ماذا بعد اغتيال محسن فخري زاده؟

شكَّل اغتيال أبرز عالم نووي في إيران، تكهنات حول قرب موعد الحرب، فما الذي يؤخر وقوعها؟ وماذا يمكن أن تفعل الإدارة الأمريكية القادمة إزاء التوتر المتصاعد في المنطقة؟ وكيف يحدَّد ذلك السلوك الحالي للقيادة الإيرانية؟

الكاتب ستراتيجيكس
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ٠٩‏/١٢‏/٢٠٢٠

بالترافق مع تصريحات الإدانة التي صدرت عن عدد كبير من الدول في ما يخص عملية اغتيال مسؤول الملف النووي في وزارة الدفاع الإيرانية، محسن فخري زاده، دعا الجميع الجانبَ الإيراني إلى ضبط النفس وتجنب التصعيد العسكري في المنطقة، بالأخص بعد أن وجّه العديد من المسؤولين الإيرانيين أصابع الاتهام إلى الموساد الإسرائيلي دون صدور أي رد من تل أبيب على هذه الادعاءات، إلى جانب توعد السلطات الإيرانية على مختلف مستوياتها العسكرية والسياسية بالرد على هذا العمل الذي أتى في وقت تشهد فيه المنطقة منسوباً مرتفعاً جداً من التوتر المترافق مع فترة انتقال السلطة في الولايات المتحدة.

زاده الذي جرى اغتياله في 27 نوفمبر 2020 في مدينة دماوند في العاصمة الإيرانية طهران، هو أبرز عالم نووي في إيران، أدرجه مجلس الأمن الدولي على قائمة العقوبات في عام 2007، وكان قد ذكر اسمه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قبل عامين في معرض حديثه عن مدى تطور البرنامج العسكري النووي الإيراني، واصفاً زاده على أنه رأس حربة هذا البرنامج.

إن مسألة الاغتيال لم تضرب قدرات إيران النووية في مختلف المجالات، فمن البديهي القول إن هذه القدرات لا تعتمد على شخص وحيد وإنما على مؤسسات وكوادر وخبرات جرى العمل على تطويرها ومراكمتها عبر الزمن، إلا أن هذا لا يعني الاكتفاء بالصمت من قبل طهران التي يسعى المسؤولون فيها إلى وضع حد لاستهداف أمنها القومي باعتبار أن حادثة الاغتيال هذه ليست هي الأولى، حيث جرى اغتيال خمسة علماء إيرانيين في الفترة الممتدة ما بين (2010-2012) بحسب وكالة رويترز، هذا بالإضافة إلى تعرض إيران خلال يوليو 2020 إلى سلسلة من الأعمال التخريبية التي استهدفت منشآت لتكرير النفط ومحطات لتوليد الطاقة ومنشآت نووية على رأسها مشأة نطنز ذائعة الصيت حيث لم يُعرف من يقف وراءها.

يتفق السياسيون في طهران بشكل غير مباشر على أن هناك حرباً غير معلنة ضد بلادهم اشتدت منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في مايو 2018، تمثلت في عقوبات الحملة القصوى واستهداف التواجد العسكري الإيراني في سوريا والعمل على محاصرتهم سياسياً في كل من لبنان والعراق، وبالتالي ينظر البعض إلى اغتيال زاده على أنه حدث سوف يدفع إيران إلى تبني رد عسكري محدود كما فعلت عندما جرى اغتيال قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، في مطلع العام الجاري 2020، لكن يجب الإشارة هنا إلى أنه لا يوجد جهة تبنت اغتيال زاده، كما أن القوات الأمنية الإيرانية لم تُقدّم دليلاً واضحاً وقطعياً على مسؤولية تل أبيب عن الاغتيال.

نتائج الانتخابات الأمريكية والنزاع مع إيران

أشار الرئيس الأمريكي المنتخب، جوزيف بايدن، في حوار أجراه مع صحيفة "نيويورك تايمز" في مطلع شهر ديسمبر 2020 إلى أنه لا حل للتوتر في الشرق الأوسط دون الرجوع إلى تفعيل الاتفاق النووي، هذه الخطوة بحسب بايدن من شأنها أن تعيد الاستقرار إلى المنطقة وأن تمنع نشوب سباق تسلح بين الدول المتخاصمة، لذلك يقترح أيضاً أن تتسع قاعدة الاتفاق النووي لتشمل دول أخرى في الإقليم مثل السعودية ومصر.

إن التصريح المذكور إلى جانب تصريح وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، بأن الاتفاق النووي بصيغته الحالية لم يعد كافياً، بحيث أنه يجب أن يشمل البرنامج الصاروخي للمؤسسة العسكرية الإيرانية، يشيران إلى أن الاتفاق النووي الذي وُقّع عام 2015 من شبه المستحيل أن يتم الاستمرار بالعمل به على الرغم من عودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، كما أنه تبين أن الأوروبيين لا مشكلة لديهم في ممارسة الضغط على إيران، لكن المشكلة كانت مع إدارة ترامب حول آلية هذا الضغط إلى جانب خلافات في ملفات وقضايا أخرى، حالت بمجموعها دون خلق موقف موحد من هذه القضية الشرق أوسطية التي تُعد في غاية الأهمية.

بعد الكشف الأولي وشبه الرسمي عن نتائج الانتخابات الأمريكية، بدأت إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، تسلك سلوكاً يمكن تفسيره على أنه يهدف إلى تعقيد مهمة الإدارة القادمة على جميع المستويات، وبالتالي تأتي زيادة منسوب الضغط على طهران في هذا السياق، حيث قامت إدارة ترامب في منتصف نوفمبر الماضي (2020) بفرض سلسلة عقوبات اقتصادية ومالية على عدد من الشخصيات والمؤسسات الإيرانية.

إن التوجه لوضع العقبات أمام إدارة بايدن، أدّى بالعديد من الوسائل الإعلامية المستندة إلى بعض التسريبات من هنا وهناك إلى الزعم بأن إدارة ترامب ستُقبل على عمل عسكري ضد إيران، وقد ازدادات مدى واقعية هذه التكهنات بعد إرسال قاذفات "B-52" الاستراتيجية وحاملة الطائرات الأمريكية "USS Nimitz"، الذي ترافق مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، في منتصف شهر نوفمبر 2020 إلى كل من تل أبيب وأبو ظبي والمنامة.

هناك توجه على مستوى عدد من دول المنطقة إلى تشكيل ما يُشبه حائط صد تجاه السياسية الخارجية الأمريكية التي ستنتهجها إدارة بايدن تجاه إيران في الفترة القادمة، وذلك من أجل تحسين شروط التفاوض، بمعنى دفع إيران إلى تقديم تنازلات في أي اتفاق أو تسوية مستقبلية، كما من الممكن أن تستفيد إدارة بايدن من تل أبيب ودورها في المنطقة لتهديد المصالح الإيرانية، في فترات محسوبة بدقة، لدفعها إلى أن تتنازل حول صيغة مختلفة للاتفاق النووي.

swrt-dakhlyt-madha-bd-aghtyal-mhsn-fkhry-zadh.jpg

تناقض داخل طهران

كأي قضية خارجية، انقسم التياران الأصولي والإصلاحي في إيران على توقيت الرد على اغتيال زاده وحجم هذا الرد وتداعياته، فبينما يدعو التيار الأول الذي يُسيطر على غالبية مقاعد البرلمان إلى رد كبير وصاعق في أقرب وقت، يُفضل التيار الثاني التروي والتصرف بـ "عقلانية" بعدم الانجرار إلى حرب إقليمية شاملة، وهذا ما ظهر في خطاب الرئيس الإيراني، حسن روحاني، الذي أوحى بأنه يتوجب على الدولة التحلي بما يمكن تسميته بالصبر الاستراتيجي توازياً مع استمرار التهديد بالرد.

إن التأخر في الرد لا يعني زوال هذه الخطوة تماماً من الحسابات الإيرانية، فمن الممكن أن ترد إيران في آخر يوم يكون فيه ترامب في البيت الأبيض لكي لا يتمكن من القيام برد فعل من نوع معين، وبعبارة أخرى يُراهن صانع القرار الإيراني على إدارة بايدن التي تتطلع إلى إعادة الأمور إلى نصابها، فبحسب وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، ليس مطلوب من إدارة بايدن أكثر من رفع العقوبات الاقتصادية لكي تعود طهران إلى التزاماتها بشكل كامل بموجب الاتفاق النووي، أما بالنسبة لعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق فيعتبرها ظريف خطوة ثانية بحاجة إلى تفاوض.

إن الاستقبال غير الحاد "جداً" لاغتيال زاده، وجد مظاهره في خطاب المرشد الأعلى، علي خامنئي، الذي لا يُمكن مقارنة درجة السخط فيه مع نظيره الذي تبع اغتيال سليماني، فلم يذكر المرشد شيئاً عن الجهة المسؤولة عن الاغتيال في إطار حديثه عن "ضرورة الرد"، كما أقر البرلمان الإيراني قانون "الإجراءات الاستراتيجية لإلغاء العقوبات الأمريكية" الذي تضمَّن رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 20% وإعادة العمل بمفاعل أراك للماء الثقيل كخطوة لإعادة الوضع كما كان عليه قبل الاتفاق النووي، إلا أن هذا القانون يجب أن يحظى من أجل إنفاذه بموافقة مجلس صيانة الدستور، التي من المستبعد أن تصدر في ظل انتقادات حكومية للقانون باعتباره لا يخدم متطلبات المرحلة.

أما بالنسبة لطبيعة الرد إن وقع، فغالباً ستتم عبر استهداف شخصيات إسرائيلية دون تبني رسمي من قبل الحكومة في طهران، وذلك لكيلا يكون هناك مبرر لدى الطرف الآخر للتصعيد الذي لا تريده السلطات الإيرانية، على الأقل حتى تسلُّم بايدن لزمام الأمور في واشنطن.

اغتيال، هجوم سيبراني، جلبة على الحدود السورية أو اللبنانية، كل هذا وارد في إطار "الانتقام" الذي يسميه بعض القادة الإيرانيين بـ "الرد الذكي" الذي في حال عدم وقوعه، ستخسر القيادة الإيرانية الاستحقاق الشعبي، وبالتالي ستزداد حظوظ الأصوليين في السيطرة على مؤسسة الحكم في الانتخابات الرئاسية الإيرانية المزمع عقدها في منتصف العام القادم 2021، وهذا ما يعني أن التصعيد العسكري، الذي من الممكن أن يذهب إلى حرب إقليمية محدودة أو شاملة، سيكون مجرد مسألة وقت لا أكثر.

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات