كيف أشعل الناتو فتيل الحرب العالمية الثالثة
يُقدم الكاتب رؤية استشرافية تنطلق من التمدد الزائد لحلف الناتو شرقاً، إلى تداعياتها المتمثلة في الحرب الروسية الأوكرانية، ليستنتج أن نتيجتها ستقود لانبثاق نظام عالمي صيني روسي جديد ينهي هيمنة أميركا أحادية القطب، ويعيد تشكيل هيكل الأمن في أوروبا.
الكاتب حسن إسميك
- الناشر – النهار
- تاريخ النشر – ٢٨/٠٢/٢٠٢٢
انتهت الحرب الباردة الثانية وبدأت الحرب العالمية الثالثة. وحين تُطلق الرصاصة الأخيرة وينحسر الدخان، سيحكم التاريخ على الناتو، إن لم يكن السبب الرئيسي للحرب، فبالتأكيد أحد أهم ثلاثة أسباب. وحينها.. لا يلومن الناتو إلا نفسه.
في مثل هذا الشهر قبل 15 عامًا، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمر الأمن الدولي أن وضع الناتو "قواته في الخطوط الأمامية على حدودنا ... يمثل استفزازًا خطيرًا يقلل من مستوى الثقة المتبادلة، ولدينا الحق في أن نسأل: ضد من هذا التوسع؟ .
لماذا أشير لهذا الخطاب الآن؟ لأني أرى فيه اللحظة التاريخية حين أعلن بوتين رفض بلاده المطلق لحلف الناتو، وسعيه الشخصي لاستعادة العمق الاستراتيجي وهيمنة الاتحاد السوفيتي السابق. لقد كان ذلك الخطاب وعن حق، إيذاناً رسمياً ببدء سباق التوسع بين الناتو وروسيا.
بوتين لم يرغب أبداً أن يكون جزءًا من النظام الدولي الحالي، بل أراد نسفه. والناتو أشعل له الفتيل.
بعد تشكيله في عام 1949 لتمكين أعضائه الـ 12 الأصليين من الدفاع المتبادل ردًا على أي هجوم يشنه أي طرف خارجي - روسيا وألمانيا الشرقية على وجه الخصوص - قبل الحلف اليونان وتركيا في 1952، وألمانيا الغربية في 1955 وإسبانيا في 1982، وعلى الرغم من المعارضة الروسية الضخمة، قبل الحلف مرة أخرى في العام 1999 ثلاث دول سابقة من حلف وارسو؛ بولندا والمجر وجمهورية التشيك، ثم في عام 2004 فتح أبوابه أمام سبع دول جديدة من أوروبا الوسطى والشرقية: بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا. وبعد خمسة أعوام، انضمت له ألبانيا وكرواتيا، ثم الجبل الأسود، وأخيراً مقدونيا.
وعلاوة على ذلك، قامت الولايات المتحدة ببناء قاعدة جوية في قيرغيزستان، التي ترتبط بعلاقات تاريخية واقتصادية مع روسيا، بحجة أنها قاعدة مؤقتة إثر أحداث 11 أيلول(سبتمبر)، استخدمتها لشن غزوها على العراق. وفي عامي 2004 و2005، أدت الثورات في جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان إلى وصول حكومات موالية للغرب إلى السلطة، وفي دول يعتبرها بوتين خاضعة للحكم السوفيتي، الأمر الذي زاد من تأجيج غضبه الملتهب.
وعندما بدأ الناتو في مغازلة أوكرانيا، كان ذلك بمثابة إشعال عود الثقاب لتبدأ على إثره حرب باردة جديدة، ومن منظور طويل للتاريخ، انفجرت الحرب العالمية الثالثة بعد ثوانٍ في حركة بطيئة.
عارض بوتين التقارب الغربي مع أوكرانيا على كافة الصُعد؛ عسكريًا من ناحية انضمامها للناتو، وسياسيًا واقتصاديًا من ناحية تطوير كييف روابطها مع الاتحاد الأوروبي. لقد كانت أوكرانيا "الديمقراطية" التي تتلقى دعمًا رسميًا من الأطلسي في تلك المستويات الثلاث بمثابة تهديد لروسيا، وهذا سبب كاف سيدفع بوتين عام 2008 ليرسم خطاً أحمر عميقا في الرمال إثر الوعود التي قدمها قادة الناتو لأوكرانيا بأنها يمكن أن تنضم يومًا ما للحلف.
أما اختيار بوتين لهذا التوقيت بالذات ليعلن غزو كييف، فنابع في الغالب من كونه يستشعر حالة الوهن التي يعيشها حلف الناتو اليوم، في ظل قرار إدارة بايدن تركيز مواردها السياسية والاقتصادية والعسكرية على آسيا، وليس على أوروبا أو الشرق الأوسط. كان هذا التوقيت مثالياً لبوتين أيضاً لأنه كان يعلم أن الرئيس الأميركي لا يحظى بالدعم الكامل، حتى من حزبه، في الدفاع عن أوكرانيا.
فقد حذرت النائبة براميلا جايابال، رئيسة الجناح التقدمي للحزب الديمقراطي، بايدن في كانون الثاني (يناير)، حين صرحت بالقول: "لدينا مخاوف كبيرة من أن عمليات نشر القوات الجديدة، والعقوبات الشاملة والعشوائية، وتدفق مئات الملايين من الدولارات من الأسلحة الفتاكة، ستزيد من التوترات وتزيد من فرصة سوء التقدير".
ولكن يبقى الأمر الأهم في كل ذلك هو إدراك بوتين لأهمية أوكرانيا ذاتها، أضف لذلك أن الفائدة من توسع الناتو لم تكن أمراً متفقاً عليه داخل المنظمة ذاتها، والتي يعتمد أعضاؤها الأوروبيون بشكل شبه كلي على النفط والغاز والفحم الصلب الروسي، وبالتالي كانوا مترددين في إثارة غضب روسيا دون داعٍ.
ومن ثم، وبدلاً من "أم كل العقوبات" التي كانت ستدمر الاقتصاد الروسي بعد عزله عن النظام الاقتصادي الدولي، استقرت الولايات المتحدة وحلفاؤها على عقوبات ضعيفة - استهدفت بنكين روسيين فقط، وثلاثة من أصدقاء بوتين المقربين على قائمة العقوبات الأميركية وتجميد عمليات الشراء المستقبلية للديون السيادية الروسية بدلاً من جميع مشترياتها. ومن المتوقع ألا يكون لهذه العقوبات الضعيفة أي تأثير بالنظر إلى التحالف الروسي الصيني الموقع في بكين عشية الأزمة الأوكرانية.
وكما قال الشاعر العربي الكبير المتنبي:
"فَصِرْتُ إذا أصابَتْني سِهامٌ تكَسّرَتِ النّصالُ على النّصالِ"!
لقد دخل التحالف الروسي الصيني حيز التنفيذ بالفعل. وردًا على الأسئلة بشأن حلف الناتو خلال مؤتمر ميونيخ للأمن الأسبوع الماضي، أجاب وزير الخارجية الصيني وانغ يي بشكل واضح، "هل التوسع المستمر للناتو نحو الشرق سيقضي إلى تحقيق السلام والاستقرار الدائمين في أوروبا؟ هذا سؤال يحتاج الأصدقاء الأوروبيون إلى التفكير فيه بجدية"، لقد كان جوهر السؤال الذي وجهته الصين للناتو: هل حقاً تستحق أوكرانيا أن تندلع حرب عالمية ثالثة؟
كان الناتو على علم بما هو على المحك حقاً في موضوع أوكرانيا. ليرد الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ على سؤال يي عندما واصفاً الغزو الروسي لأوكرانيا بأنه "أخطر لحظة في الأمن الأوروبي على مدى جيل كامل".
ستسفر نتيجة الحرب على أوكرانيا عن انبثاق نظام عالمي صيني روسي جديد يٌنهي هيمنة أميركا أحادية القطب، وستثبت قدرة روسيا على توسيع حدودها إلى ما هو أبعد من أوكرانيا. يتمثل الهدف النهائي لبوتين في إعادة تشكيل كامل الهيكل الأمني لأوروبا، ليضمن بذلك توسيع وتوطيد هيمنة روسيا وعمقها الاستراتيجي.
لا يلوم حلف الناتو إلا نفسه. فقد أطلق كلاب الجحيم حين فتح أبوابه للتوسع الشرقي. وقريباً من هذا أشار روبرت كاغان، مؤلف مقالة استشرافية نشرتها "فورين بوليسي" بعنوان "الدعم في الحرب العالمية الثالثة" ، وكتب مؤخرًا في مقال آخر: "مع تقاسم بولندا وهنغاريا وخمسة أعضاء آخرين في الناتو حدودًا مع روسيا الجديدة الموسعة، فإن قدرة الولايات المتحدة والحلف على الدفاع عن الجناح الشرقي للتحالف سوف تتضاءل إلى حد كبير.
الانقسام العالمي اليوم ليس أيديولوجيًا فحسب، بل سياسي واقتصادي وتكنولوجي وسيبراني، ما يعني أن نطاقه أوسع امتدادًا ومواجهاته أعلى تكلفة والتنبؤ به أكثر صعوبة، وبالتالي ستكون صراعاته أكثر كارثية.
وإذا تمكن حلف الناتو الخروج من الأزمة الأوكرانية الحالية بأقل الخسائر الممكنة، وهذه مهمة ليست باليسرة أبداً، فهذا يحتم عليه إجراء تقييم شامل وعلى الفور، لمكانته ودوره وموقعه في العالم، وتقييم فعالية تحالفاته، ومن ثم إعادة بناء استراتيجياته على هذا الأساس، خاصة وأن التحالف الصيني الروسي الذي تم تشكيله حديثًا، مستعد ومتربص وجاهز لانتهاز أي نقاط ضعف دون أي تردد.
حسن إسميك
رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS