احتجاج شعبوي: هل بحوزة الـ "G7" أي حلول لمعالجة الفجوة الطبقية؟

تشهد دول مجموعة السبع، وبدرجات متفاوتة، انقسامات عميقة على أساس توزع الثروات والتوجهات السياسية، وترتب على هذه الانقسامات بروز عدة حركات شعبوية تطالب بإحداث تغيير جذري في منطق النظام الاقتصادي الدولي. وقد سرع فيروس "كورونا" المستجد من ظهور التبعات الاجتماعية والاقتصادية لهذه الاختلالات البنيوية، فما هي التداعيات المحتملة للانقسامات الطبقية في دول مجموعة السبع؟

الكاتب ستراتيجيكس
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ١٣‏/٠٩‏/٢٠٢٠

هذه المادة الثامنة من سلسلة المواد التي يجري نشرها تباعاً ضمن ملف "أوراق على طاولة الـ G7"

عادةً ما يترافق عقد قمة مجموعة السبع مع احتجاجات قرب موقع انعقادها، وهي الاحتجاجات التي تكتسب زخماً متزايداً في الآونة الأخيرة، سواء من حيث أعداد المشاركين فيها أو حتى من حيث التغطية الإعلامية، فهذه الوقفات التي تتخللها بعض المظاهر العنيفة أخذت تستقطب قدراً يسيراً من الأضواء المسلطة على لقاءات قادة مجموعة السبع.

تُصنَف هذه الاحتجاجات - في نطاق ضيق - ضمن حركة مناهضة مجموعة السبع "Counter - G7 Summit" التي يُطالب أعضاؤها بضرورة إحداث تغيير جذري يحقق نموذجاً عادلاً في توزيع الثروات بما يضمن العدالة المجتمعية للفئات المهمشة. ولذلك يُمكن تصنيف هذه الاحتجاجات في نطاق واسع ضمن حركة عالمية مناهِضة للعولمة "Anti-Globalization Movement" التي يسخط أعضاؤها على الرأسمالية الليبرالية، ويطالبون بضرورة سن تشريعات تقلل من الفجوة الطبقية الآخذة في التمدد بين من يملك ومن بالكاد يملك ما يلبي احتياجاته المعيشية الأساسية.

وبنظرة بسيطة على أرقام توزع الثروات، يتضح الخلل البنيوي في الشكل الحالي للنظام الاقتصادي الدولي، ففي فعالية نظمتها الأمم المتحدة في يوليو 2020 للاحتفال بعيد ميلاد رئيس جنوب إفريقيا الأسبق، نيلسون مانديلا، قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إن: "أغنى 26 شخصاً في العالم يحوزون على ثروات تساوي ثروة نصف سكان العالم" داعياً إلى "وضع ميثاق عالمي جديد يضمن توزيعاً أوسع وأكثر إنصافاً للسلطة والثروة والفرص، على المستوى الدولي" لسد الفجوة الطبقية.

وتشير البيانات الموثوقة إلى أن دول مجموعة السبع تشهد اتساعاً في هذه الفجوة، ففي الولايات المتحدة مثلاً، تُظهر الإحصاءات والحقائق - التي ينشرها مركز أبحاث "Pew" غير الحزبي والبعيد عن الاستقطابات السياسية الجدلية - التباينَ الكبير في توزيع الثروة بين الأمريكيين. فوفقاً لتقرير نشره المركز في يناير 2020، قفزت نسبة حيازة الأسر ذات الدخل المرتفع للثروات الإجمالية من 60% عام 1983 إلى 79% عام 2016. في المقابل هبطت نسبة حيازة الأسر ذات الدخل المتوسط للثروات الإجمالية من 32% إلى 17% في نفس الفترة الزمنية (1983-2016).

وتُظهر الأرقام مدى تباين توزيع الثروة على صعيد إثني، إذ قدر البنك الاحتياطي الفدرالي في سانت لويس، أن متوسط ثروات الأسر ذات العرقية البيضاء، يعادل 10 أضعاف متوسط ثروات الأسر ذات العرقية السوداء. ولا يقتصر هذا التباين على العرقية السوداء، بل يمتد إلى مكونات فرعية ومناطقية أخرى.

ومع تنامي إدراك الفئات المهمشة - على اختلاف إثنياتها وتوجهاتها - بهذا الاختلال، إلى جانب شعورها بأن هنالك نوعاً من الإقصاء يُمارَس بحقها؛ أخذت هذه الفئات تنتظم في مجموعات وكيانات للمطالبة بنظام أكثرَ عدالة. وغلَب على هذه المجموعات التعبير عن مطالبها بخطابٍ عاطفي شعبوي لتجنيد عدد أكبر من المؤيدين واستقطابهم في حراكهم. وفي بعض الحالات، تسلك وقفات هذه المجموعات اليسارية الشعبوية طابعاً عنيفاً، وتحتل صداماتها مع الشرطة اهتمامَ وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، كما حصل في الاحتجاجات التي سادت عدة مدن أمريكية بعد مقتل "جورج فلويد" في مايو 2020 أثناء محاولة اعتقاله من قبل دورية للشرطة الأمريكية.

في المقابل، ثمة من يرى أن النظام الرأسمالي الحالي برغم ما فيه من اختلالات، إلا أنه النموذج الوحيد القابل للتطبيق العملي، فمن المستحيل مثلاً نجاح النمط الشيوعي في إدارة كتل سكانية ضخمة يتفاوت أفرادها في المهارات والخبرات، لأن هذا التفاوت يترتب عليه حكماً ارتفاع أو انخفاض مستوى الدخل، ولا يمكن القبول بفكرة خضوع الأفراد لمبدأ المساواة المطلقة، ففي أحيان كثيرة قد يكون من الظلم فرض المساواة، فالعدالة لا تعني التساوي وإنما التفاوت النسبي.

ولا تعكس حيازة كبار المستثمرين لثروات ضخمة بحد ذاتها خللاً بنيوياً -كما يرى النقاد- لأن هذه الثروات يتم ضخها في الأسواق لتخلق مزيداً من فرص العمل، ولتساهم هذه الثروات أيضاً في إحداث نقلة "طبقية" للكثيرين. أي أن ما بناه المستثمرين بجهدهم الذاتي في الدرجة الأولى من وسائل وأدوات تتحول إلى قيمة مضافة للاقتصاد ولا يقتصر رفاهها على نطاق ضيق.

كما أن النظام الرأسمالي الحر يقوم على الابتكار والتدفق السلس للأفكار والخدمات والسلع، مما يعني أن فرصة اكتساب ثروة ضخمة ليست حكراً على فئة بعينها، بل هي -أي الثروة الضخمة – تترافق مع العمل الجاد الريادي كتحصيل حاصل، فكثير من المبدعين أصحاب رؤوس الأموال لا تحركهم الرغبة في تكديس الثروات وإنما الشغف في التفوق.

ويدرك كثير من أصحاب الثروات الضخمة تنامي الاحتقان الطبقي، ولذلك يبادرون في انشاء مؤسسات خيرية تُعنى بمجالات خدمية إنسانية، مثل مؤسسة "The Bill & Melinda Gates " التي تدير أصول حول العالم تبلغ قيمتها 46.8  مليار دولار. وقد لا يكون لمثل هكذا مبادرات الدور الفاعل في ردم الفجوة الطبقية، إلا أن أثرها النفسي والمعنوي كبير، فهي تسلب الحجة مما يروج له الخطاب اليساري الشعبوي، وتعكس واجب رأس المال تجاه الفئات الأكثر حاجة.

byl-wmylynda-ghyts-ar.jpg

في موازاة صعود هذه المجموعات اليسارية الشعبوية؛ يتزايد حضور اليمين الشعبوي في الثقافة السياسية المجتمعية في الدول الغربية إلى درجة أصبح لهذا اليمين حضور سياسي يستمد شرعيته وقوته من صناديق الاقتراع التي تعبر عن التوجهات الشعبية العامة. ويتسم هذا اليمين بتبني خطاب قومي إقصائي رافض للآخر، سواء أكان هذا الآخر يحمل هوية إثنية مغايرة (كالمسلم واليهودي وذوي العرقية السوداء) أو يتبنى موقفاً سياسياً بعيداً عن الأيديولوجية اليمينية (كالليبرالي واليساري).

ويحاجج أنصار اليمين الشعبوي بأن هويتهم القومية مهددة في ظل نظام معولم شديد الانفتاح تختفي معه الخصوصيات الثقافية للطيف المحلي الأكثر حضوراً لصالح ثقافة عامة غير محددة الملامح. ويعزو التيار اليميني الشعبوي، تدهور الأوضاع المعيشية والخدمية إلى كُلف السياسة الخارجية (مثل الانتشار العسكري الخارجي والاتفاقيات التجارية "غير العادلة") وإلى برامج الرعاية المعيشية التي تخصص لبعض الفئات سواء خارج الدولة أو داخلها (مثل برامج رعاية اللاجئين). 

ولربما يظن البعض للوهلة الأولى أن جناحي الشعبوية متناقضان تماماً، فيمينها بدأ يُثبت حضوره في السلطة ويتبنى خطاباً يُحمل اللاجئين والملفات الخارجية مسؤوليةَ تردي الأوضاع الاقتصادية في الدولة. أما اليسار الشعبوي فهو بعيد نسبياً - حتى الآن - عن احتلال مناصب سياسية سيادية، ويسعى إلى تحقيق عدالة اجتماعية وتغيير قواعد النظام الاقتصادي الدولي التي يُحملها مسؤولية الاختلالات الطبقية.

ورغم هذا التناقض الظاهري بين الشعبويتين، إلا أن التحليل المعمق يُظهر تشابهما في الأسلوب والمنطق السياسي، كما أن كلا الجناحين يرفضان الطبقة السياسية الاقتصادية المسيطرة، وتحركهما الإرادة الجامحة لإحداث تغيير راديكالي في مجمل عمليات النظام السياسي الحالي في الدول الغربية.

تفشي "كورونا" والاختلالات المجتمعية

يتضح من استعراض الحقائق أعلاه، أن الأرضية كانت ممهدة لحدوث "عجز في النظام -  System Failure" عند أول اختبار حقيقي، وهو ما تجلى في أزمة "كورونا" التي أوقعت دول مجموعة السبع في معضلة الموازنة بين أولويتين ملحتين للحياة؛ وهما: الصحة والاقتصاد. ففي الأسابيع الأولى من عمر الأزمة، ومع تزايد عدد الإصابات، كانت معظم الدول في وضع الصدمة جرّاء مداهمة الفيروس دون وجود بروتوكول محدد للتعامل مع الواقع المستجد على الصُعد: الطبية والاقتصادية والاجتماعية.

فمثلاً، كانت هنالك مخاوف في مرحلة التفشي الأولى من انهيار النظام الطبي في إيطاليا، وتحولها إلى دولة شبه فاشلة إذا ما سقطت أركان استقرارها الأمنية والاقتصادية. أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد حاولت إدارة ترامب التعاملَ مع انتقادات حادة حول طريقة استجابتها للأزمة، حيث كان لتفشي الفيروس تداعيات اقتصادية وسياسية كبيرة بعد أن تحولت أمريكا للدولة الأكثر تسجيلاً للإصابات على مستوى العالم.

ولربما تغيرت هوية أزمة "كورونا" من طبية في الأسابيع الأولى من التفشي، إلى اقتصادية في الأسابيع التالية، نظراً لتحول عدد كبير من العاملين إلى خانة البطالة المؤقتة بفعل إجراءات التباعد الاجتماعي، وتعذر العمل الميداني أو حتى عن بعد في بعض المجالات التي تتطلب التواجد في مكان العمل.

وتختلف وطأة تأثير الأزمة على المجتمع تبعاً للاختلافات الخدمية والمعيشية، فالمناطق التي تغطيها خدمات صحية عبر المستشفيات الضخمة تستطيع استيعاب أعداد الإصابات، كما أن الظروف المعيشية والاكتظاظ السكاني للفئات الفقيرة، يجعلان منها أكثر تضرراً عند الإصابة بالعدوى، وبالتالي تحمل الكلف الاقتصادية لتبعات الفيروس، فأغلب الأفراد الأكثر فقراً يعملون في مهن لا يمكن إنجازها عن بعد.

ومع تعمق الأزمة اقتصادياً، يزداد سخط فئات واسعة على الطبقة السياسية، وهؤلاء "الساخطون" قد ينضمون إلى الجماعات والأحزاب الشعبوية أو يؤيدون الطرح الشعبوي كتفسير "نفسي" لأوضاعهم العامة، وربما يتحول عدد كبير منهم إلى أداة ضغط طيّعة في يد جهات داخلية أو حتى خارجية. وقد نشرت منظمة "Project Syndicate" الإعلامية تقريراً في يونيو 2020 حول التفاوت بين الأفراد وكيف أنه يغذي أعدادَ الوفيات جرّاء الإصابة بالفيروس، وأشارت إلى أن مستويات التفاوت الكبيرة تؤدي إلى "تدني مستوى التماسك الاجتماعي، وتضاؤل الثقة الاجتماعية، وزيادة حدة الاستقطاب السياسي، وكل هذا يؤثر سلباً على قدرة الحكومات واستعدادها لتبني تدابير مراقبة وتحكم قوية".

وتدفع هذه التباينات التي عمقتها أزمة " كورونا" إلى زيادة درجة الخلل في الأنماط السياسية والاقتصادية والاجتماعية في دول مجموعة السبع التي لم تعد دولاً ذات توجهات مماثلة "Like-minded States". فلم تعد القيم الديمقراطية مصلحة حيوية مشتركة يتعين تأمينها محلياً ودولياً، ولم يعد الالتزام الغربي بتأمين "النظام الدولي القائم على القواعد" التزاماً حقيقياً.

وعملياً، يُعتبر النظام الدولي الحالي امتداداً لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي - أي النظام الحالي - تبنى الطابع الرأسمالي بصورة شاملة في تفاعلاته بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وأي ضغط شعبي تجاه تغيير هذه الطبيعة الرأسمالية، قد يترتب عليه تحوّر جذري في النظام الدولي. 

وقد يجادل البعض حول أنه كيف يمكن لنظام ليبرالي تقبل واحتواء أفكار غير ديمقراطية. والرد على مثل هكذا تساؤل لا يحتاج إلى كثير من التفكير أو النقد؛ ذلك أن أدوات الممارسة الديمقراطية، كالانتخابات مثلاً، لا تضع معاييراً على البرامج والتوجهات السياسية، ولا تمارس هذه الأدوات رقابةً أو وصاية على ثقافة ووعي المجتمع، بل تعكس ما يريده الناخبون سواء أكانت إرادة هؤلاء الناخبين تتسق مع المعايير الديمقراطية أو تتناقض معها.

ويحذر بعض الخبراء من أن ثمة تشابه جزئي بين بعض التوجهات المتطرفة الآخذة في التمدد حالياً في بعض الدول الغربية، وبين بعض التوجهات السياسية التي سيطرت على دول أوروبية في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، وهي المرحلة التي تمكنت فيها بعض الأحزاب والحركات من الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، مسنودةً بإرادة الجماهير التي كانت تؤم المهرجانات الخطابية الحاشدة. 

وبصورةٍ مشابهة إلى حد ما، تروج الأحزاب والجماعات الشعبوية لبرامجها "البراقة"، وتخاطب مشاعر الجماهير لاكتساب زخم انتخابي ولتوسيع حجمها السياسي، حتى وإن كانت هذه الأحزاب لا تؤمن بالديمقراطية الليبرالية. إذ يصف بعض فلاسفة الفكر السياسي الشعبويةَ بأنها ديمقراطية غير ليبرالية وغير تعددية، فهي لا تميل إلى التشارك والالتقاء مع مكونات الطيف السائد، وتسعى للوصول إلى حالة تستطيع خلالها إدارة المشهد السياسي بمعزل عن التوجهات السياسية الأخرى.

خلاصة القول؛ منذ تأسيس الدولة القومية في مؤتمر صلح ويستفاليا 1648، وصولاً إلى النظام الحالي "شبه الأحادي القطبية"، مروراً بالحرب الباردة؛ تكيّفت الأنظمة السياسية الغربية مع مختلف التحديات السياسية، وعملت على امتصاص واستيعاب التغيرات المجتمعية، مما أكسبها المنعة لتجاوز مختلف الأزمات.

وفي هذه المرحلة الحرجة، يتعين على دول مجموعة السبع، تشخيص معضلة الفجوة الطبقية، والبحث عن طرق مُلزمة تحد من تكدس الثروات في اتجاه بعينه؛ تجنباً لحدوث تغيرات مفاجئة في البيئة المحلية، سواء عبر صناديق الاقتراع أو عبر تمرد مدني واسع النطاق. فمن الضروري التوفيق بين السياسة والاقتصاد لضمان شكل من أشكال الاستقرار السياسي المحلي، والذي إن تعرض لهزة في أكثر من دولة مهمة، سيكون لهذه الهزة ارتدادات وخيمة على الأمن والسلم الدوليين.

 

 

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات