للحفاظ على «أم الدنيا» و«جوهرة الشرق»
عندما أسير في مصر أشعر أن كل خطوة أمشيها تطلق لي جذوراً في الأرض، وأن كل زاوية وكل قنطرة وكل قطعة حجر تحكي لي حكايا الإنسان، وذكريات البشرية بكل إرثها. يمكن لكل بناء أثري وكل زخرفة إسلامية أو كتابة هيروغليفية أن تطلق العنان للتساؤلات والتخيلات عما حدث هنا، وعن تفاصيل الأيدي المبدعة التي أشادت هذه الفنون المعمارية. عن كل فرعوني وروماني وأموي وطولوني وفاطمي وأيوبي ومملوكي... أراد أن يترك أثراً يسجل مروره على هذه الأرض العظيمة.
الكاتب حسن إسميك
- تاريخ النشر – ١٧/٠٤/٢٠٢١
كنت كلما أزور مصر وأسير في شوارعها، وبخاصة شوارع القاهرة أو الإسكندرية أو الجيزة.. لا أشعر أن الطرقات هي فقط وسيلةٌ للانتقال من مكان لآخر، بل هي أشبه بأرضية متحفٍ شاسع وممتد، يضم بين طياته إبداع عصور من الحضارة، ويلمّ ذاكرة شعوب عاشت على هذه الأرض، تلك الذاكرة التي يفوح منها عبق تاريخٍ أقدم من التاريخ ذاته.. أتجول بناظري فأجد مسجداً فاطمياً تتوه بين مفرداته الزخرفية الأخاذة، ولربما ألمح بين جدرانه كتلاً حجرية فرعونية عليها كتابات هيروغليفية، ثم ما يلبث أن يشدني أحد الأعمدة الرومانية العتيقة البهية. كيف لا ومصر جوهرة الشرق البهية وأم الدنيا!
عندما أسير في مصر أشعر أن كل خطوة أمشيها تطلق لي جذوراً في الأرض، وأن كل زاوية وكل قنطرة وكل قطعة حجر تحكي لي حكايا الإنسان، وذكريات البشرية بكل إرثها. يمكن لكل بناء أثري وكل زخرفة إسلامية أو كتابة هيروغليفية أن تطلق العنان للتساؤلات والتخيلات عما حدث هنا، وعن تفاصيل الأيدي المبدعة التي أشادت هذه الفنون المعمارية. عن كل فرعوني وروماني وأموي وطولوني وفاطمي وأيوبي ومملوكي... أراد أن يترك أثراً يسجل مروره على هذه الأرض العظيمة.
ويصل الخدر ذروته عندما تدخل المدن القديمة! لتدور في أحيائها الضيقة وترسم بمخيلتك حكاية كل تاجرٍ وعابر سبيل وسائح مر على أحجار طرقها المرصوفة. وتكاد تسمع صدى كل ضحكة ونداء وحتى كل صرخة ألم ترددت بين حنايا هذه الأزقة. لكن لا يلبث صفو رحلتك الممتدة في عوالم الخيال والتاريخ أن يتعكر بمشكلات الواقع الذي تعيشه هذه الأماكن، من الازدحام الخانق وعجلات السيارات التي تطحن حجار هذا الإرث الحضاري، إلى البيوت التي لم يبق من بعضها سوى الهيكل، وصولاً إلى التغيير الكبير في معالم هذا الإرث والذي ساهم فيه أصحاب البيوت أنفسهم، فبدلوا أبوباً وشبابيك وأضافوا على البناء أو تلاعبوا به، فأفقدوه، من حيث يدرون أو لا يدرون، كثيراً من قيمته الحضارية والثقافية والإنسانية.
أتذكر، في هذا السياق، أنني اشتريت شقة في باريس وأردت أن أغير شباكاً واحداً فيها فقط، إلا أن بلدية المدينة قابلت طلبي بالرفض القاطع، ومُنعتُ من إجراء أي تعديل على النافذة، وبعد سنة كاملة من الأخذ والرد سمحوا لي فقط بوضع زجاج إضافي داخل الشقة وبمواصفات معينة، كي لا يؤثر التغيير على «جمالية مشهد المدينة» العام. أزعجني هذا الأمر قليلاً، لكنه بالمقابل ولّد لدي احتراماً كبيراً لحرصهم الشديد على الأبنية والمواقع الأثرية والمعمارية المميزة في أوروبا، في حين نهمل نحن العرب، وخاصة كما لاحظت في مصر، إرثنا وتراثنا وآثارنا.
ولا عجب أن يفكر كثير من رجال الأعمال والساسة والمثقفين بالعيش في أوروبا، وتحديداً في دول مثل فرنسا أو بريطانيا أو إيطاليا أو اسبانيا أو المانيا، نظراً لما تتسم به مدنها من هدوء وجمال ونظافة مطعمة بمواقع أثرية تزيدها عراقة وبهاء. لكن، أليس الأجدى أن يفكر هؤلاء بالقاهرة أو الإسكندرية.. مكاناً لسكنهم وإقامتهم! فمصر تستحق أن تكون وجهةً للاستقرار، فإلى جانب موقعها الجغرافي المميز، تتميز القاهرة بطابع نادر من الأصالة والعراقة والغرابة الخلابة، كفيلٌ –إذا ما جرى صقله وإظهاره بالقليل من العناية والتأكيد على الطابع الحضاري والتراثي والثقافي– بإعادة القاهرة وجهة للقاصي والداني، ولكن كيف يمكن أن يتحقق للقاهرة ذلك وهي مكتظة بالسكان، وطرقها غير متناسقة، تعج بزحمة السير، إضافة إلى السيارات المصطفة على اليمين واليسار ما جعل المدينة أقل نظافة وارتفعت فيها نسبة التلوث.
وأتساءل هنا: كيف يمكن لبلدية القاهرة أن تسمح بتشييد أبنية جديدة عملاقة إلى جانب الأبنية القديمة العريقة الخلابة؟ وكيف تشيح بنظرها عن قيمة كل حجر وخصوصيته وفرادته وما يحمله من تاريخٍ، يكاد يجعل من كل منزل ومعبدوزقاق متحفاً حياً يصور تفاصيل الحياة التي عاشها من سبقونا على هذه الأرض. هذا الإرث المعماري هو إرث المصريين طبعاً، لكنه إرث العرب أيضاً وحتى الإنسانية كلها، لقد ائتمننا عليه أسلافنا، وسلمتنا إياه الأيدي المجيدة التي ضحَّت لتشيّيد كل بناء ورفع كل حجر. إنَّ الجهد الماهر والحرفي الذي بُذل لبناء هذه البيوت واضح وصريح يشهد عليه بقاء هذه الأبنية وقدرتها على احتواء أناس ما زالوا يقطنوها حتى هذا اليوم. لكن هذا النوع من الاستهلاك القاسي يقلل من عمرها شيئاً فشيئاً، ويوهن قدرتها على الصمود أكثر. فالتحوير الذي يحصل على ملامح الأبنية دليل على عدم تماشيها مع تلبية حاجيات الحياة المعاصرة، لذلك يضطر سكانها إلى إضافة ملحق هنا، وتغيير باب هناك وإضافة سقف أو جدار لحمايته من السقوط. ربما يتطلع بعض المصريين إلى مشاهدة أبنية عصرية في القاهرة على غرار الأبنية الموجودة في دبي وسنغافورة وميامي، ولكن ينسى هؤلاء القيم الجمالية التي تتمتع بها العواصم التاريخية مثل لندن وباريس والقاهرة ودمشق. إن أي تفكير في تشييد أبنية جديدة عصرية في المستقبل، يمكن أن يتحقق شريطة أن يكون خارج القاهرة أو الإسكندرية من أجل المحافظة على روعة وجمال هذه المدن الفريدة التي تحكي تاريخاً عريقاً قل نظيره في العالم.
والحلول موجودة وكثيرة، ففي حالة القاهرة القديمة مثلاً، يمكن لبلدية المدينة أن توفر مواقف خاصة بالسيارات خارج أسوار الأحياء العتيقة الأثرية فتحل مشكلة وقوف السيارات في شوارعها القديمة الجميلة المليئة بالتحف الأثرية ويتم وفقاً لهذا النهج المحافظة على التراث، أو أن تشتري الدولة جزءاً لا تقل نسبته عن ٣٠% من هذه الأبنية وتنقل سكانها إلى ضواحي سكنية جديدة، تتناسب مع متطلبات الحياة المعاصرة، فيشعرون بالراحة والاستقرار من جهة، ويُضمن الحفاظ من جهة أخرى على جمال ورونق الأبنية الأثرية، وصونها من التلوث والازدحام ورمي الأوساخ والعبث، مع التركيز طبعاً على زيادة المساحات الخضراء في القاهرة، وإزالة العديد من الأبنية التي تسبب الضرر للمناطق الأثرية. ويمكن تحقيق ذلك في إطار قانون خاص يحدد طبيعة الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص.
لا يعني كلامي هذا أن تُفرّغ المدن من أُناسها؛ فمحال المهن التراثية التقليدية، والمنتجات اليدوية المعروضة على واجهات أسواق المدن القديمة، تزيدها سحراً وألقاً، وتعزز ذاكرة المكان حين تعكس محاكاة بصرية لما كان يدور فيه في أزمان مضت. كما أن تحويل بعض المنازل القديمة إلى فنادق للسياح ليس بالأمر السيء دائماً، فكثيراً ما كان الترميم بغرض الاستثمار نوعاً من العناية التي أنقذت أماكن مختلفة من عوامل الطبيعة والأيدي العابثة، وقد تجد أحدهم يحكي لك قصة قاطني هذا المنزل ووظيفة كل ركن من أركانه والسبب الذي صُمم لأجله على هذه الشاكلة، ما يمكن أن يخلق ارتباطاً حياً بذاكرة المكان، ويزيد بالطبع من جاذبيته كوجهة سياحية عالمية.
علينا عند التفكير بصون هذه الأماكن أن نتذكر الأحاسيس التي تمنحنا إياها من انتماء وفخار وتميز، وعلينا أن ندرك أن الثانية ستزول باندثار الأولى، وحتى لو بقيت في طيات الكتب، فلا أظن أن أي قراءة ستعطيك إحساس العظمة الذي يفرضه الإرث الحضاري البشري، ولن تستطيع مجلدات أن تحاكي ذلك الجلال الفريد أمام انتصاب مسجد عمره قرون، أو قنطرة أو معبدعمره آلاف السنين. هذا بالضبط ما يجب علينا الحفاظ عليه والاعتناء به، لأنه دليل وجودنا وانتمائنا إلى هذه الأرض، والرابط الذي يصلنا بتاريخنا رغم كل القطوع الحضارية التي مرت على هذه المنطقة.
لا أقصد من حديثي هذا أن أُغفل الحضارة الفرعونية بكل غموضها المثير وعظمة آثارها، وأهراماتها التي هي إحدى عجائب الدنيا، ودورها في تعزيز السياحة التاريخية، لكنَّ مصر تمتلك كذلك عدداً لا يُحصى من المواقع الأثرية الأخرى؟ ولا يجب أن يُعتنى بأماكن على حساب أخرى، فكل ذكرى لنا على هذه الأرض من أسلافنا تستحق منا الاهتمام بذات الدرجة، بل وربما أكثر. فإذا صارت عظمة الأهرامات كفيلة بالتكلم عن نفسها، فإن المواقع الأخرى ما زالت تحتاج لمن يقصّ حكاياتها ويوصلها إلى العالم ويخلد ذكراها. هذا الإرث الهائل لمصر هو مسؤولية عامة قبل كل شيء، تتحمل الحكومة المصرية جزأها الأكبر، من ناحية صونه، وتقديمه بأبهى صوره، واستثماره أيضاً بما فيه نفعُ أبناء مصر اليوم وأجيالها القادمة.
لقد كان هذا الإرث محط اهتمام مركزي للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، ومن هنا جاء مشروعه لتطوير المدن المصرية الكبرى، وخاصة القاهرة، وتشييد مدينة «العاصمة الجديدة» لنقل كل الوزارات والمؤسسات الحكومية إليها. يوفر هذا الانتقال إمكانية إعادة رسم القاهرة القديمة من جديد، إذ يكفل خفض الضغط عن المناطق والأبنية الأثرية في القاهرة العاصمة، ويمكن تالياً الشروع بترميمها، ليعود لها جمالها وبريقها، وتكون محط أنظار السياحة العالمية، كما يمكن أيضاً الاستفادة من الأماكن الأثرية لتكون «نواة» مشاريع استثمارية كبيرة كالفنادق، والمطاعم، والشقق السياحة، مع مراعاة شروط الجمالية والحفاظ على الطابع الأصيل.
إن العمران هو الشاهد الحي والأبرز على الإنجاز الحضاري الإنساني، وهو أمانة في أعناق البلدان الحاضنة له أياً كانت، فكيف إذا كان الحديث عن آثار مصر العريقة! وخاصة أن مدينتي القاهرة والإسكندرية
تحوزان من التراث والفرادة والعراقة ما يميزهما عن كافة مدن العالم، وتستحقان أن يكون لهما شكلهما الجديد والمنظم الذي يراعي استثنائيتهما التاريخية وارتباطهما بأول موطن للحضارة الإنسانية، الفراعنة. إنَّ خسارة بناء واحد هي خسارة للتراث الإنساني كله، لا تعوض ولا تستعاد ولا تستبدل. لذا، بات من الضروري اتخاذ إجراءات مناسبة وسريعة فيما يتعلق بالأحياء التراثية للمدن المصرية قبل أن تتفاقم المشكلة أكثر، فنخسر كنزاً من كنوزنا العربية والإسلامية، ووجهة سياحية يمكن استثمارها، ورابطاً يثبت أن جذورنا ضاربة في عمق الأرض والتاريخ، فنندم حين لا ينفع الندم.
وأخيراً.. لا بد من قول الحق والاعتراف بإنجازات الرئيس عبدالفتاح السيسي عامة، و«العاصمة الجديدة» خاصة، وهذا ما يميزه عن حكام مصر السابقين، ويجعله في طليعتهم وسيذكره التاريخ فترة من الزمن كما ذكر أسلافه من الفراعنة العظماء الذين شيدوا مصر القديمة. يعرف الرئيس المصري وإدارته أن الحفاظ على مصر التاريخ رسالة إنسانية عامة، وأن حمايتها واجب وأمانة، لذلك يعمل بكل إخلاص للمحافظة على بريق مصر القديمة، لربط الماضي بالحاضر عبر المحافظة على الأوابد التاريخية لتكون قصصاً جميلة تحكي لكل زائر أمجاد وعظمة مصر منذ العصور الغابرة. نعم تلك هي «أرض الكنانة» التي مر فيها أوائل الأنبياء والرسل. إن الجهود المتواصلة التي تُبذل في إعادة هيبة مصر والمحافظة على إرثها الحضاري وترتيبها وهندستها وإظهار رونقها سيذكر أهمية «المرحلة السيساوية» في إحياء مصر وتراثها وتقديمها من جديد إلى العالم.
لم يفت الوقت بعد ليبدأ المصريون إعادة بناء مدنهم من جديد...
حسن إسميك
رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS