معالم أمن الخليج في ظل بيئة استراتيجية جديدة

تظهر تجليات المجال الجيو-أمني الخليجية الجديد، في نشاط دوله على امتداد بحر العرب والبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، بشكل يعكس تحولات عميقة في مفاهيم الجيوسياسية المرتبطة بالمصالح الحيوية والأمنية لدول الخليج. وعليه، تحاول هذه الورقة الإجابة عن سؤال أساسي يتعلق بالتضاريس والآفاق الجديدة التي يكتسبها أمن الخليج، في ضوء البيئة الاستراتيجية الجديدة، التي ربطت أمن الخليج بما هو أوسع منه.

الكاتب محمد برهومة
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ٢٥‏/١١‏/٢٠٢١

في العامين الماضييْن كان تداخل أمن منطقة الخليج وبحر العرب بأمن البحر المتوسط والبحر الأحمر في أوضح تجلياته. تعدّ هذه حالة نموذجية تعكس البيئة الاستراتيجية الجديدة إقليمياً ودولياً. ولعل نظرة فاحصة إلى اللقاءات السياسية والمناورات والتمرينات العسكرية التي جرت، على الأقل خلال الأشهر الماضية، بين أطراف خليجية مع الولايات المتحدة ودول أوروبية ومع إسرائيل أو الهند، أو حتى من جانب إيران وشركائها، إنما يكشف عن ذاك التداخل الذي أشرنا إليه، وبما يعكس التحولات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة.

في الحقيقة، نشهد من قبل اللاعبين الإقليميين والدوليين إعادة تقييم لمصادر التهديد، وبالتالي إعادة تعريف شبكة التحالفات؛ على وقع التحولات في البيئة الاستراتيجية.

هذه الورقة تحاول الإجابة عن سؤال أساسي يتعلق بالتضاريس والآفاق الجديدة التي يكتسبها أمن الخليج، في ضوء البيئة الاستراتيجية الجديدة، التي ربطت أمن الخليج بما هو أوسع منه.

تجليات الأمن المترابط

في الحادي عشر من نوفمبر بدأت أول تدريبات بحرية أمنية مشتركة بين الولايات المتحدة والإمارات والبحرين وإسرائيل في البحر الأحمر. وفي تعليقه على هذه المناورات، لمّح قائد القوات الجوية الأمريكية في الشرق الأوسط، الجنرال غريغوري غيلوت، إلى إمكانية إجراء مناورات جوية مع إسرائيل والبحرين والإمارات، مؤكداً أن "الطيارين الأمريكيين سيواصلون التمركز في المنطقة"، وأن قوات بلاده مستمرة في الشرق الأوسط، على الرغم من أن "الصين وروسيا هما تحدي واشنطن المستقبلي"، وأشار إلى أنه "لا يرى سيناريو عالمياً لا تلعب فيه الولايات المتحدة دوراً مهماً"، لافتاً إلى أن "التعاون بين واشنطن وشركائها في الشرق الأوسط سيمكننا من مواجهة التهديدات".

في الثامن عشر من أكتوبر 2021 تشكلت نواة "رباعية جديدة" في الشرق الأوسط عقب مشاوراتبين وزراء خارجية أمريكا والهند وإسرائيل والإمارات للتعاون في ملفات عدّة منها الأمن البحري والطاقة. وفي الشهر الماضي شاهد قائد سلاح الجو الإماراتي مناورة جوية إسرائيلية. وشاركت القوات البرية الملكية السعودية في تمرين مع القوات الخاصة اليونانية في سبتمبر2021. وفي أغسطس 2021 جرت مناورات عسكرية بحرية هي الأولى من نوعها بين السعودية والهند بالساحل الشرقي للمملكة، وذلك بعد أيام من تنفيذ الهند تمريناً بحرياً مشتركاً مع الإمارات قبالة سواحل أبوظبي، ثم انتقال المدمرة الصاروخية الأكبر في الأسطول الهندي "آي إن إس كوتشي" التي شاركت في هذه التدريبات إلى سواحل المنامة في البحرين.

in-1-(5).jpg-ما-هي-تضاريس-أمن-الخليج-في-ظل-بيئة-استراتيجية-جديدة-إقليمياً-ودولياً؟1.jpg

ويربط محللون بين هذه المناورات والتنافس الإقليمي بين الصين والهند من ناحية، وتشكُّل محور يضم الهند ودول الخليج وإسرائيل لمواجهة تهديدات مشتركة من ناحية أخرى.

وتنقل صحيفة "فاينانشال إكسبرس" الهندية عن الخبير دانيال دارلينغ قوله، تعليقاً على هذه المناورات، إنه "بدلاً من التنازل عن نفوذها في المنطقة لصالح الصين، تقوم الهند بحملة تفاعل دبلوماسي مع دول إقليمية ذات خلفيات ومصالح متباينة، سواء أكانت إسرائيل أو دول الخليج أو إيران". وتابع دارلينغ: "من المهم أن نلاحظ أن ممر الشحن الممتد من الخليج إلى بحر العرب وعبر المحيط الهندي يمثل شريان الحياة الأساسي للنقل لنحو 60 بالمئة من النفط الصيني وأكثر من 70 بالمئة من النفط الهندي".

وأهمية بحر العرب لكل من الخليج والهند غير منحصرة في الأبعاد الأمنية، بل تتجاوزها إلى الفضاء الجيوسياسي والمصالح الاستراتيجية الحيوية. وهذا يفتح الأعين على أهمية التوافقات الإقليمية والدولية.

فمثلاً، تُعَدُّ مساعي سلطنة عُمان لتطوير ميناء الدقم وتوسيع المنطقة الصناعية الخاصة بها، خطوة مهمة أمام الأسواق الناشئة، التي يهمها الاستقرار والهدوء في منطقة بحر العرب، كركيزة أساسية لاستدامة المصالح المتنوعة وتطوير التجارة وتوسيع الأسواق، وهو ما ينطبق أيضاً على مساعي الربط بين الهند (من خلال ميناء مومباي على بحر العرب) وغرب أوروبا؛ وذلك من خلال مسارات بحرية وبرية متعددة. إنّ كل ذلك يعكس جزءاً من التنافس الإقليمي والدولي على تلك المنطقة الاستراتيجية. والسيناريو الأفضل هو ضرورة إدراك اللاعبين الإقليميين والدوليين لأهمية التخلي عن المعادلات الصِفرية، وهو ما يزال تحدياً فعلياً في غياب هيكل أمن جماعي ينظم العلاقات والخلافات. ولذا من الضروري تطوير الاستجابة البنّاءة لهذا التحدي؛ في ضوء أهمية المنطقة لانسيابية الشحن والنقل والتجارة والنقل والتجارة البحرية العالمية.

ويعود بنا الباحث الاقتصادي سلطان مساعد الجزاف، في تحليل نشرته صحيفة "القبس" الكويتية، إلى العام 2013، ومعها بدأت ملامح نوع جديد من الصراعات تطفو على السطح بين الدول المطلة على الخليج العربي وبحر العرب، وهو صراع الهيمنة على الملاحة البحرية التجارية، خصوصاً مع ظهور منافسين جدد في المنطقة. تلك الحرب، يضيف الجزاف، التي دارت رحاها بما تسمى حرب الموانئ جعلت كل دولة تعدّ عدتها، وتجيّش إمكاناتها في مواجهة هذا التحدي الجديد، خصوصاً بعد ما أعلنت الصين عن مشروعها الاستراتيجي "الحزام والطريق" وتحالفها مع باكستان؛ من خلال الاستثمار في ميناء جوادر المطل على بحر العرب.

وهناك من يلفت إلى أنّ الانسحاب الأمريكي الأخير من أفغانستان قد يقدّم فرصة للصين، التي بنت علاقات ومصالح جيدة مع حركة "طالبان"، إذْ يبدو أن مشروع "الحزام والطريق" قد تخلص، إلى حين، من عقدة الوجود الأمريكي في أفغانستان، وأصبح بالإمكان أن يمتد المشروع إلى أفغانستان عبر الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان.

أما على الطرف الإيراني، فلم تكن الحركة هادئة أيضاً؛ فمثلاً، في ديسمبر 2019، جرت مناورات بحرية كبرى بين إيران والصين وروسيا بشمال المحيط الهندي وبحر عُمان، للمرة الأولى منذ قيام "الثورة الإيرانية" بحسب مساعد قائد البحرية الإيرانية لشؤون العمليات، غلام طحاني. والمحيط الهندي وبحر عمان من المناطق الحيوية والتجارية المهمة عالمياً، إذ تتضمن مضيق باب المندب ومضيق هرمز، الذي يعبر من خلاله خُمس النفط العالمي ويرتبط بدوره بالخليج.

من جانب آخر، كان انضمام الإمارات إلى اجتماع مدينة بافوس الساحلية القبرصية، الذي انعقد في (16/4/2021)، وجمع اليونان وقبرص وإسرائيل والإمارات، على علاقة أكيدة بأمن المتوسط، وليس بعيداً عنها ربما العلاقات الإسرائيلية مع دول البلقان؛ مثل رومانيا وبلغاريا، ولربما هذه الإشارات التي أثارها هذا الاجتماع، عكست ما نتحدث عنه بخصوص البيئة الاستراتيجية الجديدة، في تشابكها الإقليمي والدولي، ولعلّ ذلك ما دفع المشاركين في بافوس إلى اعتبار أن محادثاتهم "تعكس الوجه المتغير للشرق الأوسط"، وأن التعاون بينهم متعدد المجالات ويمتد من الدفاع إلى الطاقة والسياحة وغيرها. وفي تعليقه على اجتماع بافوس، قال وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، غابي أشكنازي، الذي حضر الاجتماع: "هذه الشراكة الاستراتيجية الجديدة تمتد من سواحل الخليج العربي إلى البحر المتوسط وأوروبا". ودعا إلى " شراكة استراتيجية في مجال الطاقة بين شرق المتوسط والخليج". أما وزير الخارجية القبرصي، نيكوس كريستودوليديس، فقال "تخلق شبكة التعاون المتطورة هذه سردية جديدة".

إسرائيل وإيران

بات معروفاً أن التحولات التي شهدها العراق وسوريا واليمن، في الحقبة الماضية، منحت إيران نفوذاً أكبر، يدفع إسرائيل إلى بناء استراتيجيات تستهدف منع طهران من التموضع قريباً من حدود الأولى، وهو هدف الضربات الجوية المتكررة من قبل إسرائيل في سوريا وعلى الحدود السورية العراقية. وتقول إسرائيل إنها لا تقبل أن تكون إيران أو وكلاؤها على مقربة من حدودها، وتعتبر ذلك تهديداً وجودياً، وهي تستعد لصراع محتمل مع إيران بكل الوسائل، وخصوصاً مع تزايد التكهنات بأن إيران في وضع الوصول إلى "العتبة النووية" أو أنها وصلت إليها، ومن الوارد أن تتمكن من تصنيع سلاح نووي، برغم نفيها رغبتها في حيازته، وإصرار مسؤوليها على أن برنامجهم النووي لغايات مدنية. ويشتبه في أن إسرائيل تقف وراء سلسلة من الهجمات التي تستهدف البرنامج النووي الإيراني.

والأمر لا يتعلق فقط بالبرنامج النووي الإيراني، بل أيضاً لأنّ إيران، وفق مجلة "الإيكونوميست" أصبحت المزود الأكثر ثباتاً للطائرات من دون طيّار وغيرها من التقنيات العسكرية لوكلائها أو حلفائها؛ ليس في العراق فقط ولكن في اليمن وسوريا وقطاع غزة أيضاً. وهذا السلاح المفضّل لدى إيران، بحسب "الإيكونوميست"، يثير قلق أعدائها ويُهدد بتغيير موازين القوى في المنطقة، برغم أنها لا تستخدم طائرات طائرات متطورة مثل تلك التي تستخدمها الولايات المتحدة أو إسرائيل (تشغّل إيران الطائرات من دون طيّار من خلال أدوات تحكم راديوية وليس باستخدام الأقمار الاصطناعية)، أو حتى تركيا.

ومجال استهداف الطائرات المسيّرة الإيرانية التي تُوَزّع على حلفاء طهران هو البحر المتوسط ومنطقة الخليج والبحر الأحمر. وهذا الأمر، في ظل المتغيرات في البيئة الاستراتيجية في المنطقة، يؤكد تزايد الترابط بين أمن المتوسط والخليج والبحر الأحمر، ويثير مخاوف من أن يمنح انتشار شبكات الجيل الخامس للاتصالات المهاجمين بأنظمة الطائرات المسيّرة تلك مزيداً من التحكم فيها.

وليس منفصلاً عن ذلك ما سمي بـ"حرب الظل" أو الحرب السرية والاستخباراتية ما بين إسرائيل وإيران، ويتعداهما أحياناً إلى أطراف دولية. وكانت صحيفة "ديلي إكسبريس" البريطانية ذكرت في أغسطس 2021، أن وحدات من القوات الخاصة البريطانية وصلت إلى اليمن، لملاحقة من يعتقد أنهم نفذوا هجوماً (في 30 يوليو 2021) بطائرات مسيّرة على الناقلة "ميرسر ستريت" في بحر العرب، والذي أودى بحياة رجل أمن بريطاني ومواطن روماني. والناقلة كانت تديرها شركة "زودياك ماريتيم" الإسرائيلية.

من زاوية أخرى، أشارت صحيفة "الشرق الأوسط" في أكتوبر 2021، إلى أن إسرائيل قدمت دعماً عسكرياً نوعياً لباكو في أثناء الحرب بين أذربيجان وأرمينيا في إقليم ناغورني قره باخ قبل عام، وهي (ربما) تريد ثمناً لذلك عبر تعزيز وجودها في أذربيجان، ما قد يعني أن إسرائيل باتت لأول مرة قرب حدود إيران.

في المحصلة، لعل ما تؤكده جميع المؤشرات والمعطيات والديناميات التي أشرنا إليها هو أن الجهات الإقليمية والدولية تكثّف مساعيها من أجل الانخراط في لعبة نفوذ جديدة في منطقة الشرق الأوسط، هي، بالتأكيد، على علاقة بتراجع في كثافة الحضور الأمريكي في المنطقة؛ كما يقول مايكل يونغ في تحليل نشره مركز "كارنيغي".

دعوات إقامة نظام أمن جماعي في عموم الخليج

على مدى سنوات، تكررت الدعوات لإقامة نظام أمن جماعي إقليمي في منطقة الخليج وبحر العرب ومضيقي هرمز وباب المندب، يضم إلى جانب "دول مجلس التعاون" الخليجي، إيران والعراق، وأيضاً اليمن. ما تزال هذه الدعوات مستمرة، والمبادرات الإقليمية والدولية بشأنها متعددة. ولا شك في أن متطلبات التهدئة والحوار والتعاون اليوم أكثر إلحاحاً؛ فالحلول العسكرية في المنطقة لم تصل إلى نتائج مُرضية، والصراعات المفتوحة زادت الحالة الاقتصادية، التي فاقمها تفشي وباء كورونا، سوءاً.

لكنّ خبرة السنوات، بل العقود الماضية، بشأن الدعوات إلى هيكل أمني جماعي في عموم الخليج بضفتيه، أظهرت أن العقبات التي تمنع انبثاق هذا الهيكل الجماعي عديدة، من أبرزها:

1. ضعف الإرادة السياسية للاعبين الإقليميين لتخليق إجراءات بناء ثقة واسعة وشاملة ومستدامة فيما بينهم، يمكن البناء عليها لتهيئة الطريق للدخول في توافقات عامة على خطوط عريضة حول الملفات والقضايا الشائكة وأوجه الخلاف بين دول المنطقة، وخاصة إيران ودول "مجلس التعاون".

2. الافتقار إلى نظام مستدام للردع الاستراتيجي، من شأن توافره أن يُنشِئ توازناً نسبياً في القوى، يحفّز على الانضباط وتراجع العناصر المُوَلِّدَة للحروب والأزمات. وتقع مسؤولية هذا الافتقار على الأطراف الدولية الكبرى، التي ما تزال تتصادم مصالحها وأولوياتها ومقارباتها واستراتيجياتها في منطقة الخليج وعموم الشرق الأوسط.

3. هناك نقص أو غياب لنموذج متكامل للتنمية في الشرق الأوسط، يحظى بالقبول العام، ويكون قابلاً للتعميم وتقديم الدروس، والإغراء بمزايا الازدهار والاستقرار والمشاركة، بدلاً من الحروب والنزاعات واستنزاف الموارد، واستمرار تهميش الشعوب.

إدارة المخاطر وليس القضاء عليها

لطالما اعتُبرت الولايات المتحدة الأمريكية منذ أكثر من نصف قرن وحتى الآن الفاعل الرئيسي الأهم والأكثر نفوذاً في منطقة الخليج.  ومنذ عهد الرئيس باراك أوباما، تغير التقدير الاستراتيجي الأمريكي حيال منطقة الشرق الأوسط، وتراجعت أهميتها في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، وبذلك تغيّر منظور واشنطن لعناصر التهديد وقائمة الأولويات الأمريكية، التي بات تركيزها منصبّاً على مواجهة التحدي الصيني الصاعد وعلى روسيا، وعلى ضمان التفوق الأمريكي الشامل، عالمياً؛ خاصة في الاقتصاد والتكنولوجيا الفائقة، المدنية والعسكرية. وقد تطلب ذلك بالتأكيد إعادة توجيه الموارد والأصول الأمريكية والأولويات باتجاه تخفيض البصمة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط الكبير، فكان الانسحاب من أفغانستان والتخطيط لسحب القوات القتالية من العراق جزءاً من بيئة دولية متغيرة، تحكمها قواعد جديدة بين اللاعبين الدوليين، ولا تريد فيها واشنطن أن تكون "شرطي العالم".

كان اكتفاء واشنطن من النفط في عهد أوباما من أهم العناصر التي غيّرت اللعبة الأمريكية (game changer) في الشرق الأوسط، وبتنا نسمع من الإدارات الأمريكية في العقد الأخير حديثاً عن ضرورة أن يتقاسم حلفاء أمريكا في أوروبا والشرق الأوسط العبء معها (Burden-sharing)، وألا يكونوا راكباً مجانياً (free-rider)، بحسب وصفٍ لأوباما أورده في مقابلته الشهيرة في مجلة "ذي أتلانتك" (في أبريل 2016).

وبحسب مايكل يونغ في "كارنيغي"، فقد شكّلت اتفاقات التطبيع التي أُبرمت العام الفائت بين دول الخليج وإسرائيل نوعًا من ثقل موازن في وجه إيران، بعد أن أحجمت الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب عن الردّ على الهجمات التي يشار بأصابع الإتهام فيها إلى إيران، مثل استهداف سفنًا سعودية أو إماراتية في مايو 2019، وبعد أن بدا واضحًا تردّد ترامب في التدخّل نيابةً عن حلفائه السعوديين عقب الهجوم الذي نفذّته طائرات من دون طيار على منشأتين تابعتين لشركة أرامكو في مدينتَي بقيق وخُريص في سبتمبر 2019.

وبخصوص الجدل هو مسألة الالتزام الأمريكي بأمن الخليج، نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال"، في يونيو 2021، عن مسؤول دفاعي أمريكي كبير، لم تسمّه، قوله تعليقاً على سحب واشنطن معدات وأنظمة عسكرية من الخليج، وخصوصاً من السعودية: "لا يزال لدينا قواعدنا في دول شركائنا الخليجيين، ولم يتم إغلاقها، ولا يزال هناك وجود (أمريكي) كبير، وموقف كبير في المنطقة". وقال مسؤول بالبيت الأبيض إن بعض الأفراد والمعدات من أفغانستان يجري نقلهم إلى الشرق الأوسط للرد على بعض التهديدات في المنطقة"، بحسب الصحيفة الأمريكية.

in-2-(3).jpg-ما-هي-تضاريس-أمن-الخليج-في-ظل-بيئة-استراتيجية-جديدة-إقليمياً-ودولياً؟1.jpg

ونقلت الصحيفة عن كاثرين ويلبارغر- القائمة بأعمال مساعدة وزير الدفاع خلال إدارة ترامب السابقة، والتي تعمل الآن زميلة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى- قولها إن "واشنطن تعمل على حل مشكلة التوترات مع إيران باستخدام الأدوات الدبلوماسية، كما قامت السعودية بتحسين قدراتها الدفاعية، وبناء عليه فإن هذا القرار منطقي". وأضافت: "هل هناك بعض المخاطر المتزايدة؟ نعم. لكن الأمر يتعلق بإدارة المخاطر، وليس القضاء عليها".

وثمة من يلفت الأنظار إلى أنه حتى مع تَضرُّر سُمعة الولايات المتحدة بعد الانسحاب الأخير من أفغانستان، وبأن ذلك يترك تداعياته على المصداقية بالتزامات أمريكا حيال أمن حلفائها، فإن التوقعات من أمريكا ما تزال عالية من جميع حلفائها وشركائها وغيرهم. ومع كل حدث أو اضطراب، يبدو أن السؤال الذي يطرحه الناس على أنفسهم ليس أبدًا ماذا ستفعل الصين؟ بل لا يزال دائمًا ما الذي ستفعله الولايات المتحدة؟ وهذا سوف يستمر حتى بعد الانسحاب من أفغانستان... وهو ما ستتأثر به، بالطبع، دول الخليج العربية.

الاستنتاجات

1. حتى مع تصدُّر التحدي الصيني أولويات واشنطن حالياً، فإن الشرق الأوسط الكبير سيبقى منطقة نفوذ استراتيجية للولايات المتحدة. وقد يمثّل مشروع "الحزام والطريق" فرصة استراتيجية كبرى محتملة لبكين لامتداد نفوذها من البعد التجاري إلى الجيو-سياسي في الشرق الأوسط، وهو معطىً يؤكد أن مواجهة التحدي الصيني بالنسبة لواشنطن غير مقتصرة على آسيا فقط، يدل على ذلك، مثلاً، طلب الولايات المتحدة من حلفائها في الشرق الأوسط (وفي أوروبا أيضاً) تقليص الاندماج في مشاريع التكنولوجيا الصينية وتقنيات الذكاء الاصطناعي والـ(5G) الصينية، خاصة في البنى التحتية ذات الحساسية.

2. حتى الآن، من غير الواضح مدى رغبة أو قدرة الصين (أو روسيا) على مزاحمة الولايات المتحدة على الأدوار الأمنية والعسكرية في الشرق الأوسط. والمؤكد أنه في المدى المنظور تكاد تكون هذه الرغبة أو القدرة شبه منعدمة.

3. ترابط أمن منطقة الخليج بالبحر المتوسط والبحر الأحمر جزء من بيئة استراتيجية جديدة تتشكل بمشاركة أمريكية، برغم تعقيدات الحديث عن تخفيف البصمة العسكرية الأمريكية في المنطقة، ومن العناوين الأساسية في هذه البيئة تصاعد أدوار اللاعبين الإقليميين. ويبدو أن "الاتفاقيات الإبراهيمية" فتحت الباب واسعاً لخلق تحالفات وأطر مشتركة، تضم طيفاً واسعاً من اللاعبين، ممن باتوا يرغبون في أخذ المبادرة في محاولة تشكيل حقائق جيوسياسية جديدة، في مجالات الدفاع والطاقة والأمن، وفي مواجهة تحديات يرون أنها تأتي من إيران وتركيا. والمؤكد أن الطرفين الأخيرين، لا يقفا مكتوفي الأيدي، وهذا كله يترك تأثيره على البيئة الأمنية الجديدة في الخليج، التي لم تستقر تضاريسها النهائية بعد، ولم يتوصل اللاعبون فيها إلى بدء التوافق على إنشاء هيكل أمني جماعي، يُعالج مخاوفهم ويوسّع المصالح المشتركة بينهم، ويحدّ من نزاعاتهم وخلافاتهم.

 

 

*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.

محمد برهومة

كاتب وباحث أردني