لبنان يحتضر... فهل من منقذ؟

توتر شديد يسود في بيروت وبالتحديد في منطقة خلدة المدخل الجنوبي للعاصمة، بعد سقوط قتلى وجرحى وإطلاق نار كثيف، ووسط حالة من الرعب والتوتر، ومناشدات لتدخل الجيش اللبناني. يبدو ان هذه الأحداث هي الصيرورة الطبيعية للوضع المأزوم الذي يعيشه لبنان، وقد يؤدي الى انهيار الدولة اللبنانية، وسيحاول مقالنا هذا رصد سيناريوهات هذا الانهيار.

الكاتب حسن إسميك
  • تاريخ النشر – ٠٢‏/٠٨‏/٢٠٢١

توتر شديد يسود في بيروت وبالتحديد في منطقة خلدة المدخل الجنوبي للعاصمة، بعد سقوط قتلى وجرحى وإطلاق نار كثيف، ووسط حالة من الرعب والتوتر، ومناشدات لتدخل الجيش اللبناني. يبدو ان هذه الأحداث هي الصيرورة الطبيعية للوضع المأزوم الذي يعيشه لبنان، وقد يؤدي الى انهيار الدولة اللبنانية، وسيحاول مقالنا هذا رصد سيناريوهات هذا الانهيار.

يتصاعد صوت أجهزة الإنذار المنطلق من بلد الأرز (لبنان) في هذه الأيام، حتى بات يطغى على باقي ملفات المنطقة التي تُشبع العالم ضجيجاً. فالبلد الصغير الذي كان فيما مضى الطفل المشرقي المدلل لدى الغرب، يترنح اليوم على شفا هاوية عميقة، سيفتح سقوطه فيها –إذا ما حدث– الباب على احتمالات لا تنتهي، قد تغير وجه المنطقة وتعيد قلب الموازين فيها. يجري كل هذا في الوقت الذي يلاحظ فيه المتابع لأحوال لبنان الداخلية، أن الجماعة السياسية فيه "تضع يديها في ماء بارد" إلى حد بعيد، ويبدو أن حساباتها الشخصية ما زالت تحظى بالأولوية رغم صرخات اللبنانيين التي تتعالى في الشارع منذ ما يقارب العامين، دون أن يحصلوا على شيء ملموس سوى وعود أو جرعات تخدير من جميع الأطراف؛ المحلي منها والإقليمي والدولي، لُتبقي هذه الجرعات جسد المريض حيّاً دون أن تشفيه، وليس أدل على ذلك من تعبير أحد المسؤولين بأن هناك "اتفاقاً ضمنياً" بين الأحزاب الكبرى على عدم خروج الشارع عن "الضوابط الكبرى"!

وصف البنك الدولي ما يحصل في لبنان بالكارثة، لكن ذلك لم يخفف من عناد حكامه وقياداته الذين لم يتوقفوا عن إطلاق الشعارات الجوفاء عن الحرية والديمقراطية، و"التشدّق" بها أمام العالم، في الوقت الذي تمتد فيه أيديهم لتنهب ثروات الشعب ومقدراته، غير آبهين بالتهديدات الأوروبية بفرض عقوبات على بعضهم، خاصة وأن طرق التملص من قيود هذه العقوبات والتحايل عليها باتت معروفة ومكشوفة، ويكاد لا يكون لها أي تأثير يُذكر.

وصلت الأحوال في لبنان إلى درجة غير مسبوقة من السوء على مختلف الأصعدة، فالبلد اليوم يئنّ تحت وطأة نقص الطاقة وارتفاع الأسعار وتراجع قيمة العملة أمام الدولار الأمريكي، حيث وصل سعره إلى ما يقارب 18 ألف ليرة لبنانية بعد أن كان قبل نحو عام بـ 1500 ليرة فقط، مع نفاذ احتياطي المصرف المركزي من العملة الصعبة التي تستخدم بشكل رئيسي لدعم استيراد القمح والمحروقات والأدوية، ما أدى إلى فقدان الكثير من هذه الأدوية والمواد الغذائية الأساسية من الأسواق.

معطّلات الحلول

هذا ما يحصل في الشارع، أما في مراكز صنع القرار الداخلي والخارجي فيبدو أن الأطراف تتوزع ما بين قيادة سياسية داخلية لاتزال مشغولة بالمحاصصة الطائفية، والتي لا بد وستظهر بشكل أوضح أيضاً مع بدء المفاوضات التي سيجريها الرئيس المكلف مؤخراً نجيب ميقاتي لتشكيل حكومة جديدة، بعد اعتذار الرئيس سعد الحريري عن القيام بهذه المهمة العويصة، هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية بين أطراف خارجية –إقليمية على وجه التحديد– تستخدم أذرعها في الداخل لتنفيذ مشاريعها وفرض وجودها بغية تغيير قواعد اللعب لصالحها بشكل نهائي. بالطبع، توجد أطراف أخرى راغبة في تقديم المساعدة لكن يبدو أنها تكتفي في هذه المرحلة بالانتظار في حذر وترقب، دون رغبة في المجازفة بهذه المساعدة ورميها في بحر هائج قبل أن يتضح من سيكون المستفيد منها.

وأمّا ما يزيد الصورة تعقيداً ويصعّب حلها فهو عدم اكتراث معظم الفاعلين بمصير هذا الشعب المتعب الغاضب، الذي حاول أن يحتج على واقعه، احتجاجاً جماعياً لا يفرق بين أبناء مدينة أو طائفة أو انتماءات حزبية، ولا يستثني في غضبه أياً من أفراد الطبقة السياسية التقليدية اللبنانية، بعد أن وحدّه الجوع والفقر والنقمة على تغولّ الفساد والمحسوبيات وغياب القانون. لكنه وفي غمرة حماسه لم ينتبه إلى تسلل المسؤولين عن مأساته إلى صفوف الحراك الشعبي وركوبهم موجته وادعائهم الشراكة بالانتفاضة.

وفي الحقيقة.. فإن مخاطر أي انهيار قد يصيب لبنان ستتعدى حدوده الضيقة، خاصة مع وجود عناصر وفواعل جاهزة ومتأهبة لاستغلال أي فراغ أمني وسياسي يحدث هناك، ولن تتردد إيران والعناصر الموالية لها، داخل لبنان وخارجه، من استغلال أي انفجار لإحكام سيطرتها على البلد ذي الموقع الاستراتيجي المهم. وقد يكون هذا أعظم مخاوف إسرائيل التي اكتفت حكومتها الجديدة برئاسة "نفتالي بينيت" بإعادة طرح مسألة ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، مع التزامها الترقب الحذر، ربما في انتظار ما ستفعله الدول الأخرى المعنية (أمريكا وأوروبا) بهذا الخصوص.

من جانبها تنحو الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة "جو بايدن" باتجاه مغاير عن سلفه، بعد العودة للمفاوضات حول الملف النووي الإيراني برعاية أوروبية، وعلى هذا فإن مصير لبنان معلق بنتائجها كما يعتقد كثيرون، لكن التساؤل يبقى مفتوحاً حول تقديم لبنان " قرباناً" على مذبح الاتفاق النووي، ففريق بايدن الذي يمسك السياسة الخارجية اليوم، هو نفسه من فاوض طهران خلال عامي 2014 و2015 في عهد الرئيس باراك أوباما، وأبدى تساهلاً معها وتغاضى عن توسع نفوذها الإقليمي في سورية والعراق واليمن ولبنان. ويكاد يكرر هذا الفريق اليوم ما قام به في السابق، فيمنح إيران اليد العليا في المفاوضات، وهذا أمر مستغرب بحق، وكأن إدارة بايدن لا تدرك أن إيران تريد أن تدخل من باب الاتفاق النووي لتُظهر أنها المرجع الوحيد واللاعب الأساسي من سورية إلى جنوب لبنان، بل وتحولهما "عمقاً استراتيجياً" لها. وبدل أن تحصل طهران كل هذه المكاسب، أليس الأجدى هنا رفع مستوى الضغط عليها، وتحصيل تنازلات منها في ملفات أخرى، كأن تحد من النشاط المزعزع للاستقرار من قبل حزب الله، وتضغط على "ربيبتها" حماس لمنع التصعيد داخل الأراضي الفلسطينية، وليظل السلام وحل الدولتين حلاً قائماً للتهدئة وتنفيس الاحتقان!

السيناريوهات المترتبة على السقوط

يُجمع الباحثون على ثلاثية من شأنها إسقاط أي دولة هي: الإفلاس المالي، الاضطرابات الاجتماعية، والصدامات الأمنية. ومع الأسف فإن العوامل الثلاثة هذه موجودة اليوم في لبنان، لذا من الحكمة أن نستعد وأن نقر ونتصرف على أساس أن سقوط الدولة في لبنان ليس بالأمر المستبعد، وهو إن حصل فسيبدأ غالباً من انهيار المؤسسة العسكرية وتفكك الجيش وتحول القسم الأكبر من أفراده إلى فصائل وقوات حزبية وطائفية ومناطقية. ويظل السؤال الأهم: هل سيكون انهياره أمراً محتوماً؟ وهل يدرك الجميع كم سيكون هذا الانهيار مدوياً؟ خاصة وأنه سيحمل ارتدادات سلبية كبرى لن تقف عند حدود الدولة الصغيرة، بل ستغيّر طبيعة كل التوازنات القائمة في المنطقة، وستقضي على كل احتمالات بناء سلام شامل فيها؟ بل يمكن القول إن سقوط الدولة اللبنانية هو سقوط كل المنطقة العربية، وذلك لصالح إيران التي تخطط لهذه المرحلة منذ قيام ثورة الخميني لتعيد أمجادها الفارسية القديمة، وتبسط سيطرتها على المنطقة والإقليم، ولأن إسرائيل لن تسمح بهذا التمدد الإيراني، فلن يكون أمامها سوى خيار المزيد من التصعيد، ما قد يؤدي إلى إدخال المنطقة بشكل كامل في دوامة الحرب.

إذن، لن تخرج ارتدادات ما بعد السقوط في لبنان عن ثلاثة سيناريوهات يفرضها واقع الصراع الداخلي فيه، والإقليمي من حوله، وستكون إيران لاعباً أساسياً في أي منها، ما يعني أنها ستصب جميعها في مصلحة طهران وحزب الله في الداخل اللبناني، وسيقع كل هذا تحت أعين الدول العربية التي تبدو كمراقب بعيد لا يهمه الأمر.

حول السيناريو الأول، ينبغي الاعتراف اليوم أن لبنان المعاصر 2021 ليس هو لبنان 1975 حين كانت حربه الأهلية محلية طائفية في لبوس سياسي، شاركت فيه بعض الأطراف الخارجية داخل حدود الصراع اللبناني دون أن تصل ارتدادات هذا الصراع للخارج. لكن ارتدادات سقوط الدولة اللبنانية الحالية ستعود سلباً على الجميع في ظل كثرة اللاعبين في الساحة اللبنانية اليوم، داخلياً وخارجياً. خاصة وأن حزب الله سيسارع إلى طرح نفسه بديلاً عن الدولة تحت شعار المحافظة على الأمن، وسيوسع نفوذه ليشمل كل ما يستطيع السيطرة عليه من المساحة اللبنانية، الأمر الذي سيعني إقليماً توسع "العمق الاستراتيجي الإيراني" ليكون مداه من جنوب لبنان إلى طهران عبر سوريا والعراق، وليس بخاف على أحد أهمية هذا التوسع بالنسبة لطهران في تعزيز موقفها التفاوضي مع الغرب حول الملف النووي!

إنَّ الاتفاق النووي مع إيران، إذا ما تم في السياقات الحالية، سيمنح "حزب الله" حصة أكبر من الكعكة اللبنانية بشكلها الجديد، وقد يعني قبولاً ضمنياً باحتفاظه بسلاحه، وبالتالي تعزيز نفوذه وتأمين سيطرة إيرانية أكثر رسوخاً ومتانة في لبنان، مع تعهده بعدم التعرض لإسرائيل مستقبلاً.

ثمة أيضاً عامل آخر يثير الريبة في إمكانية قبول الحزب كأمر واقع يجري فرضه في المرحلة السياسية المقبلة في لبنان، يمكن تلمسه من خلال التقارب بينه وبين الجانب الروسي حين استقبل لافروف وفداً رسمياً من الحزب في آذار/مارس الماضي، وأثنى على نشاطه العسكري و"مقاومته"، الأمر الذي بدا كرسالة مباشرة إلى الأمريكيين، وإشارة بأن روسيا لن تتنازل عن دورها في الصورة المقبلة التي يجري رسمها بدءاً من لبنان. 

بالنسبة للسيناريو الثاني، فليس مستبعداً على إيران أن تستغل فوضى الساحة اللبنانية، وتمعن في تكريس صورتها كلاعب إقليمي قوي، ما قد يدفعها لأن تتحرش بالقوات الأمريكية الموجودة في سوريا والعراق من خلال أنصارها في المنطقة، وذلك عبر ضربات خفيفة ومناوشات بسيطة هنا وهناك ستؤدي إلى إحراج أمريكا أمام الرأي العام العالمي، ودفعها إلى خيار التهدئة من أجل الاستمرار في مفوضات الملف النووي، وهي مفاوضات إذا استمرت على النهج ذاته الذي تخطط طهران له فإن ذلك لن يحد باي شكل من الطموح النووي لديها، .

أما السيناريو الثالث، والذي سيكون الأكثر خطورة من سابقيه، فربما توعز إيران لحزب الله بالتحرك في الجنوب اللبناني، وجنوب سوريا أيضاً أو بالقرب من هضبة الجولان، بغية كسب ورقة ضغط إضافية تستخدمها طهران لإطالة عمر المفاوضات لغاية في نفس يعقوب. الأمر الذي سيزعج إسرائيل ويحملها على الشك والارتياب من التصرفات الإيرانية الاستفزازية، مما قد يدفعها للتفكير بتوجيه ضربة لإيران، ولأن إسرائيل لن تقدم على ذلك إلا بموافقة أمريكية، فإن حصول هذه الموافقة سيكون أمراً بالغ الصعوبة في ظل إدارة بايدن التي لن تغامر بمصير المفاوضات النووية.

أياً كان السيناريو الذي سيحدث فعلاً، ستظلُّ النتيجة واحدة: ازدياد حالة الفوضى وتعقد ملفات المنطقة أكثر بكثير مما هي عليه اليوم، والدخول في دوامة قد تطول وقتاً كافياً لتخرج إيران معلنة امتلاكها للقوة النووية وتغيّر موقعها في ميزان القوى الإقليمي كلاعب أساسي قادر على تهديد إسرائيل، ومدعوم بقوة الردع النووي من جهة، ومن الحليفين الروسي والصيني، العدوين التقليديين لأمريكا، من جهة ثانية. 

هل مازال الخروج من المأزق ممكناً؟

لن يكون تفادي الانهيار في لبنان بالأمر السهل، ويتطلب تضافر جهود كل الفاعلين الحريصين على ذاك البلد المشرقي، بداية وقبل كل شيء لإيجاد بديل يوحدّ المشاريع الثورية والوطنية، على أن تكون أولى مهامه تعديل النظام الانتخابي القائم على المحاصصة الطائفية، بالتزامن مع إجراءات إصلاحية عاجلة وفورية تشمل القطاعات الحيوية في البلد؛ كالكهرباء والماء والطبابة والتعليم، ووضعها موضع التنفيذ بالاستعانة بجميع الأطراف الجاهزة للمساعدة، وفي مقدمتها أوروبا التي لا تزال تشترط تشكيل حكومة لتقديم هذه المساعدة، وربما يستطيع الرئيس ميقاتي أن يحقق لها هذا الشرط.

أما أمنياً فلا بديل عن الجيش اللبناني الذي رفع هو الآخر نداء الاستغاثة، لذلك من الضروري تطوير المساعدات الضئيلة والمتقطعة التي يحصل عليه من بعض الدول الصديقة، ورفع مستوياتها بما يضمن دعمه وتمكينه بشكل مستدام، كي لا تتمكن أي جماعة تحمل السلاح بشكل غير شرعي من السيطرة على البلد، وتقديمه لقمة سهلة للدول التي تأتمر بأمرها.

لا تعادل تكلفة إنقاذ الدولة اللبنانية، مهما بلغت، سوى جزءاً بسيطاً من التكلفة الباهظة في حال انهيارها، إذ لا يفتقر لبنان إلى الإمكانيات والموارد، ويحظى بنسبة عالية من الشباب المنفتح والمثقف والمحب لبلده. شباب يتطلع إلى مستقبل أفضل بعيداً عن الولاءات المذهبية والطائفية التي وجد نفسه مكبلاً بها منذ عشرات السنوات. وإن كان للبنان من أمل باقٍ فهو مُنتظر من شبابه أولاً، فـ"مصير كل أمة يتوقف على شبابها" كما يقول المفكر الألماني "فولفغانغ غوته"، ولكن لبنان بحاجة أيضاً إلى الدعم الغربي الحقيقي والمؤثر، لأن العقبات التي يواجهها الشعب اللبناني اليوم أكبر بكثير من أن يستطيع مجابهتها وحده.

ولذلك أعتقد أن الوقت قد حان ليكون تدخل الولايات المتحدة جاداً وسريعاً وحازماً، فابتعادها عن هكذا ملفات في الشرق الأوسط أمرٌ لن تحمد عقباه على المدى البعيد، وإذا ظنت إدارة بايدن اليوم أنها بذلك ستبتعد عن المشاكل، فإن هذه المشاكل ستعود غداً لتظهر أمامها من جديد، لكن بشكل أكبر، وأكثر خطورة، وأوسع تأثيراً.

وإن لم يتدخل العرب وأمريكا معاً لإنقاذ لبنان من السقوط والذهاب إلى الفوضى ستغادر أمريكا المنطقة لمرة واحدة ولن يكون هناك عودة ثانية إليها.

 

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS