"لن نجعل من الحرب أمراً غير وارد فحسب بل غير منطقي مادياً أيضاً".. شعار أطلقه وزير الخارجية الفرنسي روبرت شومان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ قاصداً به أن قيام التعاون الاقتصادي بين الدول الأوروبية سيجعل من خيار الحرب أمراً مستبعداً تماماً، وذلك لتشابك وترابط المصالح الاقتصادية بين أوروبا؛ وقد نتج عن هذا الاقتراح توقيع معاهدة المجموعة الأوروبية للفحم والصلب (معاهدة باريس) في 18 نيسان/أبريل 1951، وأهم مبادئها:
- رفع العقبات والحدود أمام تجارة الحديد والفحم بين الدول الموقعة.
- تطبيق سياسة موحدة مع الدول التي بقيت خارج المجموعة.
- حرية دوران القوة العاملة بين الدول الموقعة.
تطورت مسيرة هذه المجموعة لتصل في العام 1965 إلى قيام سوق مشتركة بعملة موحدة، ثم اتحاد أوروبي من أهم مبادئه "التنازل عن بعض صلاحيات الدولة الوطنية" إلى "مؤسسات الاتحاد واستمر مشروع الاتحاد في تطوره على كافة الاصعدة حتى الآن.
وبذلك يكون الأوربيون قد نجحوا في إقامة مشروع اقتصادي سياسي استطاعوا من خلاله لجم خلافاتهم التي امتدت لقرون؛ فحينما تتشابك المصالح تتعمق الروابط وتتعزز العلاقات وبالتالي تنزاح الأطماع الضيقة وتتوارى.
نعم إذا توافرت الإرادة الحقيقية تصنع المستحيل وتجعله ممكناً.
والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا: لماذا نجح الأوروبيون ولماذا فشلنا نحن؟
رغم أن فكرة العمل العربي المشترك قد سبقت قيام الاتحاد الأوروبي ممثلا في تأسيس جامعة الدول العربية ككيان كونفدرالي عام 1945، إلا أنه لم يرق إلى تطلعات شعوبنا؛ حيث استطعنا تشييد صرح مؤسسي اتحادي لم يفضي إلى تحقيق التعاون والشراكة العميقة الفعالة بين دولنا العربية، وبالتالي استمرت الخلافات والصراعات تنهش جسد منطقتنا مما أدخلها في نفق الانسداد التاريخي بحيث أنها لا تستطع الخروج منه حتى اللحظة!
ولا أريد أن أسرد هنا كل تجاربنا في العمل المشترك التي قمنا بها وفشلت؛ ولكنني سأناقش الموضوع من زاوية سياسية وثقافية كانت سببا في تشكيل عقلنا الجمعي والحفر فيه عميقا، وبالتالي جعلتنا أسرى لمنظومة من القيم التي تنتمي إلى عالم الفوضى والتشرذم بحيث أدى إلى تفكك أغلب تجاربنا الوحدوية.
مما يجعلنا نتساءل هل تعاني شعوب منطقتنا من داء "الماسوشية" التي تجعلهم يعشقون دور الضحية المظلوم والمقهور؟
نحن وقانون الصراع
رغم أن مفهوم الصراع يحمل بين طياته تناقض المصالح أو القيم بين طرفين أو أكثر مما يشي بأنه "نقمة لا نعمة"، إلا أن شعوب العالم استطاعت توظيفه بحيث يكون منتجاً خلّاقاً؛ فالصراع هو قانون الكون من خلال تفاعل الفكرة ونقيضها؛ مما يؤدي إلى ولادة فكرة جديدة من رحم هذا الجدل، تدفع بالتطور إلى الأمام تماما كما قال هيجل: "أنّ سير التاريخ والأفكار يتمّ بوجود الأطروحة ثمّ نقيضها ثمّ التوليف بينهما".
إن بقاءنا أسرى لسجن التاريخ أدى إلى استمرار غيابنا عن مسرح الفعل السياسي المؤثر سواء في منطقتنا أو العالم، وهذا ضيع علينا إمكانية إدارة صراعاتنا بطريقة عملية تساهم في التوصل إلى تسويات سياسية أو حتى تاريخية كما فعل الآخرون، فقد نجح الأوروبيون قبل قرون في إجراء مصالحة تاريخية تم بموجبها إيقاف الحروب البينية التي استمرت قرابة ثلاثة عقود قامت على أساس ديني -وأعني هنا- معاهدة "صلح وستفاليا عام 1648، لقد نجحوا في إيقاف عجلة تاريخ العنف والحروب العبثية التي لا طائل منها إلا الخراب والدمار، بينما مازلنا نحن نتمرَّغ في وحل حروبنا العبثية!
في رأيي أن معالجة موضوع التكامل أو التنسيق الفعال على غرار الاتحاد الأوربي وغيره من التجارب يتطلب منا تفكيك ما استقر في بنية عقلنا السياسي من قيم أدت إلى تعميق حالة التشظي والتشرذم في عالمنا العربي، حتى نستطيع تخطي العوائق التي تتحكم في آليات اشتغال فكرنا السياسي، ومن ثم نتواضع على جملة قيم سياسية خلّاقة توصلنا إلى مرحلة التعاون المثمر لصالح شعوبنا، وبالتالي ربما تتحقق فينا مقولة داروين:" إن البقاء ليس للأقوى أو الأكثر ذكاءً، وإنما للأسرع تجاوباً وتكيفاً مع التغيير"؟
تعرضت جامعة الدول العربية منذ نشأتها إلى هجوم عنيف وقاس من قبل التيارات الحزبية ومن كافة الأيديولوجيات؛ وذلك على طريقة ومذهب مجتمعات منطقتنا في النظر لكل فكرة جديدة على أنها مؤامرة تستهدف الهوية والتاريخ والدين، لذلك لا نعجب من فشل أي مشروع –حتى لو كان حبرا على ورق- بسبب الرفض الدائم والتشكيك في كل شيء لأجل لا شيء!
إنها الروح الخائفة من كل هبة تغيير أو جديد يوشك أن يحدث، مما يقودنا إلى تقويض إمكانات نهوضنا بأيدينا تماما كما قالت الآية الكريمة "يخربون بيوتهم بأيديهم" ويبدو لي أننا نعشق التلذذ بتعذيب ذواتنا، فنشعل لأجل ذلك حروب تقوم على قيم سياسية في غاية البؤس كنظرية "الصراع الصفري" التي تجاوزتها اغلب شعوب الأرض بعد أن خبرت أكلافها ومآسيها؛ ولكننا لا ندرس التاريخ بماضيه وحاضره، لذا هو يعيد نفسه على جسد منطقتنا بطريقة مأساوية تدعو للسخرية والحيرة في الآن نفسه!
لقد طُرحت الكثير من الرؤى والأطروحات حول سبل نجاح قيام وحدة أو اتحاد بين الدول العربية، وهي جميعا -حسب وجهة نظري- لم ولن يكتب لها النجاح؛ لأن تاريخنا أثبت أننا مشدودون للماضي وغزواته أيام كانت القبيلة تفعل فعلها على مسرحنا الجغرافي، لذلك ادعو للتواضع في الطرح من خلال تقديم مقترحات عملية كخطوة أولى على الطريق لعلها تنقلنا من دائرة أحلامنا المثالية إلى عالم الواقع.
لهذا كله كنت قد طرحت سابقا ضرورة إقامة مشروع طموح (مشروع مارشال عربي) يرتكز على الاقتصاد كأحد روافع التنمية الشاملة في منطقتنا بحيث نتغاضى عن خلافاتنا السياسية القائمة على نرجسية عفا عليها الزمن، ونفكر بطريقة براغماتية عملانية تغلب المصلحة النفعية العامة على الأنانية الذاتية الضيقة.
وبهذا نستطيع ومن خلال الاقتصاد وكما فعلت أوروبا من تتويج جهودنا نحو بناء مؤسسات تساهم في تنمية منطقتنا وتخليصها من براثن وحش البؤس السياسي ومن أخطار المتربصين بنا، بحيث نرتقي من رتبة العقل المُنفعل إلى مرتبة العقل الفاعِل.
لقد آن لنا بأن نتداول المصالح البينية ولا بأس من التنازل عن بعض صلاحيات الدولة الوطنية في سبيل إنجاح مشروع التنمية التكاملية فيما بيننا؛ وذلك قابل للتحقق في حال نجحنا في إدارة خلافاتنا وتخلينا عن أوهام النجاح الفردية لأن عصرنا هو عصر التكتلات والأحلاف. أما التغريد خارج سرب المصالح العليا لمنطقتنا سيبقينا في دائرة اللافعل السياسي غير المنتج الذي يجعلنا على هامش الأحداث والتاريخ.
ومع ذلك كله: فإن الأمل مازال قائماً في بناء صرح أو مشروع يستفيد من مؤسسات جامعة الدول العربية في سبيل تذليل الصعوبات والعوائق، نظرا لخبرتها الطويلة في التعامل مع مختلف القضايا العربية، وبالتالي يمكن أن يكون النجاح حليفنا خاصة في ظل الظروف الصعبة الحالية التي تدعو عقلاء المنطقة إلى تغليب لغة الحوار البنّاء من أجل الخروج من المأزق الذي تعيشه، ولكي ننجح في تغيير شعارنا الأثير في الممارسة الحالية وهو "حرب الكل ضد الكل" إلى " الكل في حاجة الكل".