عندما تصبح الشّعوب كرة بين أقدام السّاسة
أدت عولمة الرياضة من جهة، وفراغ الشعوب من جهة، إلى إحداث شرخ حقيقي في الهوية الوطنية لدى كثير من المجتمعات، وليس انتشار الأعلام الأجنبية جوهرها، بل مجرد قشرتها الخارجية، أما جوهر هذا الشرخ فهو اعتقاد شبان كثيرين أن الشأن الوطني العام ليس شأنهم، وأن سياسييهم وحكامهم ليسوا منهم ولا يشبهونهم، وأن أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية المتردّية هي قدر من الله قبل أن يظلمهم أحد أو يسرق مقدرات بلدانهم أحد.
الكاتب حسن إسميك
- تاريخ النشر – ٢٣/٠٨/٢٠٢١
فاز المنتخب الكوري الشمالي بكأس العالم 2014، هل تعرفون ذلك؟
بالطبع لم يفز المنتخب بتلك البطولة، التي لم يتأهل إليها أصلاً، ولكن هذا ما أشاعته وسائل الإعلام الرسمية في كوريا الشمالية، وربما تخلل المشهد احتفالات للناس في الشوارع، حيث ليس هناك أي توثيق لهذه الحادثة رغم تأكيدها في الأوساط الرياضية... لكن لماذا تقوم سلطة بلد ما بإشاعة أخبار كهذه؟ ببساطة لأن للانتصارات الرياضية سلطة على مشاعر الشعوب، قد تغدو أكبر من الأثر الذي تولّده الانتصارات العسكرية، ففي الرياضة تنتصر من دون قتلى ودماء... وتنهزم من دونهم أيضاً.
لم يغب ذلك عن ذهن مارادونا قبل مباراة الأرجنتين وإنكلترا في مونديال 1986، التي كانت معركة بالنسبة إلى اللّاعبين الأرجنتينيين بعد هزيمة القوات الأرجنتينية أمام الإنكليزية في جزر فوكلاند، حيث قال مارادونا بعدها: "كنا نقنع أنفسنا بأن لا علاقة للأمر بالسياسة ولكنها كانت كذبة". وقال أيضاً: "قتل الإنكليز أطفالنا كطيور صغيرة... لقد كان فوزنا هذا انتقاماً".
وفي كأس أمم أوروبا الأخيرة، لاحت ظلال أزمة بين الاتحاد الأوروبي لكرة القدم "ويفا" والسلطات الروسية، بعدما استعرض المنتخب الأوكراني قميصه الرسمي المحتوي على خريطة أوكرانيا، شاملة منطقة القرم التي تقع تحت السيطرة الروسية، ولكن أكبر تجليات المشاحنات السياسية في عالم الرياضة كانت تلك التنافسية التي ولدت بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية فترة الحرب الباردة في الألعاب الأولمبية خصوصاً، حيث كان كل انتصار فيها بمثابة نصر عسكري وسياسي لواحد من المعسكرين، ووصلت هذه الظاهرة ذروتها عند فوز المنتخب الأميركي بالهوكي الجليدي على المنتخب السوفياتي الذي كان قد فاز بالميدالية الذهبية أربع مرات متتالية في إطار الألعاب الأولمبية الشتوية، ما جعل الأميركيين يقتحمون الملعب ويقضون الليل بالشوارع وكأنه يوم استقلال وليس مجرد فوز في مباراة.
كل تلك الحوادث وأكثر جعل العلاقة المتشابكة بين الرياضة والسياسة ذات أثر تبادلي، فكما سخّر الرياضيون جهودهم في أرضيات الملاعب لتحقيق انتصاراتهم الذاتية وانتصار مجتمعاتهم السياسية، سخّر الساسة في المقابل جهودهم لتسيير بعض الحوادث الرياضية في اتجاه يخدم مصالحهم ويؤثر على علاقاتهم مع الشعوب، إذ تذكر لنا المراجع الرياضية ومدوّنات الصحافيين المخضرمين حوادث، منها الموثق ومنها ما يعتمد على الرواية المتداولة عن تلاعب السياسيين بنتائج مباريات رياضية، وكانت أبرز تلك القصص تدور حول هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا والجنرال فرانكو الذي حكم إسبانيا بعد الحرب الأهلية. ومؤخراً انتشرت تقارير ترجع إلى وثائق سرية أميركية أُفرج عنها لتؤكد أن فوز الأرجنتين بكأس العالم 1978 لم يكن سوى حادثة كبيرة من حوادث الفساد الرياضي السياسي، قام بهندستها وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر لتبييض صورة الحكم الدكتاتوري في الأرجنتين بقيادة خورخي رافاييل فيديلا، والتي شملت أشكالاً عديدة للانتهاكات كمحاولات خطف اللاعبين ودفع الأموال وخلق تسويات حول محتجزين من دول مشاركة بكأس العالم في السجون الأرجنتينية.
بطبيعة الحال، لا يمكن تحديد حادثة أولى للفساد الرياضي، ولكن كل الأنظمة السياسية تفطنت للمكاسب التي يمكن أن تجمعها من خلال استخدامها للرياضة، ولما لها من أثر إيجابي على المواطنين، والشباب منهم خاصة، فنحن لا ننسى الصدى الكبير الذي سببه أداء المنتخب السوري في تصفيات كأس العالم 2018 في كرة القدم، الذي جعل الشعب السوري المنهك من فَقد أبنائه وانهيار اقتصاده يتجمع في المقاهي والبيوت داخل سوريا وخارجها من أجل نصرة المنتخب، فيما اتفقت الجماهير العربية في كل الدول على تشجيع المنتخب السوري لمعرفتها أن التأهل إلى كأس العالم هو أفضل مسكّن لألم ذلك الشعب.
قبل ذلك بأحد عشر عاماً، عام 2007 تحديداً، ملأت الجماهير العراقية ساحات المدن التي لجأوا إليها ليحتفلوا وسط فرحة عارمة بتحقيق منتخبهم كأس آسيا، ولا بد أنهم نسوا للحظات أو دقائق أنهم قد فقدوا تلك البلاد، وأنهم في بلاد أخرى ولا يملكون من وطنهم الآن إلّا فرحة الانتصار وقميص المنتخب.
الحادثتان السابقتان تضعاننا أمام حقيقة أن دولنا العربية فهمت اللعبة باكراً، ولكنها حتى الآن لم تلعبها بطريقة صحيحة، فالمنتخب السوري انحدر إلى الحضيض بعد تلك التصفيات، والاستفادة الإعلامية الكبيرة التي حققتها الدولة منه لم ترتقِ الى محاولة جادة لخلق مسار رياضي يرضي الجماهير، والرياضة العراقية كذلك لم تتطور بعد هذه الحادثة، اللهمّ إلّا في حالات عابرة، ويعود ذلك إلى عدم وجود خطة رياضية على الأمد البعيد، وهذا عموماً ما يضطر بعض الدول الى تجنيس لاعبين أجانب من أجل رفع مستويات رياضييها، ونرى هذه الحالة منتشرة اليوم خصوصاً في الأولمبياد الأخير، حيث كان أمراً شديد المفارقة أن نجد لاعبين يتحدثون بغير لهجات البلاد التي لعبوا باسمها، وأن نجد في المقابل لاعبين بأسماء عربية يلعبون لدول غربية مثلاً، إذ يتعارض هذا المذهب تعارضاً واضحاً مع الاتجاه الأساسي للرياضة، الذي يهدف إلى تفريغ طاقات الشباب في نشاطات مفيدة لهم من الناحية النفسية والجسدية، وتقوي ارتباطهم ببلادهم التي من المفروض أن تساعدهم بدعم مواهبهم في الميادين التي يريدونها، وليس أن تستبدلهم بآخرين من دول أخرى ليرفعوا اسمها في المحافل، ما يجعل الأمر يبدو كأن السلطات تستخدم الرياضة لتخدير هذه الشعوب بدلاً من تنشيطها، لأنك إذا أردت التنشيط فهذا يتطلب منك برامج وخططاً وميزانيات على الأمد البعيد، تقرر الفعاليات الرياضية أنها بغنى عنها في شكل لا يمكن تفسيره إلّا لوجود فساد إداري ... ولعلّ ذلك هو السبب في عدم وجود إنجازات رياضية جماعية للدول العربية، باستثناء طفرات تحدث من فترة لأخرى، لكنها لا ترقى إلى الحصول على ألقاب عالمية، حيث لم يصل أي فريق عربي أبعد من ربع نهائي كأس العالم في كرة القدم، كما أن الميداليات الأولمبية العربية بمجموعها العام لا تشكل شيئاً يُذكر أمام إنجازات الرياضيين الصينيين أو الأميركيين أو الروس.
ربما ذلك هو ما أدى إلى فقدان الشباب العربي الرياضي، الطموح وثقته بمؤسساته، وإداراته الرياضية، واتجه الى محاولة البناء الذاتي لتحقيق الإنجازات الفردية التي تكون أول خطوة فيها ترك البلاد والذهاب إلى أخرى توفّر أسباب البناء والتطور والدخول في السوق الرياضية، وقد رأينا جميعاً في كرة القدم بالذات، كونها اللعبة الأكثر شعبية، حالات لمع فيها نجم لاعبين عرب، ولكن ليس في بلاد العرب، كالجزائري زين الدين زيدان، الذي نشأ في فرنسا ولعب لمنتخبها وفاز بقميصها بكأس العالم، والمصري محمد صلاح الذي ترافق نبوغه الكروي مع حوادث سياسية مأسوية في مصر بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، ما حدا به للبحث عن فرصة في أوروبا مبتدئاً بالأندية الصغيرة مثل بازل السويسري لينتهي به المطاف بطلاً لدوري أبطال أوروبا مع ناديه الحالي "ليفربول الإنكليزي".
كان للأزمات السياسية دور في إظهار بعض المواهب الكروية للنور، فبالتأكيد لم نكن لنسمع بلاعب سوري في ناد ألماني كبير مثل "بوروسيا دورتموند" لولا تيار المهاجرين السوري الذي أوصل موهبة محمود داوود إلى ملاعب ألمانيا ... أسماء كثيرة أخرى من اللاعبين الذين هجروا بلدانهم خلال الأزمات السياسية، استقروا ولعبوا في بلدان أكثر أماناً واهتماماً في الرياضة ليصبحوا نجوماً بصيت عالمي.
كل هذه السلبيات التي تبدو واضحة لكل مراقب، ولا تحتاج إلى البحث والتقصي، ثبتت بالرغم من الاستثمارات المالية الهائلة للمؤسسات الرياضية الخاصة، فبعض الدوريات العربية يُضخ فيها مئات ملايين الدولارات، تذهب الى اللاعبين الأجانب المستقدمين إلى هذه الدوريات، وإلى المدربين والطواقم التدريبية الأجنبية، ما يجعلها أشبه بشركات خاصة تهدف إلى الربح المادي الناتج من الاستثمارات الرياضية، ولا تهدف إلى تطوير الرياضة المحلية بغياب واضح للانتماء والغيرة على البلد وسمعته في المحافل الرياضية العالمية، وفي دول أخرى تسيطر أسماء محددة بعينها على الرياضة المحلية منذ أكثر من عقد، بل تصل أحياناً الى عقدين أو ثلاثة عقود يتوارث فيها تلك السيطرة الأبناء عن الآباء.
أما بالعودة إلى جهة السياسة، فمعروف أنه منذ بدأ التنظير الفكري للممارسة السياسية وأدواتها وقيمها، طرح الفلاسفة ومفكرو السياسة مشكلة التناقض الحاد بين نبل أهداف العمل السياسي وعلو قيمه، وبين المثالب الأخلاقية والسلوكيات المشبوهة التي يعتمدها السياسيون للوصول إلى السلطة أولاً، والاستمرار بها ثانياً. ربما كانت هذه هي المشكلة الأساس التي دعت أفلاطون ليؤكد ضرورة إلباس السياسة لبوساً أخلاقياً على صعيد الفرد أو المجتمع، ودعت خلفه أرسطو ليجمع الاثنتين (الأخلاق والسياسة) في علم واحد بحيث لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى، وكانت الرسالة واضحة لدى كلا الفيلسوفين: لن تحقق السياسة أهدافها النبيلة إلا بنبل رجالها وأخلاقهم. لكن منذ أن أنجز ميكافيللي نظريته في الواقعية السياسية، أصبح تحلل السياسيين من التزاماتهم الأخلاقية يعامل كوجهة نظر لها مبرراتها وبراهين صحتها. ولا أظنه أمراً يحتاج للإثبات لكي نقول إن السياسات العربية هي من أكثر سياسات العالم وفرة في السياسيين الذين اعتنقوا الميكافيلية بصورتها الفجة (الغاية تبرر الوسيلة)، وقد وجدوا في أدوات كثيرة، منها كرة القدم، ورياضات أخرى لكن أقل شعبية، أفضل وسيلة، لا لتبرير غايات السياسة وتحقيقها، بل لتحقيق غايات السياسيين أنفسهم، وحفظ مصالحهم وسلطتهم بعيداً من مساءلة الشعوب ورقابتهم، تلك الشعوب التي تزحف إلى الملاعب بأعداد تفوق آلاف المرات أعداد من يفكرون بالخروج إلى الشارع لتغيير نهج سياسي أو للمطالبة بإصلاح شأن عام.
هذه الشعوب المخدرة باتت تحفظ أسماء لاعبي الفرق الأجنبية أكثر من أسماء وزراء الحكومات التي تحكمهم، وتخوض نقاشات حادة ولا منتهية في تحليل المباريات وأخبار الدوريات، بينما تسارع لإغلاق أي حديث سياسي وهي تتلفت حولها وتدعو الله السلامة. وما زلت لا أنسى كم كان ألمي كبيراً عندما زرت دولة عربية يعاني أهلها استبداد ساستهم بهم وإهمالهم لشؤونهم، وكان ذلك في منتصف دوري كأس العالم، رأيت في تلك الزيارة أعلام كل دول المنتخبات المشاركة، الأوروبية والأميركية اللاتينية، تغطي شرفات المنازل وتخرج من نوافذ السيارات ... وحده علم الدولة الوطني كان غائباً عن المشهد، باستثناء أعداد قليلة ممزقة ومغبرة، وقد عُلقت على عجل فوق أبنية حكومية شبه متداعية.
نعم.. لقد أدت عولمة الرياضة من جهة، وفراغ الشعوب من جهة، إلى إحداث شرخ حقيقي في الهوية الوطنية لدى كثير من المجتمعات، وليس انتشار الأعلام الأجنبية جوهرها، بل مجرد قشرتها الخارجية، أما جوهر هذا الشرخ فهو اعتقاد شبان كثيرين أن الشأن الوطني العام ليس شأنهم، وأن سياسييهم وحكامهم ليسوا منهم ولا يشبهونهم، وأن أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية المتردّية هي قدر من الله قبل أن يظلمهم أحد أو يسرق مقدرات بلدانهم أحد.
وإذ يعلّق الكثير من العرب الأمل برفعة أوطانهم وشهرتها عالمياً على الرياضة، لعلها تكون الطريق لما عجز عنه الاقتصاد أو الثقافة أو الصناعة، لكنه أمل بعيد جداً على ما أرى، فتقدم الدول الأوروبية في الرياضة لم يكن حدثاً منفرداً ومنفصلاً عن واقعه، بل هو جانب ثان من التقدم السياسي والعلمي والعسكري الذي تحظى به تلك البلاد، أما تميز بعض دول أميركية جنوبية قليلة، أو أخرى أفريقية أو آسيوية أقل منها، فهذا ليس سوى الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. أما نحن فلا تنطبق علينا القاعدة ... ولا الاستثناء أيضاً.
أخيراً.. أحب الرياضة حباً جماً، ولا أخفي اهتمامي العملي بها، والاستثمار فيها، لكن ذلك لن يمنعني من كتابة ما كتبت، ولن يمنعني من أن أختم بالقول إن استعراضاً سريعاً للإنجازات الرياضية العربية المتواضعة لدرجة أنها لا تحتاج للتعمق، يعطينا استنتاجاً أكيداً في أن أي حلم رياضي عربي هو قطعاً بعيد التحقيق، وإذا تحقق في النهاية وبناءً على المعطيات الحالية، فهو لن يكون إلّا مصادفة مقرونة بضربة حظ دعمتها الجهود الفردية التي تكلّف الرياضيين أكثر مما يستطيعون تحمله في معظم الأحيان، فهل ستكون هنالك آذان تسمع وعيون ترى صرخات الشباب العرب وتعابير وجوههم التي تنم عن شعور بالنقص مقابل شعوب لا تتميز عنها إلا بالتنظيم والصدقية والإيمان بالدافع الوطني؟ وهل سنعيش لنشاهد إنجازاً عربياً كبيراً كفوز أحد المنتخبات العربية بكأس العالم؟ على ألّا يكون ذلك فوزاً وهمياً مثل فوز المنتخب الكوري الشمالي في 2014!
حسن إسميك
رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS