من أوكرانيا يبدأ بوتين معركته ضد الناتو.. وعالم ثنائي القطب بات واقعا

تجسد العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا تحولاً في الموقف الروسي من توسع حلف الناتو والعلاقات مع العالم الغربي، وهي الخطوة التي تؤسس لمرحلة جديدة قد يُسمع صداها في أركان النظام العالمي ما بعد الحرب الثانية

الكاتب حسن إسميك
  • الناشر – المصري اليوم
  • تاريخ النشر – ٢٤‏/٠٢‏/٢٠٢٢

منذ نحو عقد ونيف من الزمن، وتحديدًا عام 2007، وقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام مجموعة كبيرة من نخبة السياسيين والعسكريين والخبراء المجتمعين من مختلف بلدان العالم في مؤتمر الأمن الدولي السنوي في ميونيخ الألمانية، وقف وقال: «لقد تجاوزت الولايات المتحدة حدودها الوطنية بكل الطرق.. إننا اليوم نشاهد استخدام القوة العسكرية في العلاقات الدولية، القوة التي تغرق العالم في هوة الصراعات الدائمة»، وتابع: «لا أحد يشعر بالأمان! فلم يعد أحد يشعر بأن القانون الدولي يحميه». أما القرينة التي أراد بوتين من خلالها إثبات موقفه فقد جاءت واضحة من قناعته بأنه «لا توجد علاقة بين عملية توسع الناتو وتحديث الحلف لذاته وضمان أمن أوروبا»، معتبرًا أن هذا التوسع على حدود روسيا «استفزاز خطير يقلل من مستوى الثقة المتبادلة، ولدينا الحق في أن نسأل ضد من هذا التوسع؟».

لماذا الإشارة إلى هذا الخطاب؟ لأني أرى فيه اللحظة التاريخية التي فقد فيها الرئيس بوتين تمامًا اعتقاده بقدرته على بناء علاقات جيدة مع الغرب، ولا سيما مع الولايات المتحدة، وانتقل إلى التفكير باستعادة إرث الاتحاد السوفيتي أو ربما الإمبراطورية الروسية، الأمر الذي يعني إعادة التفكير بأوراسيا بطريقة مختلفة، من ناحية أنها العمق الاستراتيجي لروسيا، والتنبيه والتحذير من أي توسع لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في تلك البلدان.

بعد تشكيله في عام 1949 مع اثنى عشر عضوًا مؤسسًا، نما الناتو ليشمل اليونان وتركيا في عام 1952 وألمانيا الغربية في عام 1955، ثم إسبانيا في وقت لاحق في عام 1982. ورغم انتهاء الحرب الباردة وانتفاء السبب الذي تشكل الناتو على أساسه، أي مواجهة المحور الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، استمر النقاش داخل المنظمة حول التوسع شرقًا. في عام 1999، انضمت بولندا والمجر وجمهورية التشيك إلى الناتو، وسط معارضة روسية ضخمة.

وجاء التوسع الثاني مع انضمام سبع دول من وسط وشرق أوروبا: بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا. تمت دعوة هذه الدول لأول مرة لبدء محادثات العضوية خلال قمة براغ عام 2002، وانضمت إلى الناتو قبل وقت قصير من قمة إسطنبول عام 2004. انضمت ألبانيا وكرواتيا في 1 أبريل 2009، قبل قمة ستراسبورغ كيل. أما أحدث الدول الأعضاء التي تمت إضافتها إلى الناتو فهي الجبل الأسود في 5 يونيو 2017 ومقدونيا الشمالية في 27 مارس 2020.

تزامن هذا التوسع مع بناء الولايات المتحدة قاعدة جوية في قيرغيزستان، بحجة أنها مؤقتة إثر أحداث 11 سبتمبر، ومن ثم أبقت عليها دائمة، وانسحابها في الوقت ذاته ومن جانب واحد من معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية لعام 1972، وكذلك تزامن مع الغزو الأمريكي للعراق الذي كانت تربطه مع روسيا علاقات تاريخية واقتصادية، وقيام ثورات في جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان، أوصلت إلى السلطة حكومات موالية للغرب في تلك الدول التي كانت تعد مجالًا سوفيتيًا.

كل هذه الأحداث دفعت روسيا للانتقال من حالة الراغب في الانضمام إلى الناتو، إلى حالة عدائية تطالب فيها بوقف توسع الحلف شرقًا، وتعمل على بناء حلف شرقي مضاد، وتطالب باحترامها والتعامل معها كدولة كبرى قادرة أيضًا على فرض ما تريده بالقوة حين يتطلب الأمر ذلك.

ولا يخرج ما يحدث اليوم في أوكرانيا عن هذا السياق، يعترض بوتين على التقارب الغربي الكبير مع أوكرانيا، الدولة ذات الموقع الاستراتيجي التي تحد كامل الجنوب الغربي لروسيا، عسكريًا من ناحية انضمامها للناتو، وسياسيًا واقتصاديًا من ناحية تطوير روابط كييف مع الاتحاد الأوروبي. خاصة أن بوتين يعلم أن حصول أوكرانيا «الديمقراطية» على الدعم الأطلسي الرسمي، لن يؤثر على الدول الأوراسية الأخرى وحسب، بل قد يمتد تأثيره إلى الداخل الروسي أيضًا، الأمر الذي يلزمه برسم خط أحمر جدي عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا.

أما اختيار بوتين لهذا التوقيت بالذات فهو نابع في الغالب من كونه يستشعر حالة الوهن التي يعيشها الأوروبيون والأمريكيون على حد سواء. فقد خرج الناتو بشكل «غير مشرف» العام الماضي من أفغانستان، فيما يمكن اعتباره خطوة واحدة من سلسلة خطوات تقوم بها الإدارة الأمريكية لإنهاء حروبها في العالم، وتركيز مواردها السياسية والعسكرية على الصين ربما وليس على أوروبا.

أضف إلى ذلك أن بوتين يدرك غالبًا أن أهمية أوكرانيا، أو حتى توسع الناتو بالعموم، ليس أمرًا متفقًا عليه داخل المنظمة ذاتها، فقد قدمت ألمانيا إلى حد ما وعودًا ضمنية بعدم انضمام أوكرانيا للناتو، أما فرنسا فلا تتوانى عن توطيد سياساتها الدولية من خارج مظلة الناتو، والذي وصفه رئيسها إيمانويل ماكرون منذ عامين بأنه «ميت سريريا»، وليس من المستبعد أن تغادر فرنسا المنظمة، خاصة وأنها أقدمت على تلك الخطوة في السابق.

إذن الاستثمار الأوروبي بالحلف لا يقارب مثيله الأمريكي، لأن أوروبا أولًا في عين عاصفة الغضب الروسي، العسكري طبعًا، والاقتصادي أيضًا، فهي أكثر قربًا وارتباطًا بروسيا واعتماداً على غازها، ما يجعل من أي مقاربة لتوسع الناتو عبئاً أمنياً على أوروبا، وهو الأمر الذي تتخذه روسيا في كل مرة ذريعة للتصعيد ولتحصيل مطالب لها في عدة أماكن من العالم.

في المقابل لا تعاني الولايات المتحدة من مستوى التهديد ذاته التي تتعرض له أوروبا، مستفيدة من بعدها الجغرافي وإمكانياتها العسكرية والاقتصادية الهائلة، الأمر الذي قد يضع وجود الناتو بحد ذاته موضع إعادة التفكير في حال اتسعت الفجوة بين المقاربتين الأمريكية والأوروبية للتهديدات/ وللفرص أيضاً/ التي يخلقها الحلف.

وإذا كانت أمريكا متمسكة بالحلف، إلا أنها لا تريد الدخول في حرب مباشرة من أي نوع مع روسيا، بل لا تريد حتى التفاوض المباشر حول موضوع أوكرانيا، ولدى واشنطن أسبابها الوجيهة «جداً» لتفسير موقفها هذا، وعلى رأس هذه الأسباب أنه وبغض النظر عن الشكل القانوني لهذا التفاوض وأهمية نتائجه، أيا كانت هذه النتائج، فإن مجرد حدوثه يعني الاعتراف الضمني بالقوة الروسية الصاعدة نحو العالمية كقطب مواجه كامل المعالم وقادر على تقسيم العالم من جديد وإحياء الثنائية القطبية التي كانت تسوده أيام الحرب الباردة.

تكتفي الولايات المتحدة اليوم بالتصعيد الإعلامي، وبالتهديد بالعقوبات في حال دخلت روسيا أوكرانيا، تهديد مفرغ من أثره إلى حد كبير، أولاً لأن روسيا واقعة بالأساس تحت مجموعة كبيرة من العقوبات، ومهما كانت العقوبات الجديدة «شديدة وغير مسبوقة» – بحسب التعبير الأمريكي، سيظل يصح فيها قول الشاعر العربي: «فَصِرْتُ إذا أصابَتْني سِهامٌ تكَسّرَتِ النّصالُ على النّصالِ»!

أما ثانياً والأهم فهو التحالف الروسي الصيني الجديد والذي جاء كاستعداد لمواجهة تبعات الأزمة الأوكرانية، والقادرة بسهولة على إفراغ أي عقوبات من معناها وإفقادها مستوى التأثير الذي تطمح إليه الولايات المتحدة منها. ويبدو أن الرئيس فلاديمير بوتين تقصّد اختيار بكين ليعلن منها عن تشكل نظام عالمي جديد، والذي عكسه بيان روسيا والصين المشترك عقب اجتماع رئيسيهما بمناسبة افتتاح أوليمبياد بكين للألعاب الشتوية.

ثمة ملاحظتان اثنتان تستدعيان التوقف عليهما في هذا البيان، الأولى أن الإعلان عن اتفاقيات لا محدودة بين البلدين، وفتح الباب أمام جميع أنواع التعاون دون استثناء، هو في الحقيقة إعلان واضح عن تحالف تام ومكتمل الأركان، ومفاجئ في مضمونه للعالم أجمع.

أما الثانية فهي تأكيد موسكو دعمها لموقف بكين من القضية التايوانية، وأن الجزيرة جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية، والذي ردت عليه بكين بالمثل فدعمت موقف الأولى ليس من أزمة ما يحدث على الحدود الروسية الأوكرانية فحسب، بل ومن الأزمة بين روسيا والغرب باعتباره حلفاً أطلسياً تقوده أمريكا، ودعت الصين الحلف بشكل واضح إلى التخلي عن «مقاربته الأيديولوجية للحرب الباردة»! وقي هذا الإطار تصب تصريحات وزير الخارجية الصيني وانغ يي يوم السبت 19 فبراير 2022 خلال إجابته على الأسئلة التي وجهت إليه في مؤتمر ميونخ للأمن بشأن توسع الناتو شرقاً حيث قال: «يتعين على الأصدقاء الأوروبيين التفكير بجدية فيما إذا كان التوسع المستمر للناتو نحو الشرق سيفضي إلى تحقيق السلام والاستقرار الدائمين في أوروبا والحفاظ عليهما».

إذن إن البيان الذي أعلنت فيه دولتان قويتان وكبيرتان ومعارضتان للنهج الغربي عموماً، والأمريكي منه خصوصاً، عن اتفاقيات لا محدودة وعن انتقادهما لحلف بعينه، لن يكون مجرد بيان فحسب، بل خارطة طريق نحو المستقبل الذي سيكون عليه عالم الغد، وها هو المحور الروسي الصيني بات مستعداً لمواجهة التحالف الغربي. وبالتالي فإن أهداف روسيا أبعد بكثير من أوكرانيا وأكبر بكثير من مجرد كبح جماح الناتو شرق أوروبا.

إذا نجح بوتين في الحصول على تعهد غربي نهائي بعدم قبول أوكرانيا كعضو في الناتو، فسيسارع إلى الحصول على تعهد مماثل حول جورجيا ومولدوفا. وربما يطالب الحلف بالانسحاب من بلدان «المواجهة» مثل بولندا ورومانيا وبلغاريا، ويطالب أمريكا بالحد من/ أو وقف/ نشر صواريخ متوسطة المدى جديدة في شرق وجنوب أوروبا. لا أظن أن طموحات الرئيس الروسي تقف عند ذلك حتى، فهو يريد إعادة تشكيل كامل «البنية الأمنية» لأوروبا بما يضمن ترسيخ نفوذ روسيا وتوسيع نفوذها الجيوسياسي، لإصلاح ما لحق بأمن روسيا من ضرر بعد انتهاء الحرب الباردة، وليحقق انتصارات سياسية ستكون مفيدة جداً له عندما يترشح مجدداً للرئاسة الروسية عام 2024.

وفي ظلّ كل المعطيات السابقة، ومهما اختلفت السيناريوهات المستقبلية تظل أوكرانيا هي الخاسر الأكبر، فالصراع إذا ما تم سيكون على أرضها، وقد بدأت منذ الآن تعاني من تأثيراتها على شعبها واقتصادها، وإذا استمر على حاله فستجد نفسها مضطرة إلى القبول بالخيارات التي تصب في مصلحة الروس، ستجبر موسكو كييف على قبول وضع الحكم الذاتي لمنطقة دونباس والتخلي عن مطالبتها بشبه جزيرة القرم (كجزء من اتفاقات مينسك 1و2)، خاصة وأن الحليف الأمريكي لا يبدي أي استعداد للذهاب بعيداً في الدفاع عنها، دون أن يدرك أن انتصار روسيا في هذه المواجهة سيبعد حلفاء أمريكا عنها أكثر فأكثر، خاصة دول المنطقة العربية والشرق الأقصى، وهذا ما حضرت ملامحه بقوة في الحضور الرسمي العربي عالي المستوى لحفل افتتاح الأوليمبياد الشتوي في بكين.

ويبقى السؤال الأهم عن أمريكا، التي تميل اليوم – وضوحاً – للانسحاب من أغلب مناطق العالم، أو تخفيف تواجدها، فيما يبدو كأنه إعادة النظر في استراتيجياتها الدولية، فهل تواجه واشنطن في الأزمة الأوكرانية الراهنة ما يجعلها تتراجع عن «رغبتها» في الانسحاب من الملفات الدولية ويفرض عليها مواجهات جديدة؟ أما أنها ستستمر في نهجها التقهقري حتى لو أسفرت مآلات الأزمة الأوكرانية إلى انبثاق نظام عالمي جديد، يلغي سيطرة قطب واحد، ويقسم العالم مجدداً بين قطبين شرقي وغربي كما كان زمن الحرب الباردة؟ ولا شك أنه ينبغي على واشنطن أن تأخذ بالحسبان الفارق الكبير بين ما كان عليه العالم أيام الاتحاد السوفيتي وما هو عليه الآن، فالانقسام العالمي اليوم ليس أيديولوجياً أو عسكرياً وحسب بل هو سياسي واقتصادي وتكنولوجي وسيبراني أيضاً، ما يعني أن نطاقه أوسع امتداداً ومواجهاته أعلى تكلفة والتنبؤ بها أكثر صعوبة، وبالتالي من السهل أن تنقلب في أي وقت حرب ساخنة مباشرة وكارثية.

الولايات المتحدة– والغرب كله إلى حد ما– في مأزق حقيقي لا يُحسدون عليه، فالسيناريوهات المتفائلة شبه معدومة قياساً بميزان المصالح الغربية، وإذا استطاعت الولايات المتحدة – بطريقة أو بأخرى– الخروج من الأزمة الأوكرانية الحالية مع روسيا بأقل الخسائر الممكنة، فهذا يحتم عليها إجراء تقييم شامل لمكانتها وأدوارها وموقعها في العالم، وتقييم فاعلية تحالفاتها في عدة أماكن منه، وإعادة بناء استراتيجياتها على هذا الأساس، خاصة أن «الحلف» المقابل مستعد ومتربص، وجاهز لانتهاز أي تراجع تقوم به أمريكا، ولديه اليوم أدواته المختلفة عن ما كان مستخدماً في الحرب الباردة، وبتحالفات غير مسبوقة أيضاً.

 

 

 

 

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS