جدلية التقييمات الأمنية الأمريكية حيال إيران

يقدم تقدير الموقف التالي لمحة عامة لدوافع تعدد وتناقض التقييمات الأمنية الأمريكية حيال الملف الإيراني في محاولة لتحديد طبيعة التحركات الإيرانية المرتقبة في ضوء هذا التحشيد العسكري والتصعيد السياسي الذي يكتنف المنطقة.

الكاتب ستراتيجيكس
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ٠٥‏/٠١‏/٢٠٢١

إن المتابع للتقييمات الأمريكية الاستخبارية حيال إيران؛ يجد أنها تنقسم إلى رأيين: الأول محافظ يطالب بالإبقاء على الوضع القائم "Status Quo" دون مزيد من التصعيد السياسي أو العملياتي. أما الرأي الثاني فهو صقوري يدعو إلى مزيد من إظهار القوة الصلبة لثني إيران عن المضي قدماً في سياساتها الإقليمية والنووية، ولإرغامها على الجلوس على طاولة مفاوضات تنتهي بصياغة اتفاق تتنازل فيه طهران عن قدراتها النووية وبرنامجها الصاروخي وسياساتها الإقليمية، في مقابل رفع العقوبات التي أنهكت الاقتصاد الإيراني.

بالطبع، إن هذا التضارب في التقييمات ليس جديداً وإنما سيطر على توجهات المجمع الاستخباري الأمريكي مع تبني الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، سياسة "الضغط الأقصى" ضد الأصول الاقتصادية والأمنية لإيران، وتزامنت هذه السياسة مع حوادث غامضة – كاستهداف الناقلات حول مضيق هرمز – نُسبت مسؤولية تنفيذها لجهات إيرانية، وأخرى أكثر وضوحاً تتمثل بقصف محيط البعثات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية لأمريكا في العراق، وقصف منشآت أرامكو في البقيق وخريص، وهي الهجمات التي أعلنت كيانات موالية لإيران مسؤوليتها عنها.

تُوّجت هذه الحرب المختلطة التي تتم بوسائل عسكرية وغير عسكرية، سواء أكان منفذها معلوماً أم مجهولاً، بإعلان واشنطن عن قتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني، مطلع 2020 ليدخل الإقليم بذلك في فوضى التوقعات في بيئة غامضة لا يمكن التكهن بمسار الأحداث فيها، إلا أن مساعي خفض التوتر نجحت مؤقتاً في نزع فتيل المواجهة الشاملة التي لا يرغب فيها أي طرف بتحمل الكلف الباهظة المترتبة على هذه المواجهة.

الآن، وتزامناً مع الذكرى السنوية الأولى لمقتل سليماني، تتجدد فوضى التقييمات في أروقة دوائر صنع القرار الأمريكي، فالمخاوف من ارتكاب عمل متهور ضد المصالح الأمريكية تدفع باتجاه مزيد من "استعراض العضلات" وتوجيه الرسائل المكتوبة بهدير البوارج وقاذفات القنابل.

وقد تطرقت شبكة "CNN" إلى ما وصفته بـ "الانقسام" داخل البنتاغون إزاء تقييم مدى جدية التهديد الحالي الذي تمثله إيران وحلفاؤها، فرغم عدم وجود معلومات مؤكدة تنبئ بهجوم إيراني وشيك، إلا أن هنالك من يطالب بالتعامل مع إيران على افتراض قرب وقوع مثل هكذا هجوم.

وهنا يبرز أمر جوهري يتعلق بجودة المعلومات الأمنية "Intel" المستقاة من مصادر متقدمة على كافة المستويات، تقنياً وبشرياً، فالمنطقي هو عدم وجود تضارب في التقييمات والنتائج لأن المعلومات مشتركة وتصب في ذات الاتجاه؛ إلا أن هذا التضارب لا يرجع إلى ضعف كفاءة المعلومات، وإنما إلى تنوع خلفيات الخبراء والمحللين العاكفين على إعداد التوصيات اللازمة للتعامل مع الموقف، فاختلاف المنطلقات الأيديولوجية والسيكولوجية للخبراء والمحللين يؤدي إلى اختلاف التفسيرات للمعلومات المتاحة وبالتالي تصدر التقييمات متباينة، وأحياناً متناقضة.

وتنطوي معضلة عدم وضوح "الرؤية" هذه على مخاطر جمّة قد تؤدي إلى الوقوع في فخ الحسابات الخاطئة غير المقصود، أو حتى فخ الحسابات المضللة المقصود بتحريض طرف داخلي أو خارجي؛ لذلك من الملح جداً ضبط تصورات كلا الطرفين: الصقوري الأمريكي والمتشدد الإيراني، ففي ظل انقطاع التواصل المباشر تسود أجواء عدم الثقة لا بل وحتى التوجس والريبة من النوايا التي يضمرها كل طرف إزاء الآخر.

وعليه يتعين على قنوات الاتصال التي تتم عبر طرف ثالث أن تنشط بفعالية لتهدئة المخاوف الأمنية المتصورة، حتى لا تتفاقم هذه التصورات إلى توقعات خاطئة ينتج عنها قرارات مبالغ فيها. فكل طرف يبرر زيادة انتشاره العسكري بأنه يأتي لغايات دفاعية ردعية وليس لغايات هجومية، وقد يكون هذا التبرير صادقاً، فلا طرف ينوي شن هجوم صريح مباشر في لحظة توتر.

ورغم ضبابية المشهد، إلا أنه من المؤكد أن القوات الأمريكية لن تتردد في تنفيذ ضربة استباقية تجاه هدف يستعد لبدء هجومه ضد مصالح أمريكية، ولكنها تتردد في تنفيذ ضربة وقائية تجاه "عدو" في وضع الاستعداد العملياتي وفي حالة من الغضب الدافع للثأر ويمتلك الوسائل والأدوات لرفع كلفة التواجد العسكري للولايات المتحدة في الإقليم.

وقد يكون إدراك الأطراف المنخرطة في التوتر الحالي للعواقب الوخيمة المترتبة على شن أي هجوم صريح، عاملاً حاسماً في عدم اندلاع شرارة المواجهة، ففي ظل جهوزية عملياتية قصوى، سيفكر كل طرف ينوي تنفيذ عملية ما بردة فعل الطرف الآخر، لأن الجميع يحاول كشف أوراق قوته.

وبالتالي، وحتى لو كانت طهران جادة في تنفيذ تهديداتها التي تصدر من أعلى قمة الهرم الديني والعسكري والسياسي في الدولة، فإنها تميل إلى تنفيذ هجوم يبدو غامض المصدر لا يحمل بصماتها المؤكدة في وقتٍ يكون فيه الطرف الآخر في حالة "استرخاء". فالتاريخ يخبرنا أن المنطق السياسي الإيراني يتسم بالصبر الاستراتيجي ويخضع لحسابات "الكلفة – المكسب"، وأما التهديدات العلنية فهي غالباً ما تكون موجهة للداخل المضطرب أو أنها تندرج في إطار بث رسائل "دبلوماسية" لدعوة الطرف الآخر لتقديم تنازلات معينة لتجنب الغضب الإيراني عملياً.

ليس فقط "قاسم سليماني"

للوهلة الأولى قد يظن المتابع لوسائل الإعلام والتصريحات المختلفة أن التوتر الحالي يرتبط بتبعات مقتل سليماني والمخاوف من تنفيذ جهات إيرانية لعملية انتقامية، إلا أن القراءة العميقة للموقف في الخليج العربي تؤكد على أن "مقتل سليماني" ما هو إلا قمة جبل جليد للتناقضات بين الأطراف المتصارعة في الإقليم.

فإيران التي تواجه وباء كورونا الذي فاقم من متاعبها الاقتصادية معنيّةُ  بالتمسك في سيادتها النووية والصاروخية، ولذلك من غير المتوقع أن تقدم تنازلات حقيقية في هذا المجال. أما واشنطن فهي معنيّة باستدامة المظلة الأمنية التي توفرها لحلفائها في ظل تنامي تمدد الصين على الساحة الدولية الذي يستدعي تسخير الطاقات والقدرات نحو الصين وإقليم الشرق الأقصى.

وتزامناً مع خطط واشنطن لفك ارتباطها تدريجياً بالشرق الأوسط، تسعى الدبلوماسية الأمريكية إلى بلورة تحالفات أمنية وسياسية جديدة في المنطقة، عمادها تدشين علاقات عربية إسرائيلية جديدة، وهو الأمر الذي زاد من توجس طهران الإقليمي، ورفع من التهديدات الأمنية التي تتصورها، فرقعة الحضور الإسرائيلي تتسع في المنطقة.

في المقابل تتسع أيضاً رقعة الحضور الإيراني في المنطقة، أفقياً (التمدد في مناطق جديدة كمضيق باب المندب) وعمودياً (تعميق أصولها الأمنية في مناطق منتشرة فيها أصلاً كالعراق)، ناهيك عن تخليها عن بعض التزاماتها في الاتفاق النووي الذي ما زال قائماً رغم انسحاب واشنطن منه، فمطلع 2021 أعلنت إيران عن رفع درجة تخصيب اليورانيوم إلى 20% بعد أن تعرض برنامجها النووي لضربات موجعة في النصف الثاني من 2020، مثل "تفجير نطنز" الذي أدى إلى تعطل أجهزة الطرد المركزي الحديثة نسبياً، واغتيال كبير علماء الذرة الملقب بأبو البرنامج النووي، محسن فخري زاده، في عملية مسّت سمعة المنظومة الأمنية الإيرانية؛ كونها وقعت في قلب الأراضي الإيرانية وليس في دولة أخرى كما حصل في اغتيال سليماني.

أمام هذا التسلسل التصعيدي للأحداث، قد تجد طهران نفسها مضطرة لتنفيذ هجوم ما حتى لا يتحول استهدافها إلى "عملية روتينية" كما يحصل في الغارات الإسرائيلية على مواقعها في سوريا، وحتى تجلس على طاولة المفاوضات في موقف قوة وليس تخاذل، أما عن "متى وكيف وأين" سيتم هذا الهجوم، فمن غير الحصيف افتراض تنفيذه الآن قبيل تولي الرئيس الديمقراطي، جو بايدن، مقاليد الحكم رسمياً، فترامب لا يزال القائد الأعلى للقوات المسلحة الأمريكية، ولن يتسامح مع مقتل أي مواطن أمريكي.

خلاصة القول؛ إن اختلاف التقييمات الأمنية الأمريكية حيال الملف الإيراني ليس خللاً بحد ذاته، وإنما يعكس التنوع والتكامل الذي يميز المنظومات الأمنية الناجعة، فمن الصعب جداً إجماع خبراء البنتاغون على تقييم واحد حيال الملف الإيراني، فالشرق الأوسط مليء بـ "اللايقين" ولا يمكن الجزم بمسار الأحداث في بيئته المعقدة.

فاختلاف التقييمات لا يعكس انقساماً سياسياً مثلما تدعي بعض وسائل الإعلام؛ ذلك أن المؤسسة الأمنية والاستخبارية تراعي الاعتبارات المهنية والمصالح العليا المرتبطة بالأمن القومي، ولا تميل إلى الاصطفاف خلف سجالات حزبية داخلية.

 

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات