مصر التميز.. في زمن البحث عن التميز
لا يمكن إطلاقاً الحديث عن مصر خارج سياق خصوصية واستثنائية لا يشاركها فيها أي بلد آخر، فقد تمكنت تلك الدولة العظيمة من الحفاظ على طابع خاص عبر آلاف السنين، فلم تتوقف فرادتها عند حضارتها الفرعونية الموغلة في القدم وأسرار أهراماتها وكتاباتها الهيروغليفية.
الكاتب حسن إسميك
- تاريخ النشر – ٠٧/١٠/٢٠٢١
«البحث عن التميز والتفرد» نزعة واضحة تكاد تسم معظم عالمنا المعاصر، أفراده وشركاته ودوله، وكلها تبحث عن ميزات، نسبية أو مطلقة، في السياسة والاقتصاد والمجتمع، والحضارة بالعموم، بل يكاد بعضها يميل إلى تبني بعض المواقف، غير المقنعة ولا المنطقية ولا حتى الأصيلة، علَّها تمنحهم شيئاً من التميز المرتجى. في المقابل، تمتلك بعض الدول من التميز الشيء الكثير، ليس على صعيد واحد فحسب إنما على كافة الأصعدة، ومن أولى الدول التي ستتبادر إلى الأذهان عند الحديث عن موضوع الفرادة هي، وبكل جدارة: مصر..
لا يمكن إطلاقاً الحديث عن مصر خارج سياق خصوصية واستثنائية لا يشاركها فيها أي بلد آخر، فقد تمكنت تلك الدولة العظيمة من الحفاظ على طابع خاص عبر آلاف السنين، فلم تتوقف فرادتها عند حضارتها الفرعونية الموغلة في القدم وأسرار أهراماتها وكتاباتها الهيروغليفية، إنما تنسحب هذه الخصوصية إلى كل ما هو مصري، بدءاً من الموقع الجغرافي والاستراتيجي لمصر، ونيلها العظيم أطول أنهار العالم، الذي وهبها الحياة كما يقول المؤرخ اليوناني هيرودوت، مروراً بشواطئها الذهبية الواسعة وسحر الغوص في بحارها وبين شعابها المرجانية، وواحاتها الكثيرة حيث ستحملك الجِمال (أو أية وسيلة نقل حديثة طبعاً) في مغامرة صحراوية لا تُنسى، وصولاً إلى «جبل الطور»، حيث كلّم الله سبحانه وتعالى نبيه موسى وأنزل عليه الوصايا العشر، هذا الجبل الذي يعد إرثاً إنسانياً لكل أتباع الديانات التوحيدية الثلاث.
حتى الأديان في مصر لها طابعها الخاص الذي لا يشاركها به أحد، فتجمع على أرضها بعض أقدم الأديرة والمساجد في إفريقيا كلها. يُعرف مسيحيو مصر بالأقباط، كلمة يعني أصلها اللاتيني «سكان مصر»، فهم كانوا سكانها فعلاً قبل دخول العرب مع الإسلام إلى أرض مصر على يد عمر بن العاص. والكنيسة القبطية هي إحدى أبرز الكنائس الشرقية وأكثرها خصوصية، وقد أسس أتباعها أول دير معروف في إفريقيا والعالم. دير «الأنبا أنطونيوس» بجبال الصحراء الشرقية جنوب السويس، وهناك تأسست الرهبنة. كما أخذت الكنيسة القبطية على عاتقها حماية آلاف النصوص والدراسات اللاهوتية والإنجيلية. وكانت مدرسة الإسكندرية المسيحية أول مدرسة من نوعها في العالم. وتستخدم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الطقس الليتورجي الإسكندري المميز، وموسيقاها الكنسيّة هي واحدة من الأقدم علمياً، وحتى التقويم القبطي مميز، إذ يتكون من 13 شهراً، ومازال مستخدماً من قبل كثير من المزارعين المصريين لأنه يتتبع بدقة المواسم الزراعية المحلية.
أما عن المساجد، ففي القاهرة القديمة، كما ذكرت، واحد من المساجد الأولى التي تم بناؤها في أفريقيا، مسجد عمرو بن العاص، القائد المسلم الذي أسس العاصمة الجديدة لمصر آنذاك، الفسطاط. كما تمتاز مصر أيضاً في انها تحتضن مؤسسة الأزهر التي تضم ثاني أقدم جامعة في العالم، والأكبر في العالم العربي، والأكثر شهرة في العالم الإسلامي، ويُنظر إلى الأزهر كممثل عالمي للفكر الإسلامي، فهو في مدى تأثيره وقوة حضوره يشبه وإلى حد كبير الكنيسة الكاثوليكية (أو الفاتيكان) في الغرب.
يمتلك الشعب المصري بكافة أديانه وطوائفه شخصيةً مختلفة وطاغية وأصيلة، من اللكنات المتنوعة إلى الطعام وطرق تحضيره الغريبة وصولاً إلى العادات والتقاليد المتجذّرة. وتجد أن كل مدينة في مصر لها زيها الخاص الذي يميزها عن المدن الأخرى. وإذا ما أتى سائح أو زائر إلى مصر لا يمكن أن يفوته حسن الضيافة والاستقبال، وإذا ما قرر المرور بالأسواق سيجد زخماً متنوعاً من البضائع والمنتجات اليدوية المحلية، ولا يبخل عليه بائع في عرضها والشرح عنها مع ابتسامة مشجعة ترتسم على وجهه. وحتى في مجال السينما والمسرح والدراما كانت مصر رائدةً ولا تزال تتصدر قائمة الإنتاجات العربية من حيث التنوع والكم والكيف على حد سواء.
لا تقف مصر عند هذا الحد، بل تستمر بمفاجأتنا بنبع من الكنوز والمفاخر التي لا تنضب. تركت الحضارات في مصر آثاراً عمرانية لا تعد ولا تحصى، ومازال الغموض والإثارة يلفّان الحضارة المصرية الضائعة والتي لم تُكتشف كل أسرارها حتى يومنا هذا، ما يجعل من مصر معيناً لا ينضب من التراث الإنساني، ويحول التجول بين روائعها الفنية المعمارية إلى ما يشبه الدخول إلى قصص الأساطير الخرافية الساحرة والخلابة.
تنسحب أهمية مصر –بداهةً– إلى الاقتصاد والسياسة، ولم يجد نابليون بونابرت صعوبةً في إدراك أهميتها في هذين المجالين، وهو الذي قال: «لو لم أكن حاكماً على مصر لما أصبحت امبراطوراً على فرنسا». وبالطبع فإن تاريخ مصر السياسي لم يكف عن التأكيد على مفصلية دورها في الوطن العربي وفي العالم، ناهيك عن الأهمية الاستراتيجية لمصر في جيوبولتيك العالم. يقول الجغرافي الموسوعي جمال حمدان في كتابه «شخصية مصر»: «مصر هي حجر الزاوية وركن الأرض في الثلاثية القارية التي يتألف منها العالم القديم، وهي [الدولة] الوحيدة التي تلتقي فيها قارتان وتقترب منها ثالثة... وتقع عند التقاء أربعة أضلاع من هذه القارات. فهي لا تتمتع بموقع مركزي في قلب العالم القديم ولا موقع البوابة فحسب ولكن ايضاً بالموقع العقدي المحوري». وقد شهد العالم كله مؤخراً كيف كان توقف الملاحة التجارية في قناة السويس لمدة ستة أيام فقط كفيلاً برفع أسعار الذهب والدولار، وتكبيد العالم خسائر مادية هائلة.
إن امتلاك أي دولة لميزة واحدة من الميزات التي تتحلى بها مصر كفيل بجعلها على قدر كبير من الأهمية، يعي الشعب المصري هذه الحقيقة، ويفخر كثيراً بهويته المصرية، فتُلاحظ انتشار العَلم المصري بشكل ملحوظ أينما أدرت ناظريك في هذه الأرض العريقة. كما يبرز هذا الشعور الوطني في عدد كبير من الأغاني التي كُتبت وتغنت بمصر، والتي لم تقتصر يوماً على الفنانين المصريين، إنما شملت معظم أعلام الغناء العربي.
لن تتسع السطور يوماً لتضم كل ميزات مصر، ولن تتمكن يد من تلخيص أهميتها العالمية. وما يبعث على التفاؤل أن مسؤولي مصر يعون جيداً ما لديها من إمكانات، ويدركون أنها قادرة على الريادة في أي مجال تختاره، ويعملون جاهدين على أن تكون هذه الشعلة الحضارية مركزاً عالمياً وإنسانياً وازناً ومؤثراً، وأن تستعيد أرض الكنانة دورها كقطب سياسي واقتصادي وثقافي إقليمي ودولي.
يجب أن تحظى جهود الرئيس السيسي بكل الممكن من الدعم العربي والعالمي، لأنه يصون مصر، وبالتالي يصون قدراً كبيراً من الإرث الحضاري العالمي؛ ويبني السلام في مصر، وبالتالي يجعل احتمال انتشار السلام في المنطقة العربية أكبر وأكثر إمكانية؛ ويطور ويؤسس للتنمية في مصر، وبالتالي يقلل من احتمال حدوث اضطرابات في خطوط الملاحة والتجارة العالمية. يعرف هذا الرجل نقاط قوة بلاده ويكرس كل الجهود لاستثمارها وإبرازها، ونقاط الضعف أيضاً ويعمل على تلافيها. مرّت مصر وتمر بصعوبات كثيرة، وهذا طبيعي، لكن يظلُّ الأساس القوي موجوداً لإكمال مسيرة التفوق والتميز المصري في المجالات كافة.. في مرحلة جديدة توظف كل الخبرات والمعارف المصرية المتراكمة، لتشكّل حقبة حداثية عصرية تضيف إلى التاريخ المصري حاضراً ومستقبلاً لا يقل إشراقاً ولا فرادة..
حسن إسميك
رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS