لماذا التّفكير الجريء في الثّقافة العربيّة يفضي إلى التّكفير؟
يمارَسُ "فعل التكفير"، من قبل أصحاب العقول الجامدة أو أصحاب الغايات، على كلّ نشاط عقلي مخالف لما اعتادوا عليه، وهم لا يميزون بينه وبين الاختلاف الفكري الذي يستلزم دفع الحجة بالحجة للوصول إلى الحقيقة.
الكاتب حسن إسميك
- تاريخ النشر – ٢٤/٠١/٢٠٢٢
رغم الجناس الذي يقوم بين الكلمتين لغوياً، إلا أن مصطلحي "التفكير" و"التكفير" يبدوان من حيث المعنى أقرب إلى الخطين المتوازيين في الرياضيات، لا يلتقيان مهما امتدّا، بل إن المصطلحين يتباعدان عن بعضهما بعضاً كلما امتدا، إذ شتّان بين من يطلق العنان لفكره ويستكشف الأفكار والتصورات في عالمٍ لا متناهٍ من المعارف، فلن يقع في شرك التكفير بأيّ معنىً من معانيه الكثيرة التي لا تقف عند الاصطلاح الديني فقط، وبين من يشرّع التكفير سلاحاً فيكون بذلك قد ركن عقله وفكره جانباً، متمترساً خلف حاجز متين من الجمود والجهل والرفض القائم على الخوف والتقليد الأعمى.
يمارَسُ "فعل التكفير"، من قبل أصحاب العقول الجامدة أو أصحاب الغايات، على كلّ نشاط عقلي مخالف لما اعتادوا عليه، وهم لا يميزون بينه وبين الاختلاف الفكري الذي يستلزم دفع الحجة بالحجة للوصول إلى الحقيقة، لأنهم في معظم الأحيان لا يملكون برهاناً عقلياً يدافعون به، فيلجأون إلى التكفير وسيلة تضع من يخالفهم أو يأتي بما لم يألفوه من أفكار في خانة المذنب، أو المخطئ أو المُلام أمام الناس، مستغلين بالطبع جهل الرعاع وقابليتهم للانقياد خلف ما يقال لهم أو يتم تحريضهم عليه، لذلك نرى أن التكفير يجد تربة أكثر خصوبة ونتائج أشد تأثيراً في المجتمعات التي يسودها الجهل والتخلف، ويفتقر أبناؤها إلى القدرة على المحاكمة العقلية.
ليس فعل التكفير بجديد على المجتمعات الإنسانية بأيّ حال، إذ كان الإنكار أول ما يُواجه به أصحاب الآراء المختلفة من علماء وفلاسفة وشعراء، هكذا كُفِّر كل من سقراط وابن عربي وابن رشد وابن سينا وطه حسين وأبو خليل القباني، وغيرهم كثر.. جوردانو برونو وغاليليو "أبو" الفيزياء الحديثة والمنهج العلمي، اتّهمته بالهرطقة محاكم التفتيش الرومانية السيئة السمعة عام 1615، لأن نظريته حول "مركزية الشمس" تتعارض مع الكتاب المقدس!
لا أبالغ إذا قلت إنّ أغلب من سجّل التاريخ أسماءهم في مصاف كبار العلماء والمفكرين، ويتم تدريس علومهم ومعارفهم كنظريات وحقائق، تعرّضوا لنوع من أنواع التكفير أوصلت بعضهم إلى حبل المشنقة أو القتل أو التهديد، أو إلى السجن والإقصاء والنبذ في أفضل الأحوال. حتى الأنبياء والرسل تم رميهم بتهمة الكفر بالمعتقدات التي تؤمن بها الأقوام التي بُعثوا فيها، ويحمل القرآن الكريم شواهد كثيرة على ما لاقاه الأنبياء من نكران ورفض حتى من المقربين، «قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا».
تُظهر هذه الشواهد أن حالة الرفض ترافقت دائماً مع غياب التعقل والتفكير، وتظهر أيضاً أن الأديان التي يتم معظم التكفير باسمها، بريئة من هذا الفعل، إذ لطالما دعت، والإسلام خصوصاً، إلى إعمال العقل والتفكر بكل ما يتعرض له الإنسان، وهذه أولى دلائل جرم استخدام الدين بغير مقاصده، واستغلال مشاعر بعض المؤمنين وجهلهم وتقاعسهم عن البحث والتفكير واللجوء إلى العقل.
لا أعني في خطابي هذا أن علينا قبول أي فكرة أو مقولة تصادفنا، بل على العكس، فالشك لا يعني التكفير مطلقاً، بل هو أداة التفكير الأهم، شرط أن تتبعه محاولة عقلية جادّة لإثبات الخطأ أو تأكيد الصواب. أما ما تعيشه مجتمعاتنا العربية فهو حالة مستفحلة من الرفض والإنكار، تغذيها جماعة تعاني من الخواء الفكري، وعاجزة عن إيجاد أي وسيلة عقلانية لمواجهة من يخالفها سوى التحريض والاتهام بالزندقة والكفر والإلحاد، ودفع المجتمع إلى نبذه ومحاربته ومن ثمّ استحلال دمه، فيتم إسكاته إلى الأبد وجعله عبرة لكلّ أصحاب الفكر من بعده.
يقف وراء استشراء آفة التكفير في مجتمعاتنا النامية صنفان: أصحاب الفكر المنغلق الذين يضعون حدوداً دائمة لعقلهم وبالتالي لعقول الآخرين؛ وأصحاب المصالح السياسية الذين لا يناسبهم تنوير العقول وانفتاحها، لأنها تهددّ تسلطهم واستبدادهم، وتفقدهم ما يحصلون عليه من "تقديس" يجعلهم معصومين عن الخطأ في نظر أتباعهم، ويضمن لهم قيام هؤلاء الأتباع بالدفاع عنهم حتى الموت حين يلزم الأمر! وكثيراً ما يكون الصنف الأول (المنغلقون) أداة في يد الصنف الثاني لإحكام سيطرتهم واستمرارهم، من دون أي اعتبار لما ينجم عن ذلك من تفكك في المجتمعات أو انتشار للجهل والتخلف يستمر أجيالاً تلو أخرى، ويحرم الشعوب من فرصة التطور واللحاق بما فاتها.
أوروبا مثلاً، عانت طويلاً زمن تسلط الكنيسة من نير الانغلاق ومحاربة الأفكار والقتل بتهمة الزندقة، ولا يزال تاريخ محاكم التفتيش ومحاربة الساحرات وصكوك الغفران حاضراً كشاهد على ما مرّت به من تخلف، ولم تخرج منه إلا حين تمّ فصل الكنيسة عن الدولة، وسُمح للعلم بأن يكسر الحواجز والأسوار بعيداً من الخوف من رقابة القائمين على الدين وتجييرهم تعاليمه خدمة لمصالحهم ورؤاهم الضيقة، فكان انتصار الفكر والعقل على رواسب الجهل فاتحة عصر الحداثة والتطور الذي اجتاح الغرب بعدها، ومن المؤسف أن كثيراً من أبناء المجتمعات التي لا تزال محكومة بتحجر عقول بعض أصحاب القرار السياسي والديني، ينظرون بعين الحسد الى ما وصلت إليه الدول المتقدمة التي حررت الفكر ودعمته، في الوقت الذي تنطق ألسنتهم بلفظ "الغرب الكافر" في كلّ مناسبة!
إن إخراج الأفكار من زنازين "المقدّس" والمحرّم" و"الممنوع" ومن التابوهات الأخرى التي صنعها البشر على مرّ العصور، كان ولا يزال أساس كلّ تطور عرفته البشرية، إذ لا يمكن حدوث أي تطوير من دون السماح للعقل والفكر بالتجوال بحرية من دون قيود، ومن دون اكتسابه القدرة على التحليل والمرونة التي تسمح له بتقبل كلّ جديد، مهما كان هذا الجديد غريباً ومخالفاً، ثمّ تمحيصه والتدقيق فيه، ثمّ قبوله أو دفعه بالحجة الفكرية والعلمية المثبتة. ولا تُستثنى من ذلك شروح النصوص الدينية وإخضاعها لأحكام الزمن والتغيرات البشرية في مختلف المضامير.
في الإسلام مثلاً، يُرجع الإجماع مصطلح "التكفير" إلى المجموعة التي خرجت على عليّ بن أبي طالب وكفّرته حين رضي بالحوار مع معاوية بن أبي سفيان في موقعة صفين، والذين عُرفوا في ما بعد بـ"الخوارج"، وقد رد عليّ عليهم بالقول: "من علمكم قتل الناس على آرائهم؟"، ورغم أنه منحهم حق الاعتراض على أفعاله، إلا أنه وضع "قتل الناس وظلمهم" حداً بينه وبينهم. ورغم ذلك لا يزال التفكير يواجَه بالتكفير من قبل جماعات منظمة تدّعي الإسلام، فتستخدمه لتبرير سلوك العنف الذي تسلكه لتحقيق أهدافها وأجنداتها، سواء ضد مسلمين آخرين، أم ضد غير المسلمين ممن يُعتبرون في رأي هؤلاء كفرة ومذنبين. وللأسف لقد استطاع هؤلاء إيهام الكثير من الناس بأن التفكير وإعمال العقل هو بحدّ ذاته كفر ومعصية، فانتشر التطرف وأريقت دماء بريئة وتوالدت دوامات العنف والإرهاب، يغذيها الخوف والجهل مجتمعين.
أما من يريد استخدام عقله فسيعرف - بقليل من البحث - أنّ الدين الإسلامي قد وضع قيوداً كثيرة على التكفير، وأن الفكر لم يكن يوماً جريمة تستحق العقاب، بل على العكس، إذ ينص القرآن الكريم صراحة على ضرورة التعقل والتدبر، حتى في آياته: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ».. و«كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».. و«إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».. و«أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ».. و«أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»، فكيف يتم تجاوز صريح الدعوة إلى التفكير، والانقياد خلف دعوات وفتاوى مشبوهة في عصر باتت فيه كل وسائل المعرفة والبحث حاضرة في بيوتنا وبين أيدينا؟ إن السبب الوحيد هو تقييد العقل بأصفاد الخوف والإقصاء، والانجرار خلف من لا يتفكرون.
وفي الختام لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن أزمة التكفير عند العرب والمسلمين لا تنفصل عن "العقلية المأزومة" التي تكونت نتيجة لجملة من الظروف المعقدة التي عاشها هذا العقل، ولما تعرّض له من استبداد قديم ومتجذر جعل من الإقصاء الحكم الأول على سلوك كل من يخالفه! وقد توصل العلم إلى تحديد مجموعة من العوامل النفسية التي تقف وراء إنكار الحقائق وعدم تقبلها، كالتنافر المعرفي المتعلق بالاعتياد على نوع محدد من الأفكار، وتأثير الناتج العكسي المرتبط بشخصنة القضايا الخاضعة للتأويل، وربطها بالهوية الذاتية للأفراد والمجتمعات. إن كلّ ذلك يعيق تشكل بنية معرفية تسمح بتفعيل وظائف الإدراك وحل المشكلات، فلا يعود المُنكر في هذه الحالة يرى في الحقائق وأصحابها إلا عدواً ينبغي القضاء عليه.
كلّ من لا يعجبنا قوله هو "كافر"، كلّ من يتحدث بغير لغتنا هو مشروع "كافر"، كلّ من يقارب سياسة مختلفة ويتحدث بلغة المحبة والسلام والتآخي هو أيضاً "كافر"، كل من يرتدي لباساً لا يعجبنا.. من يسمع الموسيقى ويحب الفن ويمتهن التمثيل.. إلخ. حتى امتلأ فضاؤنا بكل أشكال التكفير: السياسي والاجتماعي والديني، وصار يجري كما النار في الهشيم، ويجد دائماً المنصات والأبواق والدعاة، هذا هو المنطق الذي يسود معظم بلداننا العربية والإسلامية، ولا سبيل للخروج منه وإنهائه إلا بالتفكير وتحرير العقل وتقبّل الآخر، وقبل ذلك لن نعرف للحضارة طريقاً، ولن نعرف للسلام الذي نتوق إليه سبيلاً.
حسن إسميك
رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS