عامٌ على كوفيد 19.. التحدي والاستجابة

عندما نعود إلى التاريخ الإنساني المليء بالتجارب المشابهة للأزمة التي يمر بها العالم حالياً، يمكننا ملاحظة ما أثـاره فيروس كورونـا من تغيرات جوهريـة في التفاعـلات السياسيـة على المستويين الإقليمي والدولي، وبخاصة تلك المتعلقة بإعادة صياغـة أدوار الـدول الوطنيـة وقدرتهـا عـلى الاسـتجابة للتداعيـات السـلبية للفيروس.

الكاتب حسن إسميك
  • تاريخ النشر – ٢٣‏/٠١‏/٢٠٢١

مَن منّا كان يتخيلُ أنّ وباءً سيجتاح العالم ويحول منازلنا إلى سجون نلازمها على الدوام ويدفع العالم إلى حافةِ انهيارٍ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ مخيف... فالعالم بعد كورونا لن يكون كما سبقها، إذ باتت هذه الجائحة أزمة عالمية شملت معظم دول العالم، وباتت تهدد حياة البشر جميعاً، فهي أدّت إلى تغييرات جذرية في المجتمعات ورسمت معالم خريطة سياسية عالمية جديدة. وفتح ذلك باب التكهنات واسعاً لتقييم طبيعة التغييرات مقارنة بما كان عليه العالم قبل كورونا. والآن، وبعد مرور عامٍ على تفشي الجائحة، نتساءل: ما نوع المجتمع الذي بدأت تتشكل ملامحه؟ وهل كانت البلدان أكثر ميلاً للوحدة، أم للعزلة؟ وعلى الرغم من أن الغموض مازال يلفّ النهاية المحتملة للأزمة وتداعياتها المختلفة، إلا أنه يمكننا ،إلى حد ما، التنبؤ ببعض التوقعات التي قد تلقي بظلالها على النظام العالمي الحالي.

عندما نعود إلى التاريخ الإنساني المليء بالتجارب المشابهة للأزمة التي يمر بها العالم حالياً، يمكننا ملاحظة ما أثـاره فيروس كورونـا من تغيرات جوهريـة في التفاعـلات السياسيـة على المستويين الإقليمي والدولي، وبخاصة تلك المتعلقة بإعادة صياغـة أدوار الـدول الوطنيـة وقدرتهـا عـلى الاسـتجابة للتداعيـات السـلبية للفيروس. 

لقد أظهرت الأزمة هشاشة كبيرة على مستوى العمل المشترك ودور التكتلات العالمية والإقليمية الكبرى، وبخاصة مواقف بعض الدول الأوروبية التي غلب عليها الضعف في التزام مبدأ «التضامن» الذي يشكل أساس الاتحاد الأوروبي، إذ خذلت إيطاليا، وبدلاً من أن تلبي شقيقاتها المجاورة طلبها بالمساعدة بالمعدات والإمدادات الطبية، عمدت ألمانيا وفرنسا إلى حظر تصدير مثل هذه المنتجات.

كشفت الأزمة أيضاً عن مدى قصور دور المنظمات الدولية، كالأمم المتحدة، في استيعاب حجم المخاطر الناتجة عن الوباء، وكذلك فشل منظمة الصحة العالمية في استجابتها السريعة للأزمات الصحية العالمية. وهذا ما دفع الولايات المتحدة إلى التهديد بالانسحاب من المنظمة ووقف تمويلها بسبب ما اعتبرته واشنطن انحيازاً للصين. كما شنت بلدان على رأسها الهند واليابان، حملة ضد المنظمة ذاتها بسبب فشلها في احتواء الأزمة.

لقد أدى انتشار الفـيروس إلى تعزيـز التوجهـات الأحاديـة مـن جانـب الـدول، أي اتجـاه كل منها للعمـل بشـكل منفـرد مـن أجـل الحـد مـن انتشاره، في ظـل تراجـع فاعليـة التكتـلات الدولية والإقليميـة. وشـكّل فيـروس كوفيد19 القـوة الدافـعة الرئيسـة لتعزيز سـيطرة الدولـة على الحريات المجتمعية في كثير من الدول المتقدمة التي فرضت إجـراءات احترازية مشـددة تتعلق بالتباعــد الاجتماعـي والإغـلاق والحد من حرية التنقل. 

ورغم ذلك كله، مازال من المبكر تقييم هذه المرحلة. ويشير بعض المحللين إلى أنّ مراكز النفوذ والقوة ستتحول من الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية إلى دول شرق آسيوية، على رأسها الصين، بسبب تمكنها من السيطرة على الفيروس بنجاح، من خلال انتهاج «استراتيجية فعالة» في التعامل مع الأزمة، مقابل ما اعتبره هؤلاء المحللون ضعفاً وتخبطاً في تعامل الغرب مع هذه الجائحة والذي شهد أعلى معدلات إصابة على مستوى العالم. وبناء على ذلك، فقد توقع المهتمّون بالدراسات المستقبلية أننا قد نشهد أحد سيناريوهات ثلاثة، هي:

السيناريو الأول: استمرار نظام القطب الواحد، فقد استطاعت أمريكا تخطي الأزمات تاريخياً. وستتجاوز هذه الجائحة، وتبقى مهيمنة داخل المنظومة الدولية. والآن، ومع اكتشافها لقاحاً لفيروس كورونا، أصبحت تسوّق نفسها كمنقذ للعالم صحياً واقتصادياً وسياسياً.

السيناريو الثاني: قيام نظام ثنائي القطب بقيادة كلّ من الصين وأمريكا. فقد أعلنت الصين للمرة الأولى عن سعيها لاحتلال مكانة سياسية كبرى بعد أن كانت تأخذ دور «المراقب الصامت» في العديد من الأزمات العالمية. وبرأي مفكرين مثل جوزيف ناي، زبغنيو بريجنسكي وغيرهما، فإن الصين هي المرشحة لأن تكون نداً للولايات المتحدة، بسبب اقتصادها المتنامي. وهذا يوحي بأن فترة ما بعد كورونا ستتجه إلى المزيد من الصراع بين الدول الكبرى من أجل إعادة بناء نظام جديد في عالم تتقاسم أمريكا والصين زعامته.

السيناريو الثالث: مبدأ التضامن والتعاون الدولي في ظل نظام متعدد الأقطاب، خصوصاً وأن أزمة كورونا قد تسرع من التحول من نظام الأحادية القطبية إلى نظام دولي «متعدد الأقطاب»، تكون فيه لروسيا والصين ودول أوروبية أخرى أدوار بارزة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وبالتالي يتحقق التوازن والاستقرار في العلاقات الدولية بحسب مؤيدي نظريات تعدد الأقطاب.

أدى كوفيد 19 إلى شلّ النشاط الاقتصادي الاعتيادي والحياة اليومية في جميع أنحاء العالم، ما يعني أن الجميع سيخسرون، وبالتالي سيكون من المهم تحديد مدى حدّة هذا الانكماش الاقتصادي والنتائج المترتبة عليه مستقبلاً. لا يزال فيروس كورونا يعيث بالاقتصاد العالمي دماراً، إذ خسر مكانته السابقة وتراجعت معدلات النمو العالمي وتزايدت البطالة في العالم أجمع، وكلما طال أمد الصراع ضد الفيروس كلما تراجعت قيمة الأصول المالية للاستثمارات التي أنجزت مع تزايد أزمة الديون، ما سيؤدي حتماً إلى ظهور حالات الإفلاس الاقتصادي والانهيار المفاجئ لقيم وأصول العديد من البورصات العالمية بسبب صعوبة التنبؤ بحركة الأسواق. وشهدت أسواق الأسهم والسندات والسلع (بما في ذلك النفط والذهب الخام) في جميع أنحاء العالم أكبر انخفاض لها منذ الأزمة المالية في 2008. 

وأدى انخفاض الطلب على النفط إلى وصول أسعاره لمستويات غير مسبوقة تاريخياً، ومن المؤكد أن تؤدي هذه التقلبات في الأسواق المالية إلى تعطيل الطلب الكلي بدرجة أكبر. ومع انهيار أسعار النفط، سيكون هناك تأثير سلبي مزدوج على دول الشرق الأوسط (المنتجة للنفط)، وسيشكل تحدياً كبيراً للدول التي تعاني من أوضاع اقتصادية واجتماعية هشة، وبالتالي سيكون من الصعوبة بمكان إعادة تشغيل اقتصاد عالمي حديث مترابط بعد انتهاء الأزمة. 

في المقابل، رأى البعض أن تداعيات كورونا لن تغير نظام العالم بشكل جذري. فالعولمة ستستمر، ولكنها ستتمحور حول الصين بدلاً من الولايات المتحدة. لكن صحيفة «فورين أفيرز» الأمريكية تذهب أبعد من ذلك، معتبرة أن «كورونا يقتل العولمة التي نعرفها» وأن «هذا الوباء يعتبر هدية للقوميين».

تعدّ التبعات الاجتماعية للفيروس أكبر حجماً وأعمق أثراً من آثاره الاقتصادية فمع تزايد حدة انتشاره واستحالة السيطرة عليه حالياً، والحَجْر الصحي، وارتفاع نسبة البطالة، أصبحت حالات القلق والإحباط والاكتئاب والميول الانتحارية شائعة جداً أثناء فترات الإغلاق.

وفي ظل هذه الظروف الاجتماعية، من المتوقع أن تنخفض معدلات المواليد، المتدنية أصلاً، في أوروبا والولايات المتحدة. كما أن تلك المناطق لم تعد تستقبل المهاجرين بالأعداد التي كانوا يفدونها قبل كورونا، وهو ما سيؤدي إلى تناقص سكاني حاد في تلك المناطق ستكون له تبعات حادة مستقبلاً.

في سياق متصل، اتسعت رقعت اللامساواة في العالم بسبب الوباء في مجالات الرعاية الصحية والأمان الاجتماعي والوظائف والتعليم والخدمات الأساسية وغيرها، كما تجلت تأثيراته بشكل أكثر حدة في عدم قدرة الغالبية العظمى من الأنظمة على توفير الحماية الاجتماعية والاقتصادية والطبية للفئات الأكثر تضرراً أو الأكثر هشاشة. وأدى غياب المساواة إلى تضرر فئات أكثر من غيرها مثل العاطلين عن العمل والنساء واللاجئين وذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى وكبار السن، بالإضافة إلى من يعيشون في مناطق نزاعات وصدامات مسلحة أو في دول تشهد انهياراً اقتصادياً.

لكن على الرغم من حدة الأزمة وتداعياتها، فثمة جوانب تدعو إلى الأمل بالخروج من المحنة. صحيح أن ما تسببت به جائحة كورونا من انقطاع عن نظم التعليم لم يشهده التاريخ من قبل، إذ تضرر منها عدد كبير من الطلاب في أنحاء الدنيا بسبب الحجر الصحي، ففي المقابل نجحت دول بتطوير الحلول لدفع عجلة التعليم إلى الأمام. ومن أبرز التطورات على هذا الصعيد كان الاتجاه المتصاعد نحو استخدام التكنولوجيا وتشجيع التعليم عن بُعد بالاعتماد على شبكة الإنترنت، وإنشاء مزيد من البوابات والمنصَّات لمختلف المراحل. وقد أثبتت هذه التحولات فاعليتها وأسهمت في تعزيز قدرتنا على مواجهة الجائحة.

وإذ أدى الوباء إلى إحداث تغييرات جمّة في سوق العمل، فقد دفعت تدابير الحجر الصحي العديد من أرباب العمل إلى التوسّع في استخدام آليّة العمل عن بُعد، أو حتى إلى اعتمادها لأول مرة في مؤسساتهم عن طريق استخدام تقنيات الاتصال لتيسير العمل واستمرارية عمل المؤسسات.

أما من حيث حركة البيع والشراء، فقد شجع الوباء التجارة الإلكترونية من خلال أساليب جديدة في التسوق الإلكتروني الذي بات يؤمّن حتى المواد الغذائية إلى المنازل.

كما أنه، وفي ظل هذا الانهيار والهلع العالميين جراء الوباء، كشفت الأزمة عن جوانب إيجابية في أغلب مناحي الحياة، إذ أسهمت في خلق سلوكيات جديدة كروح التضامن بين الناس وأهمية التواصل والتعاطف مع الآخر –دعم الفقراء مثلاً، والعودة إلى مفهوم العائلة بقضاء وقت أطول مع الأسرة.

والتدابير التي اتُخذت لمعالجة الأزمة، من إغلاق وحظر الطيران وغيرهما، صبت في مصلحة البيئة. وبحسب تقارير، انخفض مستوى التلوث حتى في الدول الصناعية الكبرى وأولها الصين. كما قللت هذه الأزمة ولو بشكل مؤقت من معدلات انبعاث ثاني أكسيد الكربون نتيجة لتراجع النشاط الصناعي في العالم، وبالتالي التخفيف من تلوث الهواء. وفي هذا الصدد، كان الاتحاد الأوروبي قد وَعَدَ بمواصلة دعمه لـ «الاتفاقية الخضراء» وهي استراتيجية نمو تهدف إلى خلق المزيد من فرص العمل والتشجيع على الابتكار، مع العمل على خفض انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والحفاظ على البيئة.

ورغم ما يشكله هذا الوباء من تحدٍّ للعالم ولإنسانيتنا، فإنه يوفر إمكانية إعادة النظر في الكثير من الممارسات والسياسات التي انتهجناها على مر العقود الماضية سياسياً واقتصادياً. فنحن أمام فرصة لإصلاح الاقتصاد والبيئة، ومعالجة أسلوب حياتنا على المدى الطويل، وطرح تساؤلات عميقة عن مستقبلنا في مناحي الحياة كافة.

ولمواجهة التحديات الحالية، ينبغي علينا المضي قدماً كجماعة إنسانية متماسكة، عبر تعزيز التضامن والتعاون الدولي بوضع الخلافات السياسية جانباً، وإسقاط الفوارق العرقية والإثنية والدينية، من الضروري أيضاً تخفيف عبء العقوبات الاقتصادية ووقف الأعمال العسكرية والحروب في المناطق التي تواجه أوضاعاً إنسانية صعبة. بالإضافة ذلك، لابد من إعادة النظر في جميع السياسات التي تؤسس لغياب العدالة، وتعزز قيم المواطنة والثقة بين شرائح المجتمع.

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS