هل من حراك اجتماعي يلوح في الأفق الفلسطيني؟

سيبقى الأمل بمستقبل فلسطين معقوداً بالقوة الحقيقية التي يمتلكها الشعب الفلسطيني نفسه، وبقدرته على صناعة التغيير الوطني المنشود، عبر عزيمة جيل الشباب واستعدادهم للنزول إلى الشوارع ورفع الصوت عالياً، وفرض إرادتهم بالقوة، ليس قوة السلاح طبعاً، بل قوة الشعب الباحث عن السلام والحياة الكريمة وحق تقرير المصير.

الكاتب حسن إسميك
  • تاريخ النشر – ٢٨‏/٠٦‏/٢٠٢١

تناقلت بعض المواقع العربية، أواخر شهر أيار (مايو) الماضي، أخباراً عن محاولات قام بها شبانٌ فلسطينيون للوصول إلى مقر الرئاسة في رام الله احتجاجاً على أداء الرئيس محمود عباس، أفشلها الأمن الفلسطيني الذي نفذ إجراءات أمنية مشددة للحيلولة دون وصول المحتجين إلى المقر قادمين من وسط المدينة!

 وأسأل نفسي: هل دقت أخيراً الساعة التي يقول فيها الفلسطينيون بالصوت العالي وبملء الحناجر "إنَّ القيادة الفلسطينية الحالية بحاجة إلى تغيير جذري وحقيقي، لأنها باتت جزءاً من المشكلة، بدل أن تكون أداة للحل"؟ وهل سنشهد "ربيعاً فلسطينياً" قادماً؟

 ليست أوضاع الفلسطينيين بأفضل حال من نظرائهم العرب، فلديهم من المظالم (كالفساد والإقصاء وسوء الإدارة الاقتصادية ونقص التمثيل وانعدام الثقة بالنخب الحاكمة وانهيار الخدمات الأساسية..) الشيء الكثير، والذي ربما يفوق ما دفع الآلاف إلى شوارع لبنان والعراق في العامين الماضيين. ومع ذلك، لم ينتفض الفلسطينيون – غير قادرين أو غير راغبين – ضد قادتهم، وغابت مثل هذه الاحتجاجات عن شوارع الضفة الغربية وقطاع غزة.

 يعود ذلك وضوحاً إلى وجود إسرائيل، واستمرار حالة الصراع وغياب السلام، تلك الحالة التي تحرص القيادات الفلسطينية نفسها على إبقائها، فهي الشماعة الكبيرة التي يمكن أن تُعلَّق عليها كل التجاوزات، وتسمح لـ"النخب" الحاكمة الفلسطينية بإعادة توجيه الانتباه الشعبي بعيداً عن عيوبهم وأخطائهم الفادحة، وعن الصراع الداخلي بين الفصائل الفلسطينية، والذي تستفيد منه اسرائيل، وبخاصة الفئات المعارضة للسلام فيها، فندخل في حلقة مفرغة من الاستفادة المتبادلة بين اليمينين الإسرائيلي والفلسطيني، ولا يروح ضحيتها إلا الفلسطينيون الباحثون فقط عن شيء من الحياة الكريمة.

 لكن، يبقى السؤال الأهم: ما الذي يريده الفلسطينيون اليوم، وخصوصاً الشباب منهم، هل يريدون وظائف ورواتب تمنُّ عليهم بها قياداتهم، أم أنهم يريدون وطناً بحق؟

 لا يذكر كثير من الشباب الفلسطيني آخر انتخابات فلسطينية أُجريت، فقد كانوا أطفالاً صغاراً عندما تمت قبل نحو 15 عاماً. كما أن القائمين في القيادة الفلسطينية اليوم ليسوا بالنسبة الى هؤلاء الشباب "حرساً قديماً"، بل إنهم الحرس الوحيد الذي يعرفونه!

تتفاقم هذه المشكلة كثيراً عندما نعرف أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مثلاً، والذي لا يزال في منصبه بعد 12 عاماً من انتهاء ولايته، يبلغ من العمر نحو 85 عاماً، في حين، وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن 69% من الفلسطينيين تقل أعمارهم عن 29 سنة، وتتراوح أعمار 24% منهم بين 18 و29 عاماً. إذاً، هنالك فجوة عمرية واسعة بين الفلسطينيين وقاداتهم يصل الفرق فيها إلى أجيال عدة.. ومن الطبيعي أن يرى "جيل الألفية" من الفلسطينيين أن حكامهم لا يمثلونهم بالشكل الأفضل، وأن أسلوب هؤلاء في القيادة لا يتماشى مع آراء الشباب وقيمهم وتطلعاتهم، الأمر الذي لا يعرقل متطلباتهم اليومية (من قبيل تحسين الظروف الاقتصادية، وتأمين الحقوق السياسية وحقوق الإنسان، والنهوض بالدولة) فقط، بل يشكل حجر عثرة أمام الهدف النهائي للفلسطينيين المتمثل في الاستقلال الوطني. وهذا أمر بات يعمّق حالة انعدام الثقة بين الفلسطينيين وقادتهم، ويزيد من شعورهم بالاغتراب والعزلة.

 عام 2019، أي قبل انتشار جائحة فيروس كورونا، كان نحو 60% من الغزاويين و28% من إخوتهم في الضفة الغربية عاطلين من العمل. قفزت هذه المعدلات عام 2020 لتبلغ النسب نحو 70% في غزة و35% في الضفة الغربية. وما زالت الوظائف الحكومية – وهي مصدر الرزق والعمل الرئيس في الضفة – تُعطى على أساس المحسوبيات، ما يجعل آلاف العائلات معتمدة على الدائرة المقربة من السلطة الفلسطينية. كذلك تُمنح العقود الحكومية الضخمة وصفقات الأراضي للموالين المقربين، فيهيمن رجال وسيدات الأعمال المتحالفون مع المجموعة "القليلة الحاكمة" على مختلف القطاعات الاقتصادية في شبكة واضحة من الاحتكارات.

 وفي استطلاع أجراه "الباروميتر العربي" عام 2019، رأى 84% و81% من المستطلَعين في الضفة الغربية وغزة تباعاً، أن فساد الدولة عندهم يتراوح ما بين المتوسط والكبير. وتتفاقم مشكلة هذا الفساد نتيجة اقترانه بسيطرة القيادة المطلقة على النظام القضائي ومحاكمه، الأمر الذي يجعل من أي حملة إصلاحية حقيقية لمكافحة الفساد أو حتى إدانته أشبه بـ"المهمة المستحيلة"، ومثلها محاولات أي تكنوقراط مصلحين محتملين للوصول إلى السلطة بالطرق "الديموقراطية" التقليدية، الأمر الذي ينفي الأمل بأي فرصة لتحديث الاقتصاد الفلسطيني وتحفيز خلق فرص عمل جديدة للشباب المتعلم والكفؤ. وهذا ما يثبت تماماً أن القيادات الفلسطينية "المستهلكة" الحالية، والتي لا تنفك تتحدث عن التغيير والإصلاح الداخلي، هي العقبة الأولى والرئيسة في وجه هذا التغيير والإصلاح.

 من الواضح أيضاً أن الأمن الفلسطيني يعمل - في ظل القيادات الحالية - على قمع وإفشال أي محاولات احتجاجية يقوم بها الشبان الفلسطينيون الذين تُكال لهم الاتهامات جزافاً، فتارة يوصفون بالدمى التي تحركها القوى الإقليمية، وتارة أخرى يصل الحال بمسؤولين فلسطينيين الى اتهام هؤلاء الشباب بالعمالة لإسرائيل، ومحاولة تغيير النظام بناءً على أوامرها، ويعيبون عليهم التحرك والمطالبة بحقوقهم الأساسية، بدل التوجه للاشتباك مع الجيش الإسرائيلي، بحجة أن الإصلاح "شأن داخلي"، وأن إجراء انتخابات كفيل بحل مشكلات الفلسطينيين، وهذا الأمر برأيي أبعد ما يكون عن الحقيقة.

 إنَّ أي متابع لمجريات الحدث الفلسطيني على امتداد العقد الماضي يعلم يقيناً أنه ليس بحاجة لانتظار نتائج الانتخابات القادمة – هذا إذا أُجريت – ليستنتج أن الأوضاع في الأراضي الفلسطينية ستستمر على ما كانت عليه قبل تلك الانتخابات، وسيتكرر المشهد الحالي من دون تغيير، فالأسماء ستظل نفسها مع تبديل بعض المواقع صعوداً أو هبوطاً، كذلك الأمر بالنسبة الى السياسات والنهج والأدوات، والتي ستبقى على حالها أيضاً.. ومثلها الفكر الإقصائي السائد، والجشع والفساد، وغياب القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة تتعلق بمصير دولة فلسطين وعملية السلام، وسيستمر الاحتلال باستثمار ذلك لتحقيق أطماعه وأهدافه، وأجرؤ هنا على القول إنه لا يلام، فكيف تطلب من محتل أن يحترم حقوق شعب وحرياته، بينما قيادة هذا الشعب لا تفعل ذلك؟

 لقد قدَّم الفلسطينيون، وما زالوا، تضحيات كبرى، يستحقون لأجلها أكثر بكثير مما يمكن أن تحققه القيادة الفلسطينية الحالية، أو أي قيادة أخرى مشابهة لها أو مشتقة منها.. ويبدو أن الشبان الفلسطينيين باتوا مدركين أن الوقت قد حان ليوجهوا جهودهم وتضحياتهم نحو الهدف المناسب، ولو كان مرحلياً، لأنهم يعلمون أن الانقلاب على الحكام الحاليين، واستبدال قيادات شابة بهم، تمثّل المجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج، وتحمل مشروعاً وطنياً عابراً للفصائل والمحسوبيات، سيكون وحده المساندة الحقة للقدس ولأحيائها ولشعبها ولمسجدها الأقصى، وسيكون الخطوة الأولى التي ستتبعها خطوات تحقيق السلام المنشود.

 (إذا كان العالم كله منحازاً لإسرائيل، أفلا ينحاز الفلسطينيون لأنفسهم؟) يتذرع المجتمع الدولي في تراجع تضامنه ودعمه للقضية الفلسطينية بعناد قياداتها وتمسكهم الشديد بجملة من المواقف الضيقة والجامدة والتي أثبتت فشلها بمناسبات مختلفة، وعجزها عن الإلمام بالأمور بشكل أشمل وأبعد نظراً.. ألم يحن الوقت ليسحب الشعب الفلسطيني منهم هذه الذريعة؟

 لا يمكن إنكار أن مسؤولية تغيير القيادة في فلسطين تقع على عاتق الفلسطينيين أنفسهم، بخاصة أنها استنزفت وتستنزف شعباً أضناه الاحتلال، وقدمت وتقدم تنازلات سخية بلا مقابل للمحتل ذاته، وما تزال مصرة على البقاء متذرعة بمعطيات سياسية انتهت صلاحيتها منذ عقدين من الزمن، وقيّدت نفسها بخيارات تفاوضية ضيقة مجحفة، بل ومهينة بحق شعب فلسطين، بدل أن تتكيف مع المعادلات والمعطيات السياسية المستجدة، وتخلق منها خيارات جديدة تحقق للفلسطينيين مكاسب حقيقية، فما كان مقبولاً في المراحل الماضية، لم يعد صالحاً اليوم على الإطلاق، وما كان يُعدّ في السابق إنجازاً، أصبح اليوم أقرب إلى الخسارة بالقياس إلى ما يمكن تحصيله.

 لقد أثبتت التغيرات السياسية التي قادها الشباب في البيئة العربية خلال العقد الأخير، سواء على الصعيد الرسمي أم الشعبي، أن تحطيم نظم الفساد واستبداد المصالح ممكن دائماً وقريب، كما أظهرت جلياً طاقات الشباب العربي وقدراته وإمكاناته، وبلورت وعيه بحقوقه واستعداده للتضحية في سبيل الوصول إليها. وما أظن أن موجة التغيير بعيدة عن شباب فلسطين اليوم، وقد وعوا تماماً ضرورة توحيد المجتمع الفلسطيني، واستعادة سيادة قراره، وضمان مستقبل أفراده.

 من جهة أخرى، لا بد من تأكيد ضرورة أن يتركز الوعي الوطني لدى الشباب الفلسطيني في توحيد صف شعبي غير مؤدلج ولا منحاز إلا الى مصالح الفلسطينيين وحقوقهم، بخاصة أن فشل السلطة وقياداتها أدى إلى جعل شريحة واسعة من الشارع تؤيد حركة "حماس" التي قامت بالمقابل بدغدغة عواطف الناس والعزف على وتر التجييش الديني لديهم، وترسيخ بروباغندا المقاومة والجهاد ضد المحتل. ولقد أدى فشل عباس من جهة، وإطلاق الصواريخ الحمساوية على إسرائيل من جهة ثانية، إلى فرض أيديولوجيا "حماس" على الفلسطينيين، وتمرير ادعاءاتها بأنها الحركة الوطنية الحقيقية والمدافعة عن حق الشعب، بالترغيب تارة، وبالترهيب تارة أخرى، أو نتيجة انعدام الأمل وانسداد الأفق تارة ثالثة. لكن نور الحقيقة لن يغطيه الغربال كما يقال، فالمتأمل في الواقع الفلسطيني المرّ يدرك بوضوح أن صواريخ "حماس" وادعاءاتها وشعاراتها لم تؤثر يوماً في إسرائيل، وهنا أتذكر ما خاطب به أنور السادات القيادة الفلسطينية التي رفضت الدخول في عملية السلام جنباً إلى جنب مع مصر، إذ قال حينها: "إن صاروخاً هنا وقنبلة هناك لا يحرران الأرض".

أخيراً.. سيبقى الأمل بمستقبل فلسطين معقوداً بالقوة الحقيقية التي يمتلكها الشعب الفلسطيني نفسه، وبقدرته على صناعة التغيير الوطني المنشود، عبر عزيمة جيل الشباب واستعدادهم للنزول إلى الشوارع ورفع الصوت عالياً، وفرض إرادتهم بالقوة، ليس قوة السلاح طبعاً، بل قوة الشعب الباحث عن السلام والحياة الكريمة وحق تقرير المصير.

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS