وزن الحضارات في مكيال الدول.. إيران وتركيا نموذجا

لا تنطلق مواقف إيران وتركيا إزاء التفاعلات والتغيرات في العالم من استجابة عفوية ولحظية، بل تعكس جذوراً تاريخية حددت المصالح والأولويات الوطنية لكلا الدولتين في مناسبات مختلفة.

الكاتب حسن إسميك
  • تاريخ النشر – ٠١‏/٠٧‏/٢٠٢١

لطالما شكّل الاصطدام ما بين القديم والحديث صراعاً متصلاً، يدخل في صلب كل عمل طامح لصناعة النفوذ أو لبناء المستقبل.. هذا ما نراه بشكل خاص عند الدول التي تنحدر من حضارات عريقة وتاريخ زاخر من الامتداد والهيمنة. وفي السياق العام لهذا الصراع “تتأرشف” بعض الدول وتتهمّش على الساحة العالمية بفعل انغماسها المفرط في تاريخها، في حين يلمع نجم البعض الآخر كقوة فاعلة ومؤثرة، بفضل إعادة تدوير ماضيها والاستفادة منه. فتارةً يدفع التاريخ الدول نحو التطور والمزيد من القوة، وتارة يسحبها نحو الخلف ويزيد من التحديات العامة تحدياً جديداً وثقلاً يعرقل مسيرة تقدمها.

يتوضح الصراع آنف الذكر، بشكل عملي وجلي، في حالة “إيران وتركيا”، إذ أن كل واحدة من هاتين القوتين الإقليميتين منشغلةٌ بالإرث التاريخي الخاص بها من جهة، ومنهمكة بإرساء الحاضر والتطلع إلى الغد من جهة أخرى، هذا عدا عن التنافس الصامت والحاصل بينهما في المشهد العالمي الحالي، رغم ما تبديانه من اتفاق حول عدة ملفات ساخنة في المنطقة، ورغم مظلة الإسلام السياسي التي تجمعهما. ولاستكمال مجمل الرؤيا المعاصرة التي تحيط بـ”الجارين اللدودين” في الوقت الحالي، لا بد من العودة إلى الماضي لاستكشاف التباين بين الحضارتين، دون التغاضي عن التاريخ الطويل والمشترك الناتج عن التقارب الجغرافي واللغوي، ناهيك عن تقاطع الأحلام التوسعية المتماثلة في مراحل القوة.

لا تنطلق مواقف إيران وتركيا إزاء التفاعلات والتغيرات في العالم من استجابة عفوية ولحظية، بل تعكس جذوراً تاريخية حددت المصالح والأولويات الوطنية لكلا الدولتين في مناسبات مختلفة، فلطالما انطلقتا من الإرث الإمبراطوري الذي يمتد بالنسبة إلى إيران (الفارسية) إلى ما قبل الميلاد وحتى ظهور الحقبة الإسلامية، في حين يمتد بالنسبة إلى تركيا إلى أكثر من ستة قرون تقريباً، يوم اكتملت الشخصية التركية “الهجينة” – المعتمدة على الثقافات التي وطئت وأحاطت بأرضها – على يد العثمانيين.

وفي سياق الحديث التاريخي عن الحضارات، تؤخذ دائماً بعين الاعتبار المظاهر المختلفة والعديدة التي ميزت حضارة ما عن أيّ حضارة أخرى، وهذا ما يتجلّى واضحاً في الوجود الفارسي في المنطقة منذ بداياته المبكرة وحتى أفوله، حيث أورثَ الفرسُ التاريخَ البشري جملة من الإنجازات في كافة المجالات، إذ كانت حضارتهم مركزاً عالمياً للثقافة والعلوم والفن والموسيقى آنذاك، عدا عن نموذجها الناجح في الإدارة المركزية، واستخدام لغتها الرسمية في جميع الأقاليم التي كانت تحت سيطرتها، فقد ضمّت تحت جناحها مجموعة من أبرز المواقع الحضارية في العالم القديم، مثل: بلاد الرافدين ووادي النيل ووادي السند الهندي، وكان الفرس بذلك أول من أنشأ شبكة تنقلات تجارية تربط بين القارات الثلاث أفريقيا وآسيا وأوروبا.

لاحقاً، قام الفتح العربي بإنهاء تلك الإمبراطورية القوية، بيد أن الشخصية الفارسية الصامدة عبر الزمن، استطاعت وبليونة تامة أن تتماهى مع الإسلام تحت عباءة الأمجاد القديمة، فنقشت فصلاً عُدّ من أبرز فصول التاريخ الإسلامي في العالم، حيث ولّدت كوكبة عظيمة من الفلاسفة والعلماء الذين أنتجوا كمّاً هائلاً من العلم والمعرفة والأدب وحتى الطب، وأنشأ الصفويون فيها حضارةً تمزج بين العقل والروح، ما جعلها تتميز بين الأمم كعادتها.

بالمقابل، لم ينضج الوجود التركي كقوة فاعلة ومؤثرة في المنطقة إلا بعد أن انهارت الإمبراطورية البيزنطية على يد العثمانيين المسلمين في القرن الخامس عشر للميلاد، فكان فتح القسطنطينية 1453 م – معقل المسيحية الشرقية – منعطفاً تاريخياً مهماً في تحول الإمارة العثمانية إلى دولة قوية، تسعى إلى التوسع بعيداً بذريعة نشر الإسلام في العالم. وبالفعل.. رفرفت الراية العثمانية في المراحل اللاحقة على أجزاء واسعة من آسيا وأوروبا وأفريقيا، بعد “دحر” التوسع الصفوي الفارسي من عدة مناطق. لقد نصّب الحكام العثمانيون أنفسهم “خلفاء” للمسلمين لإعطاء أنفسهم الشرعية الدينية لحكم الأمم المسلمة في البلدان المجاورة، لكنهم لم يتبنوا القيم الإسلامية الحقة فتركوا وراءهم تاريخاً مكدساً بالمجازر والحروب والتفرقة بين الشعوب، لفرض الهيمنة والاستحواذ على السلطة المطلقة.

لقد اتسمت الفارسية والعثمانية على حد سواء بالنزعة التوسعية، لكن الأولى حملت إلى جانب ذلك كل صفات الحضارة العظيمة فجمعت ما بين القوة والإنجاز والإبداع والعقل والإرادة، في حين كان العثمانيون قوة كبيرة فقط، فنشرت التخلف والتقهقر الحضاري في معظم ما احتلته من دول. ولأن التاريخ يستند على المقولة الآتية “لا شيء يزول زوالاً تاماً، وإنما هي الأشياء نفسها تأخذ مع الأيام صوراً شتى”، تعكس سياسة إيران الإقليمية الحالية فلسفة أمة ودولة كاملة وتطلعاتها، ولا يتوقف ذلك على التحول الحاصل في صلب صيرورتها بعد ما يسمى “الثورة الإسلامية” في النصف الثاني من القرن العشرين، ما يعني أن الدور الإيراني لا يرتبط بالنظام الحاكم في طهران، وإنما يدخل في صلب الموقف القومي لنسيجها المحافظ على وحدته عبر الزمن. وعلى النقيض من ذلك، يكشف الدور التركي في المنطقة عن فلسفة حزبها الحاكم وحده، ما يفضي إلى تغير المواقف تبعاً لتغير حاكمها والسلطة الممنوحة له. على ما يبدو أن إرث الإمبراطوريات القديم يتجلى أمامنا بوضوح، كاشفاً لنا حقيقة التمايز بين البلدين.

لا ينفي هذا الاختلاف بين الدولتين في التعاطي مع إرثيهما التاريخيين، وجود بعض التشابه في الأثر الدولي العام، إذ يكاد نظاما الحكم يتماثلان في مقاربتهما للعديد من القضايا على الصعيد العالمي، حيث تحاول إيران دائماً أن تنتزع لنفسها مكانة على خارطة النفوذ الدولي، ولا تتردد بالانفتاح على القوى العظمى متى اقتضت الحاجة، ومحاولاتها كسب الرهان النووي مع الغرب خير دليل على ذلك. وفي الوقت ذاته، لا يمكن إغفال أن تركيا هي عضو فاعل في حلف شمال الأطلسي منذ خمسينات القرن العشرين، وأحد أكبر جيوشه، ناهيك عن مساعيها الملحّة والمستمرة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

ومع تراجع الأدوار العربية خلال القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، واحتدام الصراع بين المشاريع الإقليمية المختلفة في المنطقة المتأزمة، نشط الدوران الإيراني والتركي في المشهد العام، وتمت إعادة إحياء التنافس التاريخي بين هاتين القوتين على النفوذ والهيمنة. وبحكم الرابطة الدينية التي جمعت كلاً من الدولتين مع العرب عبر قرون طويلة، سرعان ما ترتب على هذا الصراع أن أصبح الانتماء الطائفي هو الذي يحدد كفة الميل للأنظمة العربية نحو أيّ من النظامين اليمينيين المحافظين في طهران أم أنقرة.

ولا يمكن هنا إلا المرور على العداء العربي بشكل عام، والخليجي بشكل خاص تجاه إيران، والذي يمكن إعادته إلى جملة من الأسباب كان من أهمها استغلال طهران السياسي للدين وللمذهبية، ومحاولة تصدير الثورة لتحقيق الأطماع التوسعية في المنطقة، عدا عن “قلق المكانة” الناتج عن المنافسة القديمة/المتجددة بين الحضارتين العربية والفارسية. في حين مالت الكفة العربية الرسمية، في مناسبات كثيرة، نحو تركيا لاعتبارات مرتبطة بادعائها خلافة المسلمين عبر قرون طويلة، على الرغم من احتلالها – المسمى فتحاً – لمعظم أجزاء العالم العربي الإسلامي قرابة أربعمئة عام تكاد تخلو من أيّ إرث حضاري، اللهم عدا المجال العمراني في بعض المدن العربية القريبة من العاصمة إسطنبول.

وعلى الرغم من أن الخلاف العربي حول أيّ الدولتين هي الأجدر بالتحالف معها ما يزال في أوجه، إلا أن المقاربة الموضوعية للأمر تؤكد أن التقارب المذهبي “السني” مع تركيا غير كافٍ أبداً، بالمقابل فإن توقف إيران عن توظيف الاختلاف المذهبي في الشأن السياسي، وعن محاولاتها المستمرة تصدير “ثورتها” إلى الدول العربية بما يهدد أمن العرب وسيادتهم، يجعلها الحليف الأفضل. على أمل وفي انتظار أن تستعيد الدول العربية بعضاً من قوتها ومكانتها، لتشكيل شخصية عربية قادرة على حمل همومها بنفسها، دون الاستناد إلى إيران أو تركيا أو سواها من القوى الإقليمية الأخرى.

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS