في ثنائيّة الأصل... الحياة: امرأة ورجل
لم يعرف التاريخ صراعاً أقدم وأطول من الصراع بين الذكر والأنثى، وهو ليس صراعاً تقليدياً يحاول فيه طرفٌ القضاء على خصمه، فزوال طرف يعني زوال الآخر، لكنه صراع من أجل السيطرة، كانت الأوضاع الاقتصادية هي المحدد الأول والأساس له.
الكاتب حسن إسميك
- تاريخ النشر – ٢٩/٠٩/٢٠٢١
منذ أن استيقظ العقل الإنساني على الوجود واجهته جملة من التساؤلات التي لا ينتهي الجدال بشأنها، كيف خُلق الكون واستمرت الحياة؟ هل كان شكله في البداية كما نعرفه اليوم؟ ما سرّ الثنائية التي شكلّت - ولا تزال تشكّل - الحياة من حولنا؟ هل الأصل هو الذكورة أم الأنوثة؟... إلخ، في الواقع لم تستطع الفلسفة ولا العلم الإجابة إجابةً حاسمة عن هذه الأسئلة التي ترجع بالأشياء إلى أصلها الأول، إذ لا يمكن تجاوز مئات آلاف السنين بكل تحولاتها، والتفاعلات التي حصلت فيها، والوصول إلى نتيجة واحدة يتفق عليها الجميع، ورغم ذلك بقي البحث في هذه القضايا يحمل قدراً كبيراً من الإغراء ويستثير الفضول، حتى صار ضرورة لتحديد شكل مستقبلنا الإنساني برمّته، نظراً إلى أن الحياة ستظلّ مبنية على ثنائية (ذكر - أنثى) أو (آن - كي)، أو السماء - الأرض، لكن بالمعنى الأسطوري لهذين اللفظين.
هذا الجدل والإغراء الدائم أتاح المجال للخيال والأساطير والأدب والفن والفلسفة أن تطرح تصوّرها للطبيعة البشرية والعلاقة بين الرجل والمرأة عبر العصور. فالبداية دائماً كانت من الماء، ففي أساطير السومريين بدأ الخلق من إله كان هو أول الموجودات ويمثل الماء، أنجب بدوره إلهين هما (آن) التي تمثّل السماء، و(كي) التي تمثّل الأرض، ومن زواجهما يولد (إنليل) الذي يمثل الهواء ويشعر بالضيق من المساحة القليلة المحصور فيها بين أبويه المتلاصقين، فيقوم بإبعادهما ليفسح لنفسه مجالاً أوسع، وبذلك ترتفع السماء وتنبسط الأرض، وفي الأساطير البابلية بدأت الخليقة من زواج الإله (آبسو) من (تعاما) في جوف المياه البدئية، لتتكرر القصة حين ينتصر الإله مردوخ فيشطر تعامه الى نصفين، يُشكل السماء من نصفها العلوي والأرض من نصفها السفلي، وبشكل مشابه سنجد قصة الثنائية في كلّ أساطير الخلق لدى الحضارات القديمة اليونانية (جيا وأورانوس) والفرعونية (رع وجيب ونوت)..
بدورها، لم تبتعد الأديان الإبراهيمية عن هذه الصورة الثنائية، ففي التوراة - سفر التكوين - يرد: "وقال الله ليكن جلد في وسط المياه وليكن فاصلاً بين مياه ومياه"، وفي القرآن الكريم يذكر الله في سور الأنبياء: "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوآ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شيء حيّ". الماء يعني المطر، تخصب السماء الأرض كما يخصب الرجل المرأة، وتستمر الحياة. تبدو الصورة طبيعية جداً في مجتمعات تعتمد على الزراعة للبقاء، أما ما لا يعرفه كثيرون فهو أن الإنسان - المزارع الأول كان المرأة.
قامت النساء في المجتمعات البدائية بجمع الثمار في الوقت الذي كانت وظيفة الرجل هي الصيد، ومن هنا اكتشفت المرأة عملية البذر والحصول على نتاج وطعام أكثر، فزاد ارتباطها بالأرض وأصبحت إلى جانب كونها "مانحة الحياة" عبر الإنجاب، مصدراً للخصب والنماء، وصارت لذلك "إلهة" وربَّة في كل الحضارات القديمة (ننهورسناج وعشتار وإيزيس وفينوس وارتميس..).
إذاً، وعلى عكس ما يُعتقد، أو يحبّ كثيرون أن يعتقدوا، لم يكن النظام الاجتماعي الأبوي الذي يسيطر على العالم اليوم هو السائد دائماً، ولأننا نرى اليوم في المجتمع الأبوي (البطرياركي) أن الرجل هو المسيطر، قد نعتقد أن المرأة في المجمعات الأمومية (الماترياركي) كانت مسيطرة بالطريقة نفسها، غير أن أبحاثاً عديدة نفت هذه الصفة وأكدت أن الأنظمة الأمومية كانت متساوية، ولم يكن هناك هيمنة لجنس على آخر بالمعنى الذي نعرفه، لكنّ المرأة تمتعت بمكانة أعلى واحترام أكبر، وكان لها أن تنسب الأطفال إليها وتورثهم.
عرفت هذه المجتمعات رخاءً مادياً وازدهاراً لم تكن نتيجته لمصلحة المرأة، ففي مرحلة لاحقة اكتشف الرجل دوره في الإنجاب، ثم عرف كيف يوظف الحيوانات التي كان يرعاها أو يصطادها في الزراعة (حوالي 3000ق.م)، فتراجع دور المرأة الاقتصادي. ومع تقدم الزراعة وظهور نظام المدن، انتقلت البشرية إلى النظام الأبوي تدريجياً، وصار للرجل الدور الاقتصادي والسياسي الأقوى، وتشير جاكيتا هوكس، العالمة المختصة في العصر الحجري إلى أن "المدن ثمرة اقتران هاتين الثقافتين المتباينتين في العصر الحجري الحديث: الجماعات الزراعية المتأثرة بالروح الأنثوية، وجحافل الرعاة التي هيمن عليها الذكور".
وفي الوقت الذي ازداد فيه سلطان الرجال على المرأة وبدأوا يعاملونها كأنها إحدى ممتلاكتهم المادية، لم يفتهم أن يسنوا القوانين التي تضفي الشرعية على هذا السلطان. فعلى سبيل المثال، كانت النساء، حسب شرائع حمورابي الشهيرة، ملكاً لأزواجهن أو آبائهن. إذ إن الزوج يملك أن يطلق زوجته بملء حريته، أو – إذا شاء – يعدّها أمة له، ولا يقتصر الأمر على هذا، بل يرغمها أيضاً على طاعة أي من الخدم الأحرار في المنزل. كما يملك الزوج أن يقدم زوجته لدائنيه ضماناً لديونه. ثم تغيّرت الحال عندما قدّم القانون الروماني الصيغة النهائية للأسرة الأبوية، ولا تزال تشريعات غربية كثيرة حتى يومنا هذا مستمدة منه.
في الصين والهند والشرق الأدنى واليونان، عوملت المرأة في ظل النظام الأبوي كمخلوقات من الدرجة الثانية أو أدنى في كثير من الأوقات، ولقد أثبتت الدراسات أن معظم المجمعات البشرية حرمت النساء من حقوقهن بالكامل، ففي الهند مثلاً كانت المرأة تعزل في غرف خانقة لا يدخلها الهواء طوال حياتها، وطبعاً لا حق لها في الميراث أو التعليم أو اختيار الزوج، فتحوّلت إلى خادمة لا وظيفة لها سوى الإنجاب وأداء الأعمال المنزلية، خاصة في المدن، بينما حظيت المرأة الريفية ببعض الحرية، وذلك فقط بسبب مشاركتها في الأعمال الزراعية، وليس احتراماً لإنسانيتها أو وعياً بتساويها مع الرجل.
ويذهب البعض إلى أن الأديان التي عرفتها البشرية ساهمت فيما بعد بتدعيم وتشريع سيطرة الذكر، وإذا أردنا الإنصاف فإن القائمين على تفسير هذه الأديان لعبوا الدور الأكبر هنا، وذلك لاعتبارات سياسية واقتصادية سادت المراحل التاريخية التي ظهرت فيها، حيث كان للرجل الدور الأبرز والهيمنة المطلقة على مختلف جوانب الحياة. ولم تُفد تعاليم هذه الأديان، رغم النصوص الواضحة في الإسلام مثلاً، في القضاء على هذه النزعة الذكورية الطاغية التي - على العكس - استطاعت استغلال الدين في بعض الأماكن خدمة لأهدافها أو دليلاً على صحتها حين حرّفت المعنى والمغزى، ونحّت المرأة إلى الخلف غير مدركة تأثير ما تفعله على حاضر المجتمعات ومستقبلها.
تعرضت النساء في ظل المجتمعات الأبوية لظلم مرده الجنس الذي خلقن عليه، وتم إخضاعهن بكل الوسائل التي تضمن انتفاء أي تهديد لسلطة الرجل، وكأن هناك خوفاً، غير مبرر، من هيمنة النساء. وللإمعان في ترسيخ هذه الذكورية، تم سوق أحكام غير واقعية عن تدني عقل النساء كلهن، ما يجعلهن غير مؤهلات لأداء "وظائف الرجال"، أو لا تتوفر لديهن الكفاءة في بعض المجالات التي استبد بها الرجل بالكامل، وجرى حصرهن وتنميطهن في قالب الإنجاب وخدمة الأسرة فقط زمناً طويلاً، حتى سيطرت هذه النظرة الدونية على عقل مجتمعات كاملة، لا تستطيع حتى النساء أنفسهن ـ بل ويرفضن في أحيان كثيرة ـ الخروج منها. ولا تزال النساء في معظم مجتمعاتنا العربية، للأسف، بعيدات حتى عن أبسط حقوقهن الإنسانية.
لم يعرف التاريخ صراعاً أقدم وأطول من الصراع بين الذكر والأنثى، وهو ليس صراعاً تقليدياً يحاول فيه طرفٌ القضاء على خصمه، فزوال طرف يعني زوال الآخر، لكنه صراع من أجل السيطرة، كانت الأوضاع الاقتصادية هي المحدد الأول والأساس له. ففي البلدان التي كانت بحاجة لتطوير اقتصادها في مراحل ما بعد الحرب أو ما يشابهها، عمد النظام الأبوي إلى منح المرأة بعض الحرية، فأتاح لها حق العمل، ووضع قوانين أفضل لتنظيم النسل، وشجع على تعليم النساء. فإذا كانت الحاجة هي المعيار، فإن كل المجتمعات اليوم، ومن دون استثناء، بحاجة لدور المرأة وفي مختلف القطاعات.
إذا تم الحجرُ على عقل ما، ومنعه من كل أشكال التفكير والإبداع، فستتراجع كفاءته بلا شك، وهذا ينطبق على النساء والرجال بالقدر نفسه، وعلى العكس، سيدفع تمكين المجتمع رجالاً ونساءً نحو عالم أكثر مساواة وانفتاحاً. ولذلك لا يمكن فصل ما تعانيه مجتمعاتنا العربية من نقص في تنمية قدرات الإنسان عامةً عن تراجعها في مسألة إنصاف المرأة، ولذلك لا بدّ من إعادة النظر في القوانين لتنال المرأة كامل حقوقها في البيت وفي المجتمع وفي العمل، كخطوة أولى مفتاحية لتغيير المنظومة الثقافية السائدة عربياً، تدفع رويداً رويداً نحو مجتمع أقل ذكورية وأكثر مساواة، علّنا نصل يوماً إلى التخلص من هاجس سيطرة جنس على آخر.
أخيراً.. لست أهدف من مقالتي هذه تحريك الدعوة للعودة إلى المجتمعات الأمومية، لكنها دعوة إلى تحرر إنساني متكامل، قائم على قاعدة حتمية التآلف والاندماج بين قطبي الوجود، النساء والرجال، وهو اندماج تفرضه البيولوجيا والطبيعة، واستمرار الجنس البشري، كما تفرضه الحياة الاجتماعية وتكامل دوري الجنسين في العصر الحديث، بعيداً من الصراع المرير الذي يكبدهما معاً خسارة مستمرة، ويخلق مجتمعات غير مستقرة. وحيث إنه لا يمكن لجسد أن يستمر بالسير على قدم واحدة، ولا لطير أن يحلّق بجناح واحد، فالأنثى أمٌ وأختٌ وشريكة كما الذكر أبٌ وأخٌ وشريك، والحياة هي تآلف ثنائي الأصل ما بين الأرض والسماء بمعناهما الأسطوري.. أي المرأة والرجل بمعناهما الواقعي.
حسن إسميك
رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS