مكة المكرمة.. دعوة إبراهيم عليه السلام

تُعدّ الأمكنة أولى الرموز التي طالتها هالة التقديس الديني، بل وربما أكثرها انتشاراً حول العالم، إذ ينظر المؤمنون إلى المدن ذات الطابع المقدّس على أنها البوابة الرئيسية التي يعبرون خلالها من الحالة المادية إلى الحالة الروحية في رحلة تطهيرية أُطلق عليها اسم "الحجّ". وصحيح أنّ الأماكن المقدسة مختلفة باختلاف الأديان المتواجدة في العالم، إلا أنّ جوهر الفكرة واحد، فما أن تمس القداسة مكاناً ما، حتى تُلقي بأمنها وأمانها على باطن النفس البشرية المقيمة فيه.

الكاتب حسن إسميك
  • تاريخ النشر – ٠٦‏/٠٩‏/٢٠٢١

تعمل القداسة كمفهوم ديني واسع الطيف على الاستجابة لحاجة الإنسان الملحة والعميقة لتجديد إيمانه وإعادة إحيائه بين فترة وأخرى. وللقداسة في الدين مستويات متعددة، قد ترتبط بزمان أو مكان محددين، أو بمناسبة أو شخص بذاته. ورغم تعدد المستويات هذه، فإن قداسة الأمكنة والأزمنة والأشخاص ارتهنت في الإسلام دائماً إلى اعتبارها وسيلة وطريقة لله القدوس وحده، كيف لا وقد كان جوهر رسالة الإسلام ولبّ دعوته أن ينصرف العرب الجاهليون (وهم نصف مؤمنين) عن الشرك بالله ليخلصوا العبادة له وحده؟ وليس بخاف كيف غيّر هذا الجوهر البسيط والبديهي من حياة العرب، ثم حياة البشرية جمعاء.

وبالعودة إلى القداسة... تُعدّ الأمكنة أولى الرموز التي طالتها هالة التقديس الديني، بل وربما أكثرها انتشاراً حول العالم، إذ ينظر المؤمنون إلى المدن ذات الطابع المقدّس على أنها البوابة الرئيسية التي يعبرون خلالها من الحالة المادية إلى الحالة الروحية في رحلة تطهيرية أُطلق عليها اسم "الحجّ". وصحيح أنّ الأماكن المقدسة مختلفة باختلاف الأديان المتواجدة في العالم، إلا أنّ جوهر الفكرة واحد، فما أن تمس القداسة مكاناً ما، حتى تُلقي بأمنها وأمانها على باطن النفس البشرية المقيمة فيه.

وهكذا، أيضاً، ساهمت القداسة كعنصر روحي في قيام المدن وتطورها، وفي تكريس أثرها في وجدان الإنسان ليستمد منها الارتباط بهوية معتقده وثباته، ويقوي بها انتماءه للجماعة المؤمنة. لذلك حافظت قيمة الحج إلى المدن المقدسة على استمرارية تجديد الإيمان وتوليد الحالة الروحية في تكرار أبدي يربط المتعبد النسبي بالمعبود المطلق. وقد ارتبط هذا في الإسلام بأماكن متعددة، تحتل مكة المكرمة المرتبة الأسمى بينها، وهي التي تضم أطهر الأماكن في واديها، بيت الله الحرام، ومنى وعرفات ومزدلفة على أطرافها، حيث تتوزع فيها المشاعر المقدسة، ويمر عبرها السبيل الذي سلكه أبو الأنبياء جميعاً إبراهيم الخليل عليه السلام. ثم ازدادت قداسة هذه المدينة وعظم شأنها أكثر فأكثر لما وُلد فيها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومنها وبلسان أهلها انطلقت دعوة آخر الأديان وخاتمة الرسالات السماوية، لتصبح بعد حين من الدعوة المحمدية قبلة الإسلام التي ارتضاها النبي الكريم.

تتجاوز مكة إرثها الإسلامي الكبير والمعظم هذا إلى إرث أكبر وأكثر شمولية، نجد مثلاً من الناحية التاريخية أن عمر استيطان مكة قبل الإسلام ما زال أطول من عمرها بعد الإسلام بحوالي خمسة قرون، إذ تشير الدراسات الأنثروبولوجية إلى وجود جماعات بشرية استوطنت المدينة منذ حوالي ألفي سنة قبل الميلاد. غير أن الطبيعة الصعبة لهذه البقعة المباركة من الأرض، حيث لا ماء ولا زرع، تشير إلى أن قداسة هذا المكان قد عُرفت منذ عصور قديمة جداً، وعلى هذا الرأي تؤكد آيات قرآنية كثيرة، ففيها أول بيت وُضع للناس، وإليها أوحى الله لإبراهيم عليه السلام بالخروج هو وإحدى زوجتيه (هاجر) وولده إسماعيل، وليرفع فيها قواعد البيت المقدس، لتصبح هذه البقعة من الأرض مركز انطلاق التوحيد على أسس الحنفية الإبراهيمية، والتي كانت عقيدة العرب قبل أن تخالطها عبادة الأصنام والشرك بالله.

بقيت مكة بقداستها وأهميتها الروحية صامدة ومستمرة أمام كل من حاول أن يصرف المؤمنين عنها ويوجههم لبيت آخر، خاصة ممن رغبوا بتحقيق طموحاتهم السياسية عبر استغلال الدين والعقيدة، ومن أشهر الأمثلة على ذلك قصة أبرهة الحبشي الذي احتل اليمن وأراد أن تكون له امبراطورية كبيرة تسيطر على الجزيرة العربية كلها، لكن وجود مكة ومركزيتها بالنسبة للهوية العربية حال دون تحقيق ذلك، ولم ينفع أبرهة أن يبني بيتاً آخر للناس ليحولهم عن مكة، حتى بلغ اليأس به مبلغاً دفعه لأن يخرج بجيشه وفيلته قاصداً هدم الكعبة، لكنه هُزم على أطرافها وهلك هو وجيشه حتى أصبحوا (كعصف مأكول).

لم يستطع أبرهة هدم الكعبة لما جاءها معتدياً، لكن تؤكد الدراسات التاريخية أن الكعبة المشرفة قد جُدد بناؤها حوالي 12 مرة عبر تاريخها الطويل، تارةً بسبب الظروف المناخية التي تعرضت لها، وبخاصة موقعها في مجرى السيل، وتارةً أخرى تبعاً لموازين القوى المتتابعة عليها، الأمر الذي ساهم في توسعها بشكل خاص، وامتداد المدينة المحيطة بها بشكل عام، بمعنى أدق، ما نراه اليوم في مكة صورة مختلفة عما كانت عليه في السابق. كما أنّ النشاط الاقتصادي والتجاري كان من أهمّ الأسباب التي ساهمت في وضع هذه المدينة على رأس قائمة المدن الأكثر حيوية في منطقة الحجاز، حيث ازدهرت بسبب الأسواق التجارية والمنتديات الموسمية التي جمعت رموز اللغة والفصاحة والبلاغة، حتى أنّ القصائد الشعرية المشهورة في اللغة العربية سميت بالمعلقات، لأنّها كانت تُعلق على جدار الكعبة، الأمر الذي جعل منها نبراساً لغوياً ما زال تأثيره حتى يومنا هذا.

لم تكن مكة مركزاً روحياً للعالم الإسلامي فحسب، بل كانت مركزاً مهماً لحركة النهضة الفكرية الإسلامية التي وصل أثرها إلى منطقة شرق آسيا، فلا يمكن نسيان الحركة الثقافية والأدبية التي انتشرت في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بفضل الكتب التي تكفلت مكة المكرمة بطبعها في مطابعها ونشرها في الوطن العربي ومدن شرق آسيا وما حولها، والتي أطلق عليها اسم (الكتب الجاوية- كتب شرق آسيا)، وشهدت أمهات كتب ومؤلفات أهم مفكري ذلك العصر، والذين عُرفوا باسم "العلماء الجاويين"، فكان منهم السنكيلي والآشي والبنجري والفطاني والبوغوري وغيرهم كثير.

من ناحية أخرى، أدّت المكانة الرفيعة لمكة، والتي قامت على أسس ثلاثة (دينية وفكرية واقتصادية)، إلى أن تصبح هذه البقعة ذات التضاريس الصعبة قبلة للهجرة من كافة أنحاء العالم، ناهيك عن حجيجها الوافدين كل عام، وزائريها المعتمرين كل يوم، ولقد شكّل موسم الحجّ والعمرة بنية اقتصادية حيوية، ومحطة جذب مهمة للكثير من الاستثمارات منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا. ومن يعود إلى ما كتبه الرّحالة الفرنسي "جول جرفيه كورتيلمون" عندما زار مكة المكرمة في رحلته الاستكشافية عام 1931 ويُقارنه بمكة اليوم، يعي تماماً مقدار التغيير الحاصل في المشهد العمراني للمدينة، حيث كتب حينها: (فجأة عند مفترق طرق، دخلنا إلى المدينة المقدسة، إنها تختبئ بين جبلين قريبين جداً من بعضهما، وعندما تجتاز الشارع الأول تدرك أنك وصلت). أما اليوم، فعند اجتيازك للجبلين، لا تلمح من الموقع المذكور أعلاه سوى الأبراج العالية تحيط بالبيت الحرام من كل جهة، حتى إذا ما وصلت إلى أخفض نقطة من الأرض هناك، حيث صحن الطواف يحيط بأركان الكعبة الأربعة، شعرت بأن هذه الفسحة متصلة بالسماء خلال عمود من نور لا يخفت في ليل أو نهار.

ومنذ أن انضمت إلى سلطان الدولة السعودية، حين دخلها الملك المؤسس عبد العزيز بن سعود سنة 1924 وجيشه معتمراً لا محارباً، انتقلت مكة إلى طور تاريخي مختلف جداً عن كل الأطوار التاريخية التي سبقته منذ الدولة الأموية وحتى بدايات القرن العشرين، فكان لا بد لهذه المدينة الضاربة في عمق تاريخ ووجدان المؤمنين أن تواكب عصر الحداثة التي عمّت جهات الدنيا الأربع.

وصار جلياً للجميع أن تطور وسائل السفر سينعكس مباشرة على زيادة عدد زوار المدينة وحجيجها، وهي زيادة لن تكون طفيفة أو متوسطة، بل سرعان ما ستتضاعف مئات المرات خلال عقود قليلة. وأمام هذه الطفرة في زيادة الزوار لا بد من طفرة مقابلة في توسعة الحرم المكي وبنائه، ولكن كيف يمكن أن يحدث ذلك في بقعة صغيرة ذات طبيعة تضاريسية صعبة جداً؟ لقد كان الأمر يحتاج لمعجزة بكافة المقاييس، وقد حصلت هذه المعجزة!

ولتاريخ توسعة الحرم المكي أهمية فائقة في حياة هذه المدينة المباركة، وفي تاريخ الإسلام أيضاً، بدأت هذه لأول مرة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واصطدمت منذ البداية بمشكلة العقارات المجاورة للكعبة، حيث يمتنع أصحابها في كل مرة عن التنازل عنها، ويرفض أغلبهم إخلاءها ولو دفعت له أموال كثيرة، ومن عساه يبيع جيرة الكعبة راضياً! ولكن رغم ذلك يبقى القول الفصل في التنازل أو البيع لولي الأمر، وهذا ما أقره وعمل به عمر بن الخطاب منذ التوسعة الأولى حين قال لمالكي البيوت حول الكعبة: (إنما نزلتم على الكعبة وهو فناؤها، ولم تنزل عليكم)، أما من رفض البيع أو امتنع عن قبض الثمن فقد وضع عمر أموالهم في الكعبة حتى أخذوها في نهاية الأمر.

تتالت أعمال التوسعة والترميم طيلة الثلاثة عشر قرناً الماضية قبل أن تنضم مكة إلى حكم الدولة السعودية وكان الحرم المكي حينها يتسع لخمسين ألف مصلٍ. سارع مؤسس المملكة رحمه الله إلى تأسيس مجلس إدارة الحرم سنة 1925 للعناية بشؤون المسجد وأماكن الحج الأخرى، واشتملت كل الأعمال في عهده على عمليات الإصلاح والترميم وبناء المظلات والإنارة الكهربائية بعد أن وصلت الكهرباء للمدينة، ولم تبرز حينها الحاجة للتوسعة بعد. ولكن بعد الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي شهدته الدولة بدأ عدد الحجيج بالتزايد، فقامت التوسعة الأولى في عهد الملك سعود، وصار المسجد يتسع لأربعمئة ألف مصل في وقت الذروة، ثم تتالت عمليات التوسعة والبناء حتى حولت المسجد الحرام إلى تحفة عمرانية فريدة لا مثيل لها على وجه الأرض. وصار المسجد يتسع لملايين المصلين، ويستطيع استيعاب أكبر كثافة بشرية تشهدها الأرض كل عام خلال أيام الحج الستة بدءاً بيوم التروية ثم يوم عرفة وانتهاء برابع أيام عيد الأضحى المبارك.

لا يمكن للحديث عن مكة ومسجدها ومشاعرها المقدسة أن ينتهي أبداً، فلقد أصبحت هذه المدينة أكبر حدث تاريخي مستمر، وستبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. كما أنها ستبقى مدينة الأمن والخير التي استجاب الله دعوة نبيه إبراهيم لها: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [سورة البقرة:126]. وعلى هذا فسأختم بالرد على ما سمعته عدة مرات ممن يقولون إن العمران والتوسع الذي مرت به مكة ومسجدها ومشاعرها في السنوات الأخيرة قد أثر على روحانيتها وبهاء قداستها، فأرى أن دعوتها المستجابة لا تجعل أي توسع أو عمران مهما بلغ مداه أن يحدّ ولو قليلاً من روحانية هذه البقعة المباركة، فالاستجابة الإلهية ستبقى أكبر وأقدر من كل شيء، أما من يغمز من طرف خفي ليقول أن هذه الأبنية وهذا التوسع قد غيّب بيوت الصحابة وحولها إلى فنادق ومطاعم فهذا يدل عن جهل كبير بتاريخ مكة وتطور بناء المسجد الحرام فيها، ذلك لأن بيوت الصحابة القديمة دخلت ضمن الحرم المكي ولم يبق منها شيء خارجه منذ مئات السنين، وكان عمر بن الخطاب أول من ضم البيوت للحرم كما ذكرت من قبل، ثم تبعه في ذلك عثمان بن عفان. ثم أضاف الوليد بن عبد الملك توسعة جديدة للمسجد الحرام بعد سيل أصاب المدينة وهدّم الكثير من أبنيتها، ثم قام أبو جعفر المنصور بزيادة مساحة الركن اليماني حتى صارت دار الندوة داخل الحرم، ثم أمر المعتضد بالله بهدم الدار وجعلها من أروقة المسجد، ثم أضاف المقتدر بالله منزلي زبيدة زوجة هارون الرشيد لحرم المسجد، وهكذا توالت القرون حتى لم يبق من آثار مكة القديمة شيء سوى الكعبة وما يحيط بها، حجر إسماعيل ومقام إبراهيم وبئر زمزم. فإذا كانت الكعبة ذاتها، وهي الأعظم بنياناً من كل ما حولها، قد أعيد بناؤها عدة مرات نتيجة ما أصابها من سيول جارفة، أفيعقل أن المنازل القديمة التي بنيت من 1400 عام قد بقيت قائمة في أماكنها؟ ويكفي دليلاً على ذلك أن مؤرخي مكة قد اختلفوا على مواقع منازل الصحابة بعد مضي حوالي ثلاثمئة عام من ظهور الإسلام. حتى منزل السيدة خديجة، والذي انطلقت منه دعوة النبي الكريم عليه السلام قد اختلف كل من الأزرقي والفاكهي، وهما من مؤرخي القرن الهجري الثالث في تحديد مكانه، وهما صاحبا أقدم كتابين عن تاريخ مكة، وقد أجمعا على أن معاوية بن أبي سفيان اشترى المنزل وأقام مسجداً في مكانه.

وعلى ذلك فمن المؤكد أن منازل مكة وبيوتها قد تبدلت خلال الألف وأربعمئة عام الماضية مئات المرات، ولم يبق منها شيء ليصل إلى زماننا هذا، أما العمران الذي تشهده مكة اليوم فهو قدرها الطبيعي وسنة تطور الحياة فيها. وستبقى دعوة إبراهيم عليه السلام مستجابة أيضاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS