هل يمكن فصل روسيا عن نظام SWIFT؟

هل هناك نية أمريكية لفصل روسيا من المنظومة النقدية العالمية؟ وهل هي قادرة على هذا الفعل؟ وماذا ستكون التبعات؟ وكيف يتعامل حلفاء الولايات المتحدة وخصومها مع حقيقة تسيد واشنطن للنظام النقدي العالمي؟ ستحاول هذه القراءة التحليلية الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها التي تناقش القضايا المتعلقة بتجربة موسكو مع العقوبات الغربية وبالأخص في جانبها المالي.‎

الكاتب ستراتيجيكس
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ٢٣‏/٠٦‏/٢٠٢١

لا يخفى على أحد أن من بين أحد الركائز الأساسية لنفوذ الولايات المتحدة في العالم، هو قوة نظامها المالي وهيمنته على مجمل عمليات التجارة الدولية وسلاسل الدفع والائتمان المالي، فمنذ مؤتمر بريتون وودز الذي عُقد مع انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ جرى الاتفاق على اعتبار الدولار عملةً مكافئةً للذهب كغطاء نقدي، إلا أن هذا الاتفاق انهار في 1971 عندما أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق، ريتشارد نيكسون، فكَ ارتباط الدولار بالذهب وتعويم العملة الأقوى في العالم بتركها لسوق التداول ليحدد قيمتها بناء على العرض والطلب ومدى متانة الاقتصاد الأمريكي.

وصادقت اتفاقيات جامايكا التي وُقعت في عام 1976 على "صدمة نيكسون" وبالتالي الاعتراف بنهاية نظام "بريتون وودز" المالي، لكن وفي نفس الوقت لم يفقد الدولار بريقه ووزنه في التبادلات المالية الدولية، فقبل ذلك بثلاث سنوات جرى ربط تجارة النفط بالدولار حصراً؛ ما منح العملة الأمريكية سنداً سوقياً استراتيجياً. كما وشهد عام 1973 إنشاءَ منظمة SWIFT وهي اختصار لـ "The Society for Worldwide Interbank Financial Telecommunications" التي تُعتبر بمثابة البنية التحتية الأساسية للخدمات المالية في العالم، وتهيمن الولايات المتحدة على هذه المنظمة حيث إن غالبية العمليات المالية في العالم تجري بواسطة الدولار.

إن الوزن المالي الأمريكي في الاقتصاد العالمي، يتيح المجال للسياسيين في واشنطن بفصل أو التهديد بفصل خصومها السياسيين من النظام المالي العالمي أو الحد من قدرتهم على الحركة عبر فضائه، وقد تناولت مؤخراً العديد من التقارير الصحفية معلومات غير مؤكدة عن مساعي غربية لفصل روسيا من نظام SWIFT، وذلك بعد استلام الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لسلطاته بشكل رسمي في يناير الماضي، الذي ترافق مع ارتفاع منسوب التوتر السياسي مع موسكو على خلفية عودة عدم الاستقرار الأمني لشرق أوكرانيا، وإقدام السلطات الروسية على سجن المعارض ألكسي نفالني الذي يعمل على بث قيم "الديمقراطية الغربية" في المجتمع الروسي، إلا أن الإطار الأوسع للصورة هو تماسك التحالف الاستراتيجي الصيني الروسي وتزايد نفوذهما الجيوسياسي في العالم.

ويُشار إلى أن هذه ليست هي المرة الأولى التي يتم الحديث فيها عن إخراج موسكو من النظام المالي العالمي الأكثر انتشاراً، حيث لوَّحت المملكة المتحدة باستبعادها من نظام SWIFT في الفترة ما بين عامي 2014-2015 على خلفية انخراطها في الأزمة الأوكرانية وضم شبه جزيرة القرم، إلا أن هذه التهديدات كانت بحاجة إلى توافق أوروبي بالدرجة الأولى يتلوه مباركة أمريكية، وهذا ما لم يكن متوفراً بالنسبة لدولة مثل المملكة المتحدة التي كانت على وشك الدخول في نفق البريكست، وبالتالي فإن الموقف الأوروبي لم يكن منسجماً ومتقبلاً للسير وراء هذا الاقتراح اللندني.

إن الآثار السلبية التي لحقت بالاقتصاد الروسي من جراء فرض العقوبات الاقتصادية في 2014 - والتي كان من أبرزها هروب رؤوس أموال تجاوزت 317 مليار دولار في الفترة الممتدة ما بين عامي 2014 و2018 - من الممكن وصفها بأنها صورة مبدئية وبسيطة لما يمكن أن يحدث إذا ما جرى فصل روسيا من نظام SWIFT.

وفي وقت التهديدات البريطانية، صرح وزير الاقتصاد الروسي السابق، ألكسي كوديرن، بأن خطوة كهذه يمكن أن تقلص الناتج المحلي الإجمالي الروسي بواقع 5٪، كما ووصف رئيس الوزراء الروسي آنذاك، ديمتري ميدفيديف، بأن تطبيق هذه الخطوة هو بمثابة "إعلان حرب".

الخطة الدفاعية الروسية، أم سيناريو يوم القيامة؟

في النسخة الأخيرة من منتدى بطرسبورغ  الاقتصادي الدولي "SPIEF" الذي عُقد في الفترة ما بين 2-5 يونيو 2021، قلّل المندوب الروسي الدائم لدى الاتحاد الأوروبي، فلاديمير تشيجوف، من احتمالية أن تكون هناك آثار كارثية على الاقتصاد الروسي بعد فصل بلاده من نظام SWIFT، كما أنه استبعد أن تكون الأخبار الواردة عن إمكانية قيام الغرب بهذه الخطوة مستندة إلى معطيات واقعية، وهذه الثقة التي يتحدث بها تشيجوف تدعمها تصريحات مدير إدارة التعاون الاقتصادي في وزارة الخارجية الروسية، ديمتري بيريشيفسكي، لوكالة نوفوستي للأبناء في مايو الماضي، والتي تحدث فيها عن استعداد روسيا لهذا السيناريو.

يمكن القول إن موسكو راقبت بحذر شديد ما يحدث في إيران جراء فصلها من النظام المالي العالمي، وما نتج عن ذلك من انهيار دراماتيكي للمؤشرات الاقتصادية وانهيار قيمة العملة الوطنية ونقص المعدات اللازمة للبدء أو لاستكمال العديد من العمليات الإنتاجية، وهذا ما جعل الروس يستعدون لما هو قادم بالأخص أن إيران عانت بدرجة أكبر باعتبارها دولة تستند بشكل كبير على تصدير النفط لرفد الخزينة وهذا هو الحال في روسيا، فعلى سبيل المثال بلغت عائدات تصدير النفط الروسي ما بين عامي 2011-2013 في فترة ارتفاع أسعار النفط عالمياً 394 مليار دولار، كما وكانت حصة عائدات النفط من الناتج المحلي الروسي 10٪ في عام 2018.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاستعداد دعمته تجربة الاقتصاد الروسي لبعض هذه المشاهد، حيث تم وضع عدد من البنوك الروسية في أبريل 2014 على القائمة السوداء الأمريكية، وتبع ذلك تعليق الخدمات التي تقدمها أنظمة الدفع Visa وMaster Card وبالتالي خرجت حوالي 500 ألف بطاقة ائتمان خارج الخدمة، وقد جاء هذا الإجراء من ضمن جملة عقوبات اقتصادية استهدفت شركات ومؤسسات روسية أدت إلى انهيار قيمة الروبل، والتي تقاطعت مع انهيار أسعار النفط في نهاية عام 2014.

أدركت السلطات الروسية المعنية بأنه لا بد من التحضّر لسيناريو عزل نظامها النقدي والمصرفي، فبدأت بتطوير نظام SPFS (System for Transfer of Financial Messages) الذي جرى العمل على إنشائه منذ عام 2014 ليدخل الخدمة في نهاية 2017، ولكي يكون مكافئاً لنظام SWIFT، وترافق ذلك مع إطلاق Mir وهي شركة فرعية مملوكة بالكامل للبنك المركزي الروسي وتهدف إلى تأسيس نظام دفع عبر البطاقات الائتمانية، ليكون بديلاً عن Visa وMaster Card، لكن هذه الأنظمة ما تزال تعاني من العديد من المشاكل التقنية، فعلى سبيل المثال يعمل نظام SPFS في أوقات دوام المؤسسات الرسمية فقط، كما أن تكلفة العمل به أعلى على البنوك، بالمقارنة مع نظام SWIFT الذي يعمل على مدار الساعة في جميع أيام الأسبوع، أما بالنسبة لبطاقة Mir فلا يتم استخدامها بحُرّية إلا في روسيا وأجزاء من بيلاروسيا وجورجيا وأبخازيا وتركيا، كما أنه جرى تجميد عمل هذا النوع من البطاقات المصرفية في فنزويلا بعد اندلاع الأزمة هناك عام 2019.

إن المشاكل الفنية في محاولات روسيا لإيجاد نظامها المالي الخاص تمثل تحدياً كبيراً لتسيير الاقتصاد الروسي في ظل العقوبات المالية، لكنها وفي الوقت ذاته تنذر من أن هناك قدرة على إيجاد البديل، فإذا ما جرى فصل روسيا من SWIFT سيكون بإمكانها رفع مستوى تعاونها الاقتصادي مع الصين والوصول إلى المنافذ الاقتصادية عبر المنظومة المالية الصينية CIPS): Cross-border Interbank Payment System) التي أُنشئت في 2015، والتي تعمل على إجراء التسويات المالية بالإيوان إلا أنها تمتلك مذكرة تفاهم مع منظمة SWIFT، ويُذكر أن الصين وروسيا كانتا قد أزاحتا الدولار من التبادلات التجارية فيما بينهما في 2019.

‎⁨صورة-داخلية⁩.jpg-فصل-روسيا-عن-نظام-swift-هل-هو-ممكن؟‎‎.jpg

النظر إلى سياسة العقوبات بشكل إيجابي

إن تطور الأنظمة السياسية اجتماعياً واقتصادياً وما ينجم عن ذلك من تنامي النفوذ والمنافسة مع الولايات المتحدة في إطار تنافر مصلحي تَظهر أحد أبرز معالمه في عدم الاتفاق على الدولار كعملة عالمية، كل ذلك دفع الفاعلين الدوليين في أوروبا وآسيا ومناطق أخرى من العالم إلى إيجاد بدائل، بالأخص بعدما أبرزت الفترة الرئاسية للرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، سهولةَ انجرار المنظومة السياسية الأمريكية بأكملها إلى حالة من عدم الاستقرار؛ ما ينعكس بشكل سلبي على كل العالم بالنظر إلى الامتداد التاريخي للاقتصاد الأمريكي في العالم.

بعبارة أخرى، لا أحد بمأمن من ردات الفعل الأمريكية التي قد يكون من الصعب التنبؤ بها على المدى المتوسط، حتى بالنسبة للحلفاء الأوروبيين الذين يفكرون بخفض ارتباط واعتماد اقتصاداتهم على الدولار الأمريكي، وهذا ما كشفت عنه المفوضية الأوروبية في 19 يناير 2021 وذلك بهدف حماية الشركات الأوروبية في حال فرضت الولايات المتحدة عقوبات على شركات تمتلك علاقات تجارية مع أوروبا، إذ يسعى المسؤولون الأوروبيون إلى عدم تكرار السيناريو الذي باء بالفشل والمتمثل في أداة INSTEX: Instrument in Support of Trade Exchanges، حيث إن هذه الأخيرة هي أداة مالية ابتكرتها كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا إلى جانب إيران لتسهيل إجراءات التبادل التجاري على إثر قيام إدارة ترامب بشن حملة الضغوطات القصوى على طهران بعد الانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاق النووي الإيراني في عام 2018.

هذا الحماس الأوروبي للاستقلال المالي عن الولايات المتحدة، يدعمه عاملان مهمان، الأول هو تزايد حجم المدفوعات العالمية باستخدام اليورو في نظام SWIFT، حيث بلغت هذه المدفوعات في نوفمبر 2020 مستوى 37٫8٪ مقابل 37٫6٪ لصالح الدولار وتُعتبر هذه هي المرة الأولى منذ عام 2014 بحسب المحلل السياسي أندريه كادومتسيف في تقريره المنشور في فبراير 2021 عبر مجلة "Modern Diplomacy" والذي يشير فيه (وهذا ما يمكن اعتباره عاملاً ثانياً) إلى أن الأوروبيين يسعون لإيجاد مكان لعملتهم في ظل النزاع الصيني الأمريكي القابل للتصاعد حتى مع وجود إدارة بايدن التي تنتهج سياسة ترامب ذاتها تجاه الصين لكن بنبرة غير واضحة كسابقتها.

وبناء على ما سبق، وبالعودة إلى إمكانية فصل روسيا من نظام SWIFT، فهذا ممكن من الناحية النظرية بالطبع، لكن من المستبعد أن تُقْدِم عليه الولايات المتحدة في الوقت الراهن لأكثر من اعتبار:

1. عدم الرغبة في زعزعة موقف حلفاء وخصوم واشنطن تجاه مكانة الدولار العالمية، والخوف من انحدار هذه الثقة بشكل مفاجئ؛ وهذا ما تدل عليه محاولات الانفكاك عن هيمنته.

2. سعي إدارة بايدن ومن قبلها إدارة ترامب إلى إحداث شرخ في العلاقات الاستراتيجية الصينية الروسية، من خلال محاولة الجانب الأمريكي استمالةَ الكرملين في بعض القضايا، ويمكن قراءة القمة التي عُقدت بين بايدن وبوتين في العاصمة السويسرية جنيف في 16 يونيو 2021، في سياق هذا السعي الأمريكي.

3. احتلال روسيا المركزَ الثاني كمصدّر للنفط والمواد البترولية للولايات المتحدة بحسب إحصاءات إدارة معلومات الطاقة التابعة لوزارة الطاقة الأمريكية، حيث بلغت حجم الواردات النفطية الأمريكية من روسيا 538 ألف برميل يومياً خلال عام 2020.

إن سياسة العقوبات المالية الأمريكية باستخدام منظومة SWIFT وتنامي القدرات الاقتصادية للدول الأوروبية والصين وروسيا وغيرها وما يرتبط بذلك من تنافس في جميع المجالات التكنولوجية والعسكرية والسباق نحو الفضاء - هذا الشكل من تعقُّد مجالات التطور الإنساني لم يعد يسمح للولايات المتحدة بالاستمرار في الهيمنة على النظام النقدي العالمي بشكل أحادي، والتحكم بمصير مجتمعات ودول بأكملها، وبالتالي من المرجح أن نشهد في المدى المتوسط (3 - 5 سنوات) تطويرَ أنظمة المدفوعات الدولية في كل من أوروبا والصين وروسيا وربما الهند وفنزويلا وتركيا بشكل مستقل عن SWIFT، بما في ذلك اتخاذ خطوات أكثر جرأة فيما يخص إصدار العملات الرقمية المستندة على أصول حقيقية في البنوك المركزية المعنية، وحينها ستختلف البنية التحتية المالية العالمية مرة واحدة وللأبد.

 

 

 

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات