مستقبل الشعبوية في أوروبا

الشعبوية والآخر

يعيش اليمين الشعبوي الآن فترة تاريخية في مساره السياسي. وإن نجح على المدى المتوسط في استغلال الظروف الملائمة لتعزيز حضوره في العواصم الأوروبية المؤثرة على الصعيد الدولي، فسنكون أمام واقع أوروبي جديد يشكل تحديا وجوديا للاتحاد الأوروبي ككيان سياسي موحد. فما هي الظروف التي تترافق مع تنامي الشعبوية في أوروبا؟ وما هي أسس الخطاب الشعبوي الموجه للناخبين؟

الكاتب بلال العضايلة
  • الناشر – STRATEGEICS
  • تاريخ النشر – ١٨‏/٠٢‏/٢٠١٩

هناك اتفاقٌ شبهُ ضمنيّ على أنّ الحركات الشعبوية المدعومة بفكرة مناصرة القومية، تشهد رواجاً في كلًّ من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. حيثُ أنّ التغيّرات الاجتماعية والثقافية في أيّ مجتمع لا يمكنُ لها  أن تتحوّل إلى واقعٍ سياسي، إلّا إذا وجدت دعماً شعبياً وسياسياً قادراً على دفعها إلى النضوج. لذلك شكّلت الشعبوية في أوروبا ظاهرةً مُهمة للدراسة والبحث. فهذه الحركات تستمد قوّتها من اعتقادها بعدمِ كفاءة النُخب التقليدية في تقديم الحلول المناسبة للواقع المعيشي. في حين تُعرّف هذه الحركات أكاديمياً بأنّها: مجموعةٌ اجتماعية تشعر بالتهميش والإقصاء مارسته بحقها النخبة السياسية التقليدية، على اختلاف توجهاتها (ليبرالي - محافظ، أو يمين – يسار).

تسعى حركات اليمين الشعبوي في أوروبا إلى بلورة موقفٍ اجتماعيٍ شبه موحّد، تجاه قضايا تثير حساسية الرأي العام، مثل قضية الهجرة و"الإسلاموفوبيا"، ومسؤولية النظام الاقتصادي العالمي عن تردّي الواقع المعيشي لفئاتٍ بعينها. حيث تعملُ هذه الحركات على استغلال طبيعة هذه القضايا لتوسيع قواعدها الانتخابية والوصول إلى مستوياتٍ متقدّمة من التأثير في السلطة التشريعية والتنفيذية.

بلغ عدد نوّاب أبرز تكتلات اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي الحالي 156 نائباً من أصل عدده الكلّي البالغ 751 مقعداً، موزّعين على 4 تحالفاتٍ رئيسية. تُعدّ فرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا والمجر، أبرز الدول التي ينتشر فيها هذا اليمين، ناهيك عن إيطاليا التي حقق فيها ماتيو سالفيني، زعيم "حزب الرابطة"، آخر انتصارات اليمين الشعبوي في انتخابات 2018 التشريعية، بحصول الحزب على 17,4% من الأصوات، مما أهّله لموقعٍ متقدم -نائب رئيس الوزراء- في الحكومة الإيطالية. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار انتشار الحركات الشعبوية في العديد من الدول الأوروبية، وليس فقط اقتصارها على عددٍ محدودٍ من الدول، فإننا أمام تغيّر يحصل في نمط الثقافة السياسية ذي الطابع الليبرالي السائد في أوروبا.

فكيف سيبدو مستقبل انتشارها في ظلّ المسار المتذبذب الذي تواجهه مختلف الاتجاهات السياسية في أوروبا؟ ثمّة مَن يرى من المُحللين والمراقبين أنّ هذه الفئة السياسية الصاعدة، نمت بين أوساطٍ لم تكن أصلاً مهتمةً بالانخراط في المشاركة السياسية. تزامن ذلك مع حالةِ تراجعٍ في الثقة بالأحزاب التقليدية المتنافسة على اختلافها.

ولقراءة المشهد بالأحداث، يمكننا تحليل الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، والتي جرت في السابع من مايو 2017. حيث كان التنافس فيها بين مرشّح الوسط الليبرالي إيمانويل ماكرون، وبين مرشّحة الجبهة الوطنية -ذات التوجهات اليمينية الشعبوية المتطرفة- مارين لوبان. فكان لافتاً للمرة الأولى منذ إعلان الجمهورية الخامسة 1958، غياب الحزبين التقليديين، "الاشتراكي" اليساري و"الجمهوري" اليميني، عن الجولة النهائية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية.

وفي ألمانيا، حقق حزب البديل لألمانيا انتصاراً تاريخياً بدخوله "البوندستاغ" الفدرالي للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، في انتخابات 2017 التشريعية، مستغلاً التراجع النسبي للحزب "المسيحي الديمقراطي" الحاكم، والذي دعم في السنوات القليلة الماضية سياسات لجوء منفتحة. وفي التشيك، فاز حزب "آنو" المتطرّف في انتخابات 2017 بعد حملةٍ صاخبة بشعارات مكافحة الفساد، واتّباع سياسات هجرة متشددة. في المقابل تراجع الحزب "الاشتراكي الديمقراطي" الحاكم بصورةٍ حادّة، بحلوله سادساً بنسبة 7,3% من الأصوات، رغم أنّه أحد الأحزاب التقليدية الرئيسة في الحياة السياسية. مع حصول هذه التحوّلات في أكثر من دولة أوروبية وإن كان بدرجةٍ أقل، نكون أمام حالة تتجذر شيئاً فشيئاً في المشهد السياسي الأوروبي، ستعملُ على تغيير نوعي في البُنية التحتية السياسية في الاتحاد. فقد استلهم هذا اليمين من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، دعماً معنوياً لما يرونه "تحرراً من الاتحاد الأوروبي".

الشعبوية والآخر

تُعدُّ حالة الخوف من الإسلام "الإسلاموفوبيا" من أكثر القضايا الاجتماعية التي يسعى اليمين الشعبوي لتوظيفها واستغلالها سياسياً، لترسيخ حضوره في المشهد السياسي، خصوصاً مع تزايد أعداد المهاجرين المسلمين نتيجة الصراعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط.

وفقاً لآخِر إحصائية قام بها مركز "بيو" الأمريكي للأبحاث، نُشرت عام 2017، بلغ عدد المسلمين نحو 25,8 مليون نسمة، ما يعادل 4,9% من إجمالي الاتحاد الأوروبي، متركّزين في ألمانيا وفرنسا بصورةٍ رئيسية بعددٍ يبلغ 5,7 مليون و5 مليون على الترتيب. وحسب الدراسة ذاتها، وصل 2.5 مليون مسلم إلى أوروبا لأسبابٍ لا ترتبط باللجوء كالدراسة والعمل، في الفترة الواقعة من 2010-2016. هذه الزيادة المطردة في أعداد المسلمين في أوروبا، عمل اليمين على استغلالها وتوظيفها لغاياتٍ انتخابية. ففي الفترة الواقعة بين 2010-2016، ارتفعت نسبة المسلمين المهاجرين في ألمانيا من 4,1% إلى 6,1% من إجمالي عدد السّكان المُقدّر في تلك الفترة تقريباً 80 مليون نسمة.

في الانتخابات التشريعية التي جرت عام 2017، دخل حزب "البديل لألمانيا"، ذو التوجهات اليمينية المتطرفة، إلى "البوندستاغ" الفدرالي للمرة الأولى منذُ نهاية الحرب العالمية الثانية، بعد أن حشد قواعده الانتخابية من خلال صنع حالةٍ من "الخوف" من السياسات المنفتحة تجاه اللاجئين التي اتبعتها المستشارة الألمانيا، أنجيلا ميركل، مع تنامي وبروز التشدد الإسلامي في بعض الأحياء التي يقطنها غالبيةٌ مسلمة. فحسب وكالة "دويتشه فيله" الألمانية، فإنّ الادّعاء العام الألماني حقّق في عام 2016 في حوالي 240 قضيةٍ إرهابية، 85% منها بخلفياتٍ إسلامية، مقارنةً فقط بحوالي 70 قضية في عام2013. هذه الحالة من التطرّف والتطرّف المُضاد في أوروبا عموماً، تشكّل هاجساً أمنياً قد يضغط في المستقبل باتجاه تقييد ممارسة الحريات العامة في أوروبا.

وفي سياقٍ متصل بالتحذيرات الرسمية من تزايد التجمّعات الإسلامية في ألمانيا، حذّر تقريرٌ مفاجىء للمخابرات الألمانية من انتشار الجمعيات التابعة لجماعة "الإخوان المسلمين"، وذلك لطبيعة فكر الجماعة القادرة على استقطاب أعضاءٍ جُدد بصورةٍ تفوق قدرة التنظيمات السلفية على تحقيق هذا الاستقطاب. كما أنّ القدرة التنظيمية العالية والإمكانات المالية التي يأتي جزءٌ منها من دول خليجية، تُمكن "الإخوان المسلمين" من استغلال أعداد اللاجئين المتزايدة لزيادة قاعدتهم الاجتماعية؛ وبالتالي التأثير في الطابع السياسي لألمانيا. فعلى المدى المنظور "يُشكّل أكبر تنظيمٍ إسلامي في العالم خطراً حقيقياً على الديمقراطية، أكثر من التنظيمات الإرهابية كالقاعدة وداعش". وعليه وحسب التقرير الذي نشرته "فوكس نيوز"، قيّمت المخابرات الألمانية في ولاية نورد راين فيستفالن، أنّ خطر "الإخوان المسلمين" يزيد على خطر تنظيمي "داعش والقاعدة".

وجادل مركز "فيديل" للدراسات في تقديرات أعداد السلفيين في ألمانيا، مفترضاً أنّها تتجاوز 40 ألفاً، على عكس تقديراتٍ سابقة للمخابرات الألمانية أشارت إلى أنّهم بضع مئات، ثم رفعت التقديرات العدد إلى بضعِ آلاف. فحتى -والكلام لفيديل- تقرير "فوكس" قدّر عدد الإخوان بأنّه لا يزيد عن ألف شخص، رغم أنّ التقرير تطرّق إلى انتشار نشاط الإخوان في عشرات المدن الألمانية، ففي ولاية "نرو" وحدها بلغ عدد المراكز الإسلامية 50 مركزاً. إذ يتمثّل نشاط الإخوان في افتتاح المساجد والمؤسسات التربوية الدينية التي تستطيع تأهيل الأطفال في مراحلهم العمرية المبكرة.

وقد تطرّق تقرير المخابرات الألمانية إلى وجود ارتباطاتٍ خارجية لـ"الإخوان المسلمين" مع جهاتٍ رسمية، فمثلاً قام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بافتتاح مسجد مدينة كولن، رافعاً إشارة رابعة. ومن هنا تبرز الضرورة لتحييد البُعد السياسي عن البُعد الاجتماعي للوجود الإسلامي في ألمانيا، حتى لا يُستَغل هذا الوجود لتحقيق غاياتٍ سياسية خارجية، أو حتى داخلية مثلما تحاول الأحزاب الشعبوية الربط بين الإرهاب وأعداد المسلمين المتزايدة لحشد قاعدةٍ شعبيةٍ انتخابية.

إلّا أنّ افتراض وتعميم وجود مثل هذا التلازم بين الشعبوية والعمليات الإرهابية، يبدو غير دقيق. فحزب "الحرية" الهولندي بقيادة خيرت فيدز، المعروف بتصريحاته العلنية المتشددة تجاه المهاجرين والإسلام، حقق مكاسبَ سياسية هامّة في انتخابات 2017 تتمثل بحلوله ثانياً في الانتخابات التشريعية، رغم عدم حصولِ عمليةٍ إرهابية كبيرة في هولندا في الفترة الماضية، ورغم قلّة عدد اللاجئين المسلمين نسبياً الذين استقبلتهم هولندا في الفترة الماضية.

الجدير ذكره أنّ اليمين الشعبوي يتبنّى موقفاً متشدداً تجاه اليهود أيضاً، أي رفض "الآخر" المُخالف لانتمائهم وهويتهم الإثنية، بغضّ النظر عن هذا الآخر. فقد حذّرت جمعيات يهودية عِدّة في أوروبا مما اعتبرته طرح أفكار تندرج تحت "معاداة الساميّة"، مشيرةً إلى تزايد جرائم الكراهية ضد اليهود التي يقوم بها أفرادٌ ينتمون لليمين الشعبوي المتطرف. فقد صرح رئيس مجلس الجالية اليهودية في أوروبا، آفي طويل، في مقابلةٍ لوكالة "يورونيوز-عربية"، حول هذه القضية، مرجِعاً السبب بصورةٍ رئيسة إلى "انتشار الأخبار المزيفة والكاذبة عن الآخر، عن اليهود أو حتى المسلمين".

ومع اقتراب أكثر من انتخابات في أوروبا، يبدو أنّ الأحزاب الشعبوية ستصعّد في تعبئة الرأي العام، عبر استغلال حركات الاحتجاج الصاخب -وبصورةٍ خاصّة السترات الصفراء التي تنتشر انطلاقاً من باريس- لاسيما وأنّ اتجاهات الأحزاب الشعبوية تتقاطع كثيراً مع مطالب هذه الحركات. تعبّر هذه الحركات الاحتجاجية عن حالةٍ من الرفض العميق للأوضاع الاقتصادية السائدة، مع شعورٍ داخلي بممارسة النظام الاقتصادي العالمي نوعاً من الظلم وعدم العدالة في توزيع الثروة.

لذلك، ومع فشل الرأسمالية في تقـديم تصـوّرٍ مـقنع حــيـال التحديات الاقتصادية العالمية، لهذا القطاع العريض من الرافضين، سيكون مستقبل الاقتصاد الليبرالي المعولم في خطر، إن تمكّن اليمين الشعبوي من تعزيز موقعه على الساحة السياسية الأوروبية. لاسيما وأنّ هنالك اتجاهاً عالمياً نحو المحليّة بدل الاتفاقيات متعددة الأطراف، كما يدعو لذلك الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ضمن سياسته "أمريكا أولاً". لذلك يبدو أنّ الشركات متعددة الجنسيات ستواجه مستقبلاً صعباً، مع تزايد سيطرة أنصار هذا التوجّه على عواصم صُنع القرار المؤثرة عالمياً.

خلاصة القول، يعيش اليمين الشعبوي الآن فترة تاريخية في مساره السياسي. وإن نجح على المدى المتوسط، في استغلال الظروف الملائمة، لتعزيز حضوره في العواصم الأوروبية المؤثرة، سنكون أمام واقع أوروبي جديد يشكل تحدياً وجودياً للاتحاد الأوروبي ككيان سياسي موحد.

 

بلال العضايلة

مساعد باحث مهتم في قضايا السلم الدولي وفض النزاعات