عن الدور الأوروبي "المفقود" في الشرق الأوسط

بدأ تراجع دور أوروبا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل كبير في العقد الماضي وتحديداً منذ اندلاع الشرارة الأولى لما يسمى بـ "الربيع العربي" عام 2011، رغم احتفاظها ببعض النفوذ الاقتصادي والثقافي. جاء هذا التراجع نتيجة ضعف رد الفعل الأوروبي –أو في الغالب غيابه– على الأحداث في ليبيا وسوريا والعراق وإيران وإسرائيل وفلسطين.

الكاتب حسن إسميك
  • تاريخ النشر – ٠١‏/١١‏/٢٠٢١

مرّ حين من الدهر كانت أوروبا خلاله اللاعب الرئيس في الشرق الأوسط، فمنذ مطلع القرن العشرين رسمت دول الاستعمار التقليدي الأوروبية ملامح هذه المنطقة ووضعت حدودها التي نعرفها اليوم، والتي ما زالت إلى وقتنا هذا تثير المشكلات وتولد النزاعات في عدة أماكن من هذه الرقعة من العالم. انتهت حقبة السيطرة الأوروبية التامة تدريجياً، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، وبسبب الخسائر الكبيرة التي تكبدتها الدول الأوروبية، رغم انتصارها في تلك الحرب، وصولاً إلى انسحاب المملكة المتحدة من الخليج العربي عام 1971، بعد أن كانت تشكل الوجود البحري الأساسي فيه. لكن أوروبا استمرت لعقدين تاليين في لعب دور استراتيجي مهم في المنطقة واحتفظت بنفوذ سياسي كبير فيها.

في التسعينات، أظهر الاتحاد الأوروبي مبادرة ورؤيا في تعاملاته مع الشرق الأوسط، بما في ذلك بناء منطقة تجارة حرّة في البحر الأبيض المتوسط، والمشاركة مع إيران، والحوار مع دول مجلس التعاون الخليجي، والدعم الاقتصادي للفلسطينيين في عملية السلام في الشرق الأوسط. أما اليوم، وعلى النقيض من ذلك، رغم توسع الاتحاد الأوروبي في الحجم لكنه تراجع في الطموح، وباتت حكوماته تلجأ إلى المزيد من التصريحات السياسية بدلاً من اتخاذ إجراءات حاسمة.

ولقد بدأ تراجع دور أوروبا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل كبير في العقد الماضي وتحديداً منذ اندلاع الشرارة الأولى لما يسمى بـ "الربيع العربي" عام 2011، رغم احتفاظها ببعض النفوذ الاقتصادي والثقافي. جاء هذا التراجع نتيجة ضعف رد الفعل الأوروبي –أو في الغالب غيابه– على الأحداث في ليبيا وسوريا والعراق وإيران وإسرائيل وفلسطين.

لقد شهد عام 2011 أكبر خلطٍ للأوراق السياسية والاقتصادية في العالم خلال قرن، من دون أن يكون للاعب الأوروبي حضور لافت هذه المرة، ما أبعده عن "المكاسب" سهلة التحصيل، على عكس بقية الأقطاب الدولية التي رسمت على أنقاض ما جرى ملامح سياستها الخارجية لسنوات عديدة، في وقت حققت فيه مكاسب اقتصادية ووزناً سياسياً أكبر وأكثر تأثيراً في المنطقة.

الوجه البارد الذي تتعاطى فيه القارة العجوز مع القضايا والأزمات في المنطقة العربية واضح بشكل كبير ولا تخفيه محاولات "التبرج" في التصريحات والبيانات، كما أنه يترك أمامنا مساحات واسعة للبحث عن أسبابه الخفية، فبالرغم من القرب الجغرافي والحضاري بين أوروبا والعالم العربي إلا أنني أجد هذا القرب غير فعال بشكله الحقيقي والتاريخي، فهل تتقصد أوروبا النأي بنفسها عن المنطقة أم هنالك ما يجري خلف الأكمة؟

ينبغي على أية حال استبعاد أن يكون الإهمال الأوروبي الظاهر لملفات الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة ضعفاً بالرؤيا السياسية، فالقارة العجوز تمتلك حكمةً الشيوخ، وباعاً طويلاً في هذه الناحية، كما أن بعض التجارب الأوروبية –ورغم الوجه المظلم لها في أماكن عدة– كفيلة بأن تكون نماذجَ في التعاطي السياسي العالمي (وقد تحدثت عن تجربة السياسة الخارجية البريطانية بالتفصيل في مناسبات سابقة) لما أنجزته خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وتحديداً في منطقة الشرق الأوسط.

إذاً ما الذي يجري؟

ببساطة... يفتقر الاتحاد الأوروبي اليوم وبعد 60 سنة على تأسيسه للقرار السياسي الموحد، أو –لأكون أكثر دقة– إلى القرار الموحد في السياسية الخارجية، والقادر على إحداث تأثير كبير ووازن، ويتكئ بدل ذلك بكامل ثقله على السياسة الأميركية وتوجهاتها، للحد الذي فقد فيه أبسط الأدوار السياسية في ملفات الشرق الأوسط، كالوساطات التي تجري كل فترة بين الفلسطينيين والإسرائيليين مثلاً، أو بين اللبنانيين وأحزابهم السياسية، في حين يواظب الاتحاد على تقديم المعونات المالية لمثل تلك الدول في حالة غريبة من الصعب أن تُفهم أسبابها العميقة، وتبقى ضمن خانة البعد الإنساني، ما لم تكن سبيلاً للتواصل أو للتأثير "المؤجل" ربما.

حازت أوروبا على مستوى معين من التأثير زمن الرئيس الأميركي باراك أوباما، ربما لأن واشنطن أرادت من الشركاء الأوروبيين دعم أعمالها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فلعبت دوراً في سياسة الولايات المتحدة تجاه ليبيا وسوريا، وتجاه إيران وملف الصراع العربي - الإسرائيلي على وجه الخصوص. لكن وصول دونالد ترامب غيّر من المعادلات كثيراً، أظهر نهج إدارة ترامب أن معظم نفوذ أوروبا في الماضي كان يعتمد على أهميتها بالنسبة لواشنطن، وأعلن ترامب أنه لا يحتاج القارة العجوز بعد الآن، وبالفعل لم يستطع الاتحاد الأوروبي أن يفعل شيئاً في وجه انسحاب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، أو نقل السفارة الأميركية إلى القدس. إذ إن الدمج بين التكامل الاقتصادي والمالي لأوروبا مع السوق الأميركية من جهة، والافتقار إلى الإرادة السياسية من جهة ثانية، سرعان ما أظهرا أن أوروبا غير قادرة على أن تكون بمثابة ثقل موازن للولايات المتحدة.

وعلى صعيد موازٍ، تحاول أوروبا الوقوف على الحياد دائماً، والبقاء صديقة للأطراف جميعها، وهذا يتطلب جهوداً دبلوماسية حثيثة، ومتابعة واهتماما ونفقات كبيرة، بخاصة في بيئة كتلك السائدة في الشرق الأوسط، مستقطبة إلى درجة تجعل من تبني الحياد فيها عديم الأهمية والتأثير، فكيف إذا ترافق مع ضعف القدرات وغياب التنسيق في السياسة الخارجية؟ عندها سيؤدي بالطبع إلى تقويض أي نفوذ محتمل للاتحاد، وإلى تعقيد قدرته على التصرف بفعالية. والحقيقة أنه، وفي عالم يتضاءل فيه فضاء الاعتدال السياسي، لا يمكن لجهود أوروبا تحقيق التوازن في التأثير أن تكتسب زخماً كبيراً. وليس بخافٍ أن إحجام القارة العجوز عن استخدام القوة والتدخل المباشر قد أدى إلى تراجع نفوذها مقابل تقدمه بالنسبة للقوى الإقليمية والعالمية الأخرى، والمستعدة لنشر القوة العسكرية في عدة أماكن من الشرق الأوسط.

أسباب أخرى لا يمكن إغفالها تؤدي دوراً في تعزيز هذا الجمود السياسي الأوروبي، بخاصة في العامين الماضيين، كالعامل الاقتصادي بالغ الأهمية، إذ تسببت جائحة فيروس كورونا بضربات "زلزالية" أحدثت تأثيرات واضحة على وجه المنظومة الاقتصادية الأوروبية بأكملها، حيث أدت إلى تراجع السياحة وازدياد معدلات البطالة وضعف النمو الاقتصادي، وهي أسباب كافية لإعطاء الأولوية للملفات الداخلية وتأجيل الملفات "الأقل أهمية" على قائمة الاتحاد الأوروبي كاملاً.

هذا وقد أثر "الكباش السياسي" المستعر في المنطقة بين إسرائيل وإيران، والولايات المتحدة وروسيا، وتركيا والخليج، على الوزن الأوروبي الصغير نسبياً، والذي لم يتم تدعيمه منذ سنوات، بالرغم من المحاولات الفرنسية للحفاظ عليه في لبنان على سبيل المثال. لكن ورغم هذه المحاولات لم تستطع فرنسا، ذات العلاقات التاريخية المميزة مع لبنان، حل مشكلة الحكومة وتشكيلها، ولم يجدِ الاستعراض الذي قدمه ماكرون في بيروت بعد انفجار مرفئها، مقابل التأثير الذي أحدثته مؤخراً "بواخر الوقود" الإيرانية على الملف بشكل مضاعف!

من جهة أخرى، ولعلّها تكشف ما خلف الأكمة، لا تفتقر أوروبا إلى الأصول في المنطقة، فلديها علاقاتها الاقتصادية التي تتفوق فيها على تلك التي تمتلكها الولايات المتحدة مع المنطقة، كما أن لأوروبا قدرات عسكرية –ولها قواعد في عدة دول– ليست أقل من قدرات روسيا مثلاً. بالإضافة إلى ما تمتلكه دول الاتحاد الأوروبي من شبكات دبلوماسية فاعلة ومؤثرة تمتد عبر المنطقة بأكملها. أما الحديث عن غياب الأرضية المشتركة بين الدول الأوروبية لتنسيق سياستها الخارجية فهو أمر مثير للسخرية ولا يليق بأعرق القوى الدبلوماسية في العالم. لذلك... ربما يتحضر الأوروبيون للمواجهة القريبة القادمة في الساحات الاقتصادية التي تشتد فيها رياح المنافسة لدرجة قد يُقتلع فيها أصحاب الوزن الخفيف من جذورهم. وهذا لا يعني بأي حال إهمالهم للسياسة بخاصة في الشرق الأوسط.

يشهد الشرق الأوسط اليوم حالة من إعادة تشكيلٍ ورسم لخرائط النفوذ، تلعب فيها القوى المحلية أدواراً لم تكن قادرة عليها في السابق حين كانت القوى الخارجية هي وحدها المسؤولة عن هذه العمليات. في هذه المرحلة بالذات قد يصبح الدور الأوروبي القريب للحياد والمعتدل مرحباً به أكثر من غيره، وهذا ربما ما ينبغي علينا ترقبه وانتظاره. بخاصة أن أوروبا لا تفتقر إلى المصالح الاستراتيجية في الشرق الأوسط، بل هي كثيرة ومتنوعة تبدأ من أمن الطاقة ولا تنتهي عند تدفقات اللاجئين والمهاجرين، وتهديد الأسلحة النووية، والمخاطر الإرهابية.

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS