هل نشهد اختراقًا في صورة أمريكا لدى حلفائها في الشرق الأوسط؟ وما التحديات؟

تشهد العلاقة بين حلفاء الولايات المتحدة تغيراً جوهرياً من التنافس والتحالفات والاستقطابات إلى التواصل والحوار والتعاون في مجالات الأمن والطاقة والمياه والنقل والتنسيق العسكري، الأمر الذي يرافقه تحولاً في الالتزام الأمريكي تجاه الشرق الأوسط نحو منطقة الإندو-باسيفيك، وعليه يُقدم الباحث محمد برهومة قراءة لتغير خارطة العلاقات بين حلفاء واشنطن والإجابة على السؤال الرئيسي: هل تتمكن هذه التحولات من ملء الفراغ الاستراتيجي الناشئ عن الإنكفاء الأمريكي؟

الكاتب محمد برهومة
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ٠٢‏/٠١‏/٢٠٢٢

إن تنامي أدوار الأطراف الإقليمية، خصوصاً الحليفة للولايات المتحدة، في التعاون المشترك في مجالات الأمن والطاقة والمياه والنقل وتطوير التنسيق العسكري ومواجهة التهديدات، ربما يُشكّل اختراقاً في صورة أمريكا لدى بعض النخب السياسية والعسكرية والأمنية المؤثرة في المنطقة. واستمرار هذا الاختراق الجزئي والنسبي في صورة أمريكا لدى حلفائها في الشرق الأوسط مرتبط بأمرين اثنين: أولهما أن تؤدي الديناميات الإقليمية الجارية إلى تخفيف حدة العنف والأزمات وتمكين التسويات، وبالتالي تعزيز الاستقرار، وثانيهما أن تتمكن أدوار الأطراف الإقليمية المتنامية من خلق ترتيبات مستدامة تتمكن تدريجياً من ملء الفراغ الاستراتيجي الناشئ في المنطقة من تراجع أدوار العواصم العربية الكبرى منذ نحو عقدين، ومن تحولات الدور الأمريكي في الشرق الأوسط.

والبيئة الانتقالية التي تعيشها بلدان الشرق الأوسط تتراجع فيها بعض أدوار الولايات المتحدة المعهودة في العقود السابقة وتتقدم بعض أدوار الأطراف الإقليمية في تشكيلٍ جديدٍ للشرق الأوسط. الأمر على صلة وثيقة بتحوّلات التنافس في النظام الدولي المستمرة منذ سنوات، ومع هذه التحولات بات "مبدأ كارتر" صفحة من الماضي، وانتقل هذا التنافس، مع صعود الصين، من الشرق الأوسط إلى منطقة "الإندو-باسفيك".

ولعل القاسم المشترك بين أشكال وأدوار الأطراف الإقليمية المتنامية باتجاه التعاون، هو أن التواصل والحوار يتقدم على سياسات الاستقطاب والمحاور، وأن الأولويات الاقتصادية وتوسيع مِروحة المصالح التجارية والمنافع البراغماتية تتقدم على الأولويات الأيديولوجية، وأن ثمة اتفاقاً أوسع على تمكين الدولة الوطنية على حساب أدوار الوكلاء واللاعبين ما دون الدولة (non-state actors). وهذا مرتبط بتحولات أجرتها الأطراف الإقليمية تجاه بعضها بعضاً، كما ارتبط أيضاً بتحولات في أوزان اللاعبين أو في أوزان شركائهم وحلفائهم ووكلائهم المحليين، كما وجدنا، مثلاً في تراجع أسهم جماعات الإخوان المسلمين، خلال السنوات الثلاث الماضية، في السودان وتونس والمغرب...، وفي مواقف تركيا من قيادات الإخوان المسلمين لديها ومنصاتهم الإعلامية على أراضيها، ما أفسح في المجال لانزياحات في المواقف المصرية والإماراتية تجاه تركيا، وبالتالي انزياحاً في قائمة مهددات كل طرف.

تجليات تنامي التنسيق وتعميق الشراكات

تنامي أدوار التنسيق والتعاون وتعميق الشراكات لدى الأطراف الإقليمية الحليفة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وجدناها، مثلاً، في:

1. مشروع "الشراكة التنموية الثلاثية" بين الأردن ومصر والعراق، الذي رأى الباحث الاستراتيجي المصري، عبد المنعم سعيد، أنه جاء استكمالًا للجهود المصرية في شرق البحر المتوسط، والتي دعّمت تعاونًا إقليميًا متعدد الأوجه شاركت فيه الأردن وفلسطين؛ وفي شمال البحر الأحمر حيث المشروعات المصرية السعودية المشتركة في مجالات الطاقة والتنمية؛ وبين هذا وذاك حينما بات ممكنًا فتح الحدود بين الأردن وسوريا مضافًا إليها مد الغاز المصري بينهما ليسهم في احتواء الأزمة اللبنانية المحتدمة.

2. اتفاق التعاون الأمني والعسكري بين المغرب وإسرائيل الذي وقِّع في الرابع والعشرين من نوفمبر 2021، ويُمكن الدولتين من تبادل التكنولوجيا والتعاون في مجالات التصنيع الدفاعي.

3. إعلان نوايا بين الأردن وإسرائيل بتمويل إماراتي ورعاية أمريكية في مشاريع الطاقة الشمسية وتحلية المياه التي أعلن عنها في 21 نوفمبر 2021.

in-1-(1)-(1).jpg-هل-نشهد-اختراقاً-في-صورة-أمريكا-لدى-حلفائها-في-الشرق-الأوسط.jpg

4. مناورات البحر الأحمر الأولى من نوعها بين إسرائيل والولايات المتحدة والإمارات والبحرين، لحماية الأمن البحري وضمان حرية الملاحة.

5. بيان الرباعي الأمريكي-البريطاني-السعودي-الإماراتي في نوفمبر حول دعم الحوار بين المكونين العسكري والمدني في السودان وضرورة عودة الحكومة المدنية الانتقالية.

6. وفي الثامن عشر من أكتوبر تشكلت نواة "رباعية جديدة" في الشرق الأوسط عقب مشاورات بين وزراء خارجية أمريكا والهند وإسرائيل والإمارات للتعاون في ملفات عدّة منها الأمن البحري والطاقة.

7. إعلان السلطات الإيرانية عن افتتاح طريق تجاري بين تركيا والإمارات عبر إيران بهدف اختصار مدة الرحلات التجارية إلى 8 أيام بعد أن كان نقل البضائع من ميناء الشارقة بالإمارات إلى ميناء مرسين التركي عبر مضيق باب المندب وقناة السويس والبحر الأحمر يستغرق 20 يوماً.

8. لقاء ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، بالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في نوفمبر 2021، والإعلان عن توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم في قطاعات اقتصادية متعددة.

صورة أمريكا

والحقيقة أن هذا الحراك وتنامي أدوار الأطراف الإقليمية، خصوصاً الحليفة للولايات المتحدة، في التعاون المشترك في مجالات الأمن ومعالجة تحديات التغير المناخي والطاقة وتطوير التنسيق العسكري، ربما يُشكّل، بدرجة ما، اختراقاً في صورة أمريكا لدى بعض النخب السياسية والعسكرية والأمنية المؤثرة في المنطقة والقريبة من واشنطن، والتي (أيْ الصورة) عادةً ما تُختَزَل في ثنائية أمريكا القوة الساحقة والدولة العظمى الحازمة بشكل مطلق (حرب الخليج الثانية 1991، والتدخل في العراق عام 2003..) أو أمريكا المترددة والتي لا تريد أن تكون شرطي العالم ولا الغرق في مستنقع الحروب الشرق أوسطية وصراعات الآخرين.

إذاً، هذه المرحلة الانتقالية في البيئة الأمنية والاستراتيجية في الشرق الأوسط تظهر فيها بشكل جلي ديناميات متعددة ومحاولات متنوعة لتمكين الحلول الإقليمية، والسعي (غير المنظّم في الحقيقة) لأخذ زمام المبادرة (من طرف حلفاء واشنطن) في توسيع جوانب الشراكات والتعاون الإقليمي، والتكيّف مع مرحلة جديدة يقل أو يبتعد فيها التدخل الأمريكي الكامل، ولم تعد فيها الولايات المتحدة اللاعب العالمي الوحيد في منطقة الشرق الأوسط.

تجربة الحلول الإقليمية

لكنّ تجربة الحلول الإقليمية كما ظهرت، مثلاً، في التدخل التركي في شمال سوريا منذ سنوات، لم تكن مشجعة في إطار توجّه إداراتي الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترامب لتحميل حلفاء الولايات المتحدة جزءاً من مسؤولياتهم في حماية مصالحهم وإدارة أزماتهم وضبط جزء من الأمن الإقليمي.

وحين ناقش كريستيان هيلر، الباحث في دراسات الشرق الأوسط، أسباب غياب "ناتو شرق أوسطي" خلص إلى أن "هدف الولايات المتحدة المتمثل في تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط من خلال إنشاء تحالف أمني مؤيد لأمريكا مع تقليل التزاماتها بشكل كبير يمثّل معضلة مروعة، ومن المرجح أن يثبت أنه مستحيل". وقد استعرض هيلر فشل تجارب ومحاولات العمل الجماعي المشترك، سياسياً وعسكرياً، خلال الستة عقود الماضية في الشرق الأوسط، ولعل آخرها التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط (ميسا)، الذي كُشف النقاب عنه للمرة الأولى في أثناء زيارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، إلى السعودية في مايو 2017. وقد أعاد هيلر أسباب عدم وجود "ناتو شرق أوسطي" إلى انعدام الثقة بين الفاعلين السياسيين في المنطقة، وتباين أهدافهم، وضعف أو افتقار إمكانية التشغيل البيني العسكري بين الكثير منهم.

كانت فكرة المشروع محاولة أمريكية لتشكيل ترتيب أمني إقليمي جديد في الشرق الأوسط، يضم مجلس التعاون الخليجي إلى جانب مصر والأردن، يدمج الأمن العسكري بالأمنيْن الاقتصادي والسياسي، ويستهدف:

1. مواجهة التهديدات الإيرانية

2. تقليل الالتزامات العسكرية والمالية الأمريكية في الأمن الإقليمي الشرق أوسطي

3. التقدم في استراتيجية "تقاسم العبء" (Burden-sharing) الأمريكية وتمكين الجهات المحلية الحليفة من بذل الجهود المنظمة في التعاون المشترك على حماية الأمن في المنطقة

4. ضمان عدم ملء الفراغ من قبل الصين أو روسيا ومواجهة نفوذهما في الشرق الأوسط

وقفت أسباب عديدة وراء عدم تحقق  مشروع "ميسا"، ومن أبرز ذلك "الأزمة الخليجية" بين قطر و(السعودية ومصر والإمارات والبحرين)؛ وقد ركّز وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، لدى تعليقه على مشروع "ميسا" على أن من المهم حل الأزمة أولاً.

المصالحة الخليجية واتفاقيات السلام

في الواقع، طرأ حدثان كبيران جديدان خلال ما يزيد على عام منذ الآن، هو أنّ الأزمة الخليجية تم حلّها مبدئياً في قمة العُلا في السعودية في يناير 2021، والثاني هو توقيع اتفاقيات سلام رسمية بين إسرائيل ودول عربية. السؤال: هل يصنع هذا الحدثان فرقاً؟ والإجابة تبدو على الأرجح: "نعم، ولكن"، وهو ما سنوضحه في ما بعد.

وفي الشهر الماضي، جدد وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، في حوار المنامة في نسخته السابعة عشرة، دعم الولايات المتحدة لاتفاقيات السلام الحديثة مع إسرائيل، مشيراً إلى أن تلك العلاقات الجديدة تفتح فرصاً للازدهار المشترك والتعاون الأمني.

in-2-(3).jpg-هل-نشهد-اختراقاً-في-صورة-أمريكا-لدى-حلفائها-في-الشرق-الأوسط.jpg

المصالحة الخليجية واتفاقيات السلام قد يفتحان بعض النوافذ لتنشيط  صيغة "الحلول الإقليمية" لبعض ملفات المنطقة أو تمكين التسويات والحلول الدبلوماسية وتعزيز إجراءات بناء الثقة وتنحية الأدوات العسكرية في حسم الخلافات.

الطريق الوسط

وفي البيئة الأمنية والاستراتيجية الانتقالية التي تمرّ بها منطقة الشرق الأوسط، يبقى التساؤل عن الدور الأمريكي مركزياً للغاية، وهو ترابط يتشكل بمشاركة أمريكية جوهرية، برغم تعقيدات الحديث عن تخفيف البصمة العسكرية الأمريكية في المنطقة.

ربما ينبغي أن تنصبّ الجهود للخروج من طريقين لم تكن نتائجهما مثمرة ومريحة بما يكفي. فالطريق الأول، وهو ترك بعض الأمور لشركاء واشنطن في الشرق الأوسط لإدارة بعض الملفات بأيديهم قاد في السنوات الماضية إلى سياسات متهورة، وبدلاً من تخفيف الصراعات فاقمتها. أما الطريق الثاني فهو أن تبقى واشنطن تُظهِر صورتها كـقوة ساحقة تفي بالتزاماتها وترغب في التعامل مع مصالح شركائها التقليديين على أنها مصالحها الخاصة والاستراتيجية. ومن أجل الخروج منهما تطرح مؤسسة راند ما يسمى التحالف المشروط، أي الذي لا يورّط واشنطن في خلافات وأزمات شركائها، ويعني التعامل مع إدارة المخاطر في المنطقة، وإعادة تقييم دور التحالفات والشراكات في استراتيجية الولايات المتحدة الكبرى بشكل عام، وبالتالي إعادة تعريفها لمصالحها. ولعل هذا يفضي إلى طريق وسط: بين التحالفات الأمريكية من دون قيود أو شروط على الشركاء والحلفاء، وبين الانسحاب الأمريكي والتخلي عن الالتزامات.

ومع أن كلام الوزير أوستن في حوار المنامة 2021 قوبل بالتشكيك بمدى التزام واشنطن بأمن حلفائها في الشرق الأوسط، فإن مسؤولي البنتاغون يقولون إن إدارة بايدن تحاول بدلاً من ذلك بناء إطار عمل جديد قائم على التعاون الأمني ​​بين دول المنطقة القريبة من واشنطن، وأنه سيكون هناك المزيد من التدريبات العسكرية المشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية، بما في ذلك على مواجهة الطائرات من دون طيار، التي أصبحت السلاح المفضل لإيران ووكلائها. ويؤكد هؤلاء المسؤولون أن ما تريده إدارة بايدن، في ظل بيئة استراتيجية جديدة، هو "تعزيز هذا التعاون الأمني ​​حتى نتمكن عند الحاجة من كيفية العمل معًا، وسيستفيد الجميع من ذلك. وهذا يعني أنه بالإضافة إلى جهودنا الدبلوماسية للعودة إلى الاتفاق النووي (مع إيران)، فإن تلك التدريبات المشتركة هي بمنزلة طريقة لإرسال إشارة (ردع) إلى إيران".

وعليه، فإن من العناوين الأساسية في هذه البيئة تصاعد أدوار اللاعبين الإقليميين. فانتخاب بايدن، وتوقيع اتفاقيات سلام حديثة مع إسرائيل، وتداعيات كوفيد-19 والموجبات المُلحة للبحث في كل السبل من أجل التعافي الاقتصادي، عوامل فتحت الباب واسعاً لإعادة تقويم السياسات الخارجية لدول المنطقة، وخلق تحالفات وأطر مشتركة، تضم طيفاً واسعاً من اللاعبين المتحالفين مع واشنطن، ممن باتوا يأخذون المبادرة في محاولة تشكيل حقائق جيوسياسية جديدة في الشرق الأوسط، في مجالات الدفاع والطاقة والمياه والأمن والتكنولوجيا والنقل، وفي مواجهة تحديات يرون أنها تأتي من إيران والجماعات المتطرفة. والمؤكد أن الطرفين الأخيرين، لا يقفان مكتوفي الأيدي. ومن جهتها تبحث طهران عن طرق لحفظ مصالحها والتواصل مع خصومها، وهذا كله يترك تأثيره على الأشكال الجديدة من تفاعلات الأصدقاء والمتنافسين والخصوم مع الملفات الخلافية بينهم.

التحديات

والمرجّح أننا نشهد نمطاً مختلفاً من نظرة الحلفاء إلى دورهم وإلى الدور الأمريكي، وكيفية إدارة البيئة الأمنية في الخليج وعموم الإقليم. ومع ذلك فهذه البيئة الانتقالية ما تزال تواجه العديد من التحديات، ومنها:

1. ما يزال مشروع واعد مثل "الشراكة التنموية الثلاثية" بين الأردن ومصر والعراق يلقى، برأي باحثين، عددًا من التحديات التى تدور حول العراق، الذى توجد فيه أطماع إيرانية وتركية ومصالح صينية وروسية، بعضها له علاقة بإعادة إعمار العراق، والبعض الآخر حول نقل البترول والغاز من العراق إلى بقية العالم، من دون المرور بالخليج العربي، المختنق بممر مضيق هرمز والتهديدات الإيرانية.

2. برغم ما يجري على مستوى الملف النووي الإيراني من تطورات، وبرغم التواصل السعودي-الإيراني أو الإماراتي-الإيراني، فإن هذه البيئة الاستراتيجية الجديدة لم تستقر معالمها النهائية بعد، ولم يتوصل اللاعبون فيها إلى بدء التوافق على إنشاء هيكل أمني جماعي، يُعالج مخاوفهم ويوسّع مصالحهم المشتركة، ويحدّ من نزاعاتهم وخلافاتهم.

3. ما تزال منصات للتعاون الإقليمي، تواجه قصوراً وغياباً للشمولية والتوازن البنّاء، فمنصة التعاون المتمثلة بمنتدى غاز شرق المتوسط تستبعد تركيا حتى الآن، وهي لاعب مهم في هذه المنطقة، وما يزال الانفتاح المصري والإماراتي على تركيا لم يصل إلى بحث هذا الاستبعاد أو البدائل الممكنة التي يجري التوافق عليها بين الأطراف المختلفة والمتنافسة. وهذا الأمر يتعلق أيضاً بمنصة اتفاقيات السلام الحديثة مع إسرائيل، التي لم تنجح حتى الآن في إشراك الطرف الفلسطيني في الديناميات الجارية. وما يزال هناك جهد كبير ينبغي بذله لتحقيق مقولة مفترضة ترى أن الطرف الفلسطيني سيكون رابحاً من هذه الاتفاقيات. والضغط الدولي والإقليمي يجب أن ينصبّ على الجانب الإسرائيلي لوقف الأعمال العدائية والمشاريع الاستيطانية في الضفة الغربية، وإنهاء الأعمال الاستفزازية في القدس الشرقية وعمليات الإخلاء القسري للفلسطينيين من بيوتهم في الضفة والقدس، فضلاً عن محاولات التيارات اليمينية والمتشددة في إسرائيل تغيير الوضع القائم في محيط المسجد الأقصى، بتغاضٍ من السلطات الإسرائيلية أحياناً، لغايات انتخابية وسياسية قاصرة، تُمعنُ في جعلِ حل الدولتين أكثر صعوبة وربما استحالة.

4. وعلى اتصال بالتحدي السابق، وجدنا أن مشروع أو إعلان النوايا الخاص بالطاقة الشمسية وتحلية المياه بين الأردن وإسرائيل وبتمويل إماراتي ورعاية أمريكية يُواجِه جدلاً واسعاً في الأردن، ومعارضة من جانب نخب سياسية وحزبية وبرلمانية، في ظل تنامي عدم الثقة بين الجانبين التي رسّختها حكومة بنيامين نتنياهو على مدى السنوات الماضية، واعتراضاً على أن يكون ملفا الكهرباء والماء في الأردن مرهونين بيد الطرف الإسرائيلي. وما يزال أمام حكومة بينيت-لبيد الحالية جهد كبير لتبديد الهواجس والشكوك الأردنية حول العديد من الملفات الخلافية بين البلدين، وإن كنّا نتفق على أن هناك تحسّناً أكبر في العلاقات بين عمّان وتل أبيب عمّا كان عليه الحال زمن حكم نتنياهو.

وتمثّل الاحتجاجات الأردنية غير الرسمية على إعلان النوايا المتعلق بالطاقة الشمسية وتحلية المياه تحدياً أمام بعض أشكال التعاون الإقليمي المهمة والمرتبطة بإسرائيل أو اتفاقيات السلام الحديثة معها، برغم أنه من الوارد أن تتمكن الحكومة الأردنية من إدارة واحتواء ذلك والمضي في المشروع. وقد وجدنا مثل هذه الحالة بعد التصعيد في قطاع غزة للمرة الرابعة في مايو 2021، حيث أكدت تلك الحرب أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل (أو القفز على) القضية الفلسطينية، وأن المسارات الأخرى غير كافية إن لم تتوازَ مع الدفع بحلول عادلة للقضية الفلسطينية، والدفع بخطوات عملية جادة وصادقة لإنهاء التوسع الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وحماية الحقوق الأردنية الثابتة والتاريخية في الرعاية الهاشمية للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس والمسجد الأقصى.

الخلاصة

والواقع، أنه إذا لم يتم بذل جهود حقيقية ومدروسة بعناية لمعالجة واحتواء هذه التحديات والمظالم، وغيرها بالطبع، فإن تمكين "الحلول الإقليمية" وحدوث اختراق في صورة الولايات المتحدة لدى حلفائها وشركائها في الشرق الأوسط، سيبقى قاصراً، وستتسم الحراكات الإقليمية، التي أضاءت عليها هذه الورقة، بكونها خطوات متفرقة، تتعارض أحياناً مع بعضها بعضاً، ما يعني أن سيناريوهات تصادم المصالح والعودة إلى مربع التنافر والاستقطابات والابتعاد عن معادلة رابح-رابح ستكون هي السيناريوهات الأكثر احتمالاً، وهو ما يمكن تجنُبّه في حال استخلاص الدروس المستفادة من التفاعلات الإقليمية خلال العقد الماضي، والتي قادت جميع الأطراف إلى طريق مسدود، دفعتهم إلى الاستدارة وتقديم تنازلات وإجراء تحولات، وهي تحولات مفيدة، وستكون مستدامة وشاملة وبنّاءة في حال عزمت الأطراف الإقليمية، وبرعاية أمريكية ودولية، على معالجة جوانب الخلل والقصور التي تنطوي عليها التحديات المذكورة آنفاً، وغيرها بالطبع.

معنى ذلك، أن استمرار هذا الاختراق الجزئي والنسبي في صورة أمريكا لدى حلفائها في الشرق الأوسط مرتبط بأمرين اثنين:

أولهما: أن تؤدي الديناميات الإقليمية الجارية إلى تخفيف حدة العنف والأزمات وتمكين التسويات، وبالتالي تعزيز الاستقرار ومحاولة تجنب المعادلات الصِفرية قدر المستطاع.

وثانيهما: أن تتمكن أدوار الأطراف الإقليمية المتنامية من اتخاذ خطوات استراتيجية فعّالة وليس مجرد تكتيكات، وبالتالي التمكن من خلق ترتيبات مستدامة وشاملة تتمكن تدريجياً من ملء الفراغ الاستراتيجي الناشئ في المنطقة.

 

 

 

 

 

*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.

محمد برهومة

كاتب وباحث أردني