عن العروبة والإسلام.. "خبز وماء" الحضارة
يتميز الإسلام بأنه دين ودنيا، وهو منذ بدء الدعوة لم يميز بين عربي وآخر، ونصُ الحديث الشريف واضح في ذلك: «أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍ عَلَى أَعْجَمِيٍ وَلَا لِعَجَمِيٍ عَلَى عَرَبِيٍ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَا بِالتَقْوَى»،
الكاتب حسن إسميك
- تاريخ النشر – ٠٨/٠٩/٢٠٢١
يأخذ التاريخ علي عاتقه حياكة أواصر العلاقات الإنسانية بظروفه وعوامله وتقلباته، كما يتسبب في أحيان أخري بتقطيع هذه الأواصر تحت تأثير نفس العوامل. هي علاقة تبادلية إذاً؛ فالإنسان هو من يصنع التاريخ، وفي لحظة ما يصبح هذا التاريخ هو القائدَ والموجِه لسلوك الجماعات الإنسانية ومستقبلها، لتتحول هذه العلاقة التبادلية إلي «مواجهة» لا تكاد تنتهي بين ما راكمته هذه الجماعات عبر سلوكها وخياراتها السابقة، وبين رؤيتها الجديدة أو طموحاتها التي اختلفت -بطبيعة الحال- عن أزمان سابقة. من هذه الفكرة سأبدأ الخوض في العلاقة بين العروبة والإسلام، التي ما زالت مثار جدل طيلة أربعة عشر قرناً مضت، وتداخلت فيها العوامل الروحية والتاريخية والإنسانية، فما عادت مجرد رابطة عرضية بين قومية أمة ما، وبين الدين الذي يدين به أفراد هذه الأمة، بل اتخذت أحد أكثر أشكال الجدلية عبر التاريخ، فأنتجت حضارة رائدة كانت العروبة والإسلام خبزها وماءها.
لا أبتغي من مقالي هذا محاولة إثبات هذه العلاقة أو التدليل علي عمقها وأهميتها، فهذا مما امتلأت به الكتب والمقالات، إنما أريد مقاربة فكرة التلازم الذي يزداد يوماً بعد يوم بين تياري العروبة والإسلام، وليس المقصود بالتلازم هنا ألا وجود لأحدهما دون الآخر، لكنه يعني استمرار دور هذه العلاقة في تحديد مصير ومستقبل الأمتين، رغم محاولات «متطرفين» من التيارين ادعاء التفرد، وإغفال كلٍ منهما دور الجانب الآخر في تشكيل هوية وثقافة جامعة لم تعرفها بقية الأديان أو القوميات، ودعوتهم لفصل العروبة عن الإسلام نتيجة ما شاب شكل هذه العلاقة من تشويه خلال العقود القليلة الماضية.
شكلت العروبة -بحكم أسبقيتها علي الإسلام- الحاضن للدين الحنيف، فغذته ورعته، وفي الوقت نفسه استندت علي رؤيته الكونية لتشكيل حضارة باسمها والاستمرار بها سنوات طويلة، فكان الإسلام أشبه بالجنين الذي نما في رحم العروبة، معتمداً في غذائه علي حبل سري غني ومتين، هو اللغة العربية التي شكلت أهم مقومات هذا الترابط واستمراريته، لتصبح فيما بعد أهم ركن تُم استهدافه لفصل الإسلام عن حاضنته العربية، ولأسباب سياسية بحتة.
تشير آخر الإحصائيات العالمية إلي أن عدد الناطقين باللغة العربية بلغ اليوم نحو 467 مليون إنسان، ما يجعلها خامس أكثر اللغات تحدثاً علي مستوي العالم خلف الماندرين والإسبانية والإنجليزية والهندية. لكن لنعد بالزمن إلي ما قبل ظهور الإسلام، يوم كانت اللغة العربية في طورها الأول من الفصاحة التي حملتها قصائد الشعر الجاهلي، وتكونت بشكلها المعروف في القرن الثالث الميلادي وانتشرت بين القبائل العربية من الجزيرة وحتي سوريا والعراق بفعل التجارة والتجاور، ثم أصبحت لهجة قريش المتميزة بالفصاحة وحسن اللفظ طاغية علي سائر اللهجات، ولعبت المناظرات الأدبية التي كانت تقام في مكة دوراً مهماً في صقل وتهذيب اللغة، وصار صاحب البلاغة في خطابه اليومي يُعد من ذوي الثقافة الرفيعة.
وفي وسط هذا التوهج للغة التي تمثل روح المجتمع والقومية، والتي تعد في أي مكان من أهم عوامل الشعور الفردي والجماعي بالانتماء لقوم وحضارة معينة، جاءت الرسالة المحمدية بوحي إلهي ناطق باللغة العربية، فزادها رفعة وترك أثره في نفوس المدعوين إلي الدين الجديد من القبائل خارج الجزيرة أيضاً، وهكذا مهدت اللغة والثقافة العربية الطريق أمام الفتوحات الإسلامية، وضَمِن القرآن العربي لهذه اللغة ازدهاراً ومكانة سامية، مانحاً إياها قوة إضافية كرابط قومي يعلو علي بقية الروابط، وفي هذا يذكر الإمام عبدالحميد بن باديس في مقال نشره عام 1963م أنه «تكاد لا تخلص أمة من الأمم لعرق واحد، فليس الذي يكون الأمة ويربط أجزاءها ويوحد شعورها ويوجهها إلي غايتها هو هبوطها من سلالة واحدة؛ وإنما الذي يفعل ذلك هو تكلمها بلسان واحد. ولو وضعت أخوين شقيقين يتكلم كل واحد منهما بلسان، ثم وضعت شامياً وجزائرياً -مثلاً- ينطقان باللسان العربي، ورأيت ما بينهما من اتحاد وتقارب.. لأدركت بالمشاهدة الفرق العظيم بين الدم واللغة في توحيد الأمم».
يلمح كلام ابن باديس، دون أن يُفصح، إلي أهمية اللغة في صياغة الهوية الجماعية، وما زال تعليل هذه الأهمية سؤالاً لم يُغلق باب الإجابة عليه إلي اليوم، إذ ما زال أثر اللغة في تشكيل وعي الإنسان وقيمه غامضاً، وما زال فهم عملها في النفس البشرية ناقصاً لم تُسبر أغواره بعد، غير أن فلاسفة اللغة وعلماءها المعاصرين يؤكدون أن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل بين الأفراد فحسب، بل هي أساس تشكل إنسانيتنا ونمو عقلنا، وهو المستودع الوجداني لمعارفنا وأخلاقنا ومشاعرنا وأفكارنا وتصوراتنا عن وجودنا ووجود كل شيء من حولنا، اعتبرها الفيلسوف الألماني هيجل «وعاء الفكر»، بينما عدَّها هايدجر «بيت الوجود». وشاهد القول هنا أن اللغة العربية، ولما بلغت مبلغها من قوة التعبير والإيضاح، جاء الإسلام فتلبسها لتتشكل من كليهما وحدة استطاعت أن تحمل رسالتها الحضارية إلي كل أطراف العالم.
ويتميز الإسلام بأنه دين ودنيا، وهو منذ بدء الدعوة لم يميز بين عربي وآخر، ونصُ الحديث الشريف واضح في ذلك: «أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍ عَلَي أَعْجَمِيٍ وَلَا لِعَجَمِيٍ عَلَي عَرَبِيٍ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَي أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَي أَحْمَرَ إِلَا بِالتَقْوَى»، وبذلك فلم يحصر نفسه ضمن قومية واحدة رغم لسانه الناطق بالعربية، كما لم يشترط علي الراغبين بالانضمام إلي صفوفه أن يصبحوا عرباً ولم يلزمهم تعلم اللغة العربية إلا بالنذر اليسير، أو بما يمكنهم من أداء العبادات التي تؤدَّي بهذه اللغة، وانطلق بخطاب جامع، إذ يخاطب القرآن (المسلمين والمسلمات) أو (المؤمنين والمؤمنات) وفي آيات عديدة يتوجه إلي الناس جميعاً في دعوته، ولم يتوجه مرة إلي قومية دون أخري.
بذلك أفسح الإسلام المجال أمام القومية العربية لإظهار تميزها ضمن منظومته، وهو ما حصل فعلاً وتجلي من خلال الحضارة العربية الإسلامية التي تميزت بالحض علي العلم والاتجاه نحو الدين والفلسفة والتمسك بالقيم العليا وكرامة الفرد وحرية الفكر والعقيدة، ورغم أنها جمعت نتاج الشعوب المسلمة وغير المسلمة من عربية وغير عربية، بقيت العروبة طابعها وروحها. فنحن هنا إذاً أمام علاقة رباعية الأطراف تضم العرب (مسلمين وغيرهم) والمسلمين (عرباً وغيرهم)، وتقوم علي التفاعل الخلاق بين هذه المكونات دون أن يقيد أحدها الآخر، وهي ليست من المسائل التي تخضع لمنطق (إما.. أو) كما يشير الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه «مسألة الهوية.. العروبة والإسلام والغرب»، بل هي الاثنان معاً في جدلية واحدة.
وفي الوقت الذي حاول فيه العثمانيون السيطرة علي المنطقة سياسياً اعتماداً علي رابط الدين وحده، لم يَفُتهم ما تشكله اللغة العربية من أهمية في هذه المعركة، من هنا جاءت محاولات التتريك للشعوب العربية الخاضعة لها، في محاولة لفصل عري الإسلام والعروبة، والقضاء علي الحامل الحضاري الذي ساد منذ منتصف القرون الوسطي وطمس الهوية العربية، غير أن هذا المخطط باء بالفشل بسبب دور اللغة في العبادة، وبذلك حمي الإسلام الهوية العربية مجدداً. أعقب ذلك محاولات قوي الاستعمار الغربي إعادة تشكيل الشخصية العربية وفقاً لمقومات حضارتها، وكان من أهداف هذا السلوك نفي المساهمة العربية في الحضارة الإنسانية ونسب القسط الأكبر لإنجازات الحضارة الإسلامية إلي الحضارات المجاورة غير العربية كالفرس والهند والصين والترك.. إلخ.
وقد عادت قضية الترابط بين العروبة والإسلام لتشغل الرأي العام العربي خلال الفترة الممتدة من منتصف القرن العشرين، بعد ظهور الحركات القومية التي نشأت كمدافع عن الهوية العربية وتحولت فيما بعد إلي أحد قطبين أيديولوجيين متنازعين، حيث كان من نتيجة عمل الحركات القومية ظهور ما يسمي «العروبة الرسمية» أو «عروبة الأنظمة»، التي حولت هذا الانتماء إلي أيديولوجيا سلطوية تمالي ثنائية العروبة والإسلام في سبيل مصالح شخصية، وفي الوقت نفسه بدأت التيارات الإسلامية بالبزوغ والتشكل، واضعة معاداة القوميين ضمن أولوياتها.
أعاق التنازع بين هذين القطبين المتماثلين في القوة، والمتعاكسين في الاتجاه، تكوين «كتلة تاريخية» متجانسة في الوعي والحركة، ودفع المجتمعات العربية في اتجاهات متباعدة متنافرة، شكلت أساس ما نعانيه اليوم في منطقتنا من مشكلات وحروب وتخلف وضعف. وفي الحقيقة فإن ما شاب العلاقة بين العروبة والإسلام لم يكن بسبب عوامل مرتبطة بكيان كل منهما المنفصل عن الآخر، لكن ما أثار هذا الجدل جاء نتيجة ممارسات الأطراف التي تتبني أحد التيارين وتعتبر أنها تمثله بشكل كامل، حيث يعتقد القوميون أنهم وحدهم يمثلون العروبة، ويظن الإسلاميون أنهم حماة الدين الوحيدون، وهكذا تحولت العلاقة العضوية بين العروبة والإسلام إلي جزء من الحرب بين هذين التيارين، يمكن تلمسه بشكل واضح في التصادم الذي حصل بين التيار السلفي الذي تطور نحو تسييس الدين والتيار القومي ممثلاً بعبدالناصر في مصر.
كما كان من نتاج هذا العداء رسم صورة قاتمة للعلاقة بين العروبة الإسلام، تُظهر كأن عاملاً مشتركاً يجمعهما هو «الإرهاب» أو «التخلف»، وتم صهر الهويتين العربية والإسلامية ضمن بوتقة «أعداء العلمانية والحضارة»، ولم يكن ذلك إلا نتيجة ما فعله متطرفو التيارين طيلة عقود من محاولة احتكار السلطة والسير بالشعوب العربية والمسلمة نحو التخلف والفوضي، تحت ذرائع واهية شتي.
تجمع العروبة بين الوحدة والتنوع، وهي تنطبع بالإنسانية، فلا تقوم علي دين أو جنس أو لون دون سواه، وهي عامل ثقافي اجتماعي قبل أن تفترض وجود دولة واحدة موحدة، وعلي نفس المقياس يأتي الدين الإسلامي ليجمع شعوباً وأعراقاً متعددة دون تمييز، إن لتشابك هذه الميزات لدي الطرفين أهمية لا تقدر بثمن، ونحن اليوم أحوج ما نكون إلي وضعها موضع التفعيل الحقيقي والتنعم بثمارها من جديد.
لا أنكر أن الطريق إلي إعادة هذا التكامل لا يزال طويلاً ومحفوفاً بالمعيقات والمشاكل، لكنه سبيلنا الوحيد لنهضة أمتنا العربية والإسلامية من جديد. ولأنه لا يمكن أن نطلب من أي كان التنازل عن هويته وانتمائه، فإننا قادرون علي أن نطلب منه المشاركة ووضع كل ميزات انتماءاته المختلفة في خدمة قضايانا وأرضنا وشعوبنا التي تستحق أن تنعم بالسلام بعيداً عن الاستقطابات والأيديولوجيات الهدامة ذات الأهداف المشبوهة.
حسن إسميك
رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS