعدة النظام السوري في تحييد الأخطار التي هددت وجوديته، تطمح إلى توسيع وتنويع خياراتها وأدواتها الإقليمية؛ مثل صفقات بناء المفاعلات النووية السلمية ضمن سياسة "الدبلوماسية النووية السلمية" المتبعة لتعميق شراكاتها الإقليمية، فثلث اتفاقيات شركة "روس-أتوم" الحكومية للطاقة النووية السلمية في السنوات القليلة الماضية وقّعت مع دول شرق أوسطية. وعلى أهمية هذه التحوّلات، إلّا أنّ هذه الصفقات ستبقى نسبياً بأهمية استراتيجية متوسطة ما لم تتعزز العلاقات على الجانب الأمني العسكري، إذ تسعى روسيا لتوريد منظومات "S-400" لبعض دول الخليج العربي رغم التهديد الأمريكي بفرض عقوباتٍ على الدول المستوردة لهذه التقنية. 

موطئ قدم أمريكي في بحر الصين

بالتطرق إلى نقاط التحول، ستواصل الولايات المتحدة سعيها إلى تحييد القدرات النووية في شبه الجزيرة الكورية، قبل أن تصطدم بجمود تفرضه بُنية وطبيعة النظام السياسي الكوري الشمالي الذي ليس بإمكانه التأقلم مع المتغيرات الاستراتيجية، ناهيك عن افتقار هذه المفاوضات للتأييد الشعبي الكوري الشمالي؛ رغم ضحالة أهمية الرأي العام في مثل هكذا نظام "شمولي" كما يوصف في العديد من التصنيفات الأكاديمية. وحتى المجمع الاستخباري الأمريكي يعاني من الضبابية عند تقييم الوضع النووي لكوريا الـشمالية وتقـييم مدى جدية النوايا التصالحية التي أعلنت عنها بيونغ يانغ.

تكمن المعضلة الاستراتيجية للولايات المتحدة في هذا الإقليم بكونه لم يكن تاريخياً منطقة نفوذ تابعة لها، فافتقار الولايات المتحدة لحلفاء تقليديين يمكن الاعتماد عليهم يُعزز الضرورة لخلق الأدوات والوسائل لإحداث التغيير المأمول، تغيير يبدو أنه سيكون صعب المنال مع النهج الأمريكي الجديد في افتعال الأزمات ومحاولة استغلالها على أنّها فرصة، فمثل هكذا توجّه لا يمكن أن يجدي نفعاً مع قوة اقتصادية عملاقة كالصين التي تتزايد حصة استثمارها في السندات الأمريكية، إذ شكلت هذه الحصة، هذا العام حوالي 20% من مجمل الدّين العام، رغم تبادل فرض العقوبات القاسية بين الدولتين الذي شهدناه مؤخراً، ما يصنع الضرورة للمحافظة على حالة من عدم التصادمية مع الصين.

وبموازاة تخفيض الولايات المتحدة اهتمامها بمضائق الشرق الأوسط المائية، تتزايد قيمة بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه، والذي تناضلُ الولايات المتحدة للإخلال بحالة "ستاتيكو" فيه، بعد اتهامها الصين بعسكرة هذا الكنز الحيوي، والذي تقدّر احتياطاته النفطية بحوالي 11 مليار برميل نفط واحتياطات الغاز بحوالي 190 تريليون قدم مكعب، ناهيك عن عبور قرابة  30% من التجارة العالمية خلاله، أي ما يعادل 5,3 تريليون دولار؛ منها 1,2 تريليون دولار تجارة بينية مع الولايات المتحدة الأمريكية. لا بل إنّ بعض التحليلات تُعزي تهديد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بالانسحاب من معاهدة حظر الأسلحة النووية متوسطة المدى المبرمة مع الاتحاد السوفياتي في 1988، إلى رغبة الولايات المتحدة بالتفاوض عـلى مـعاهـدة جـديـدة تـكون الصين جزءاً منها، لضمان أمن القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في غرب المحيط الهادىء، من القدرات الهجومية الصينية المتزايدة. يُضاف إلى ذلك، أنّ هذه المعاهدة تقيّد حرية حركة الملاحة البحرية للأسطول الأمريكي، إذ تضع بوارجه في مرمى النيران الصينية إن حاولت الوصول لعمق الأراضي الصينية.

ميزة جيوستراتيجية

هنالك مؤشراتٌ وبوادر على تزايد الأهمية النسبية لإقليم الشرق الأقصى مقارنةً بإقليم الشرق الأوسط، الذي لا يزال في الوقت الحالي هو صاحب الميزة الجيوستراتيجية على المدى المنظور على الأقل، لتركز بؤرة الصراعات العالمية فيه، حتى وإن غابت استراتيجية أمريكية واضحة تجاه العديد من قضايا الإقليم.

البجعة السوداء:

اندلاع حرب في بحر الصين الجنوبي. 

بلال العضايلة

مساعد باحث مهتم في قضايا السلم الدولي وفض النزاعات