سيناريوهات "المسار المتعرج" للاتفاق النووي
ثمة مؤشرات عدة تنبئ بنجاح محادثات فيينا بشأن الاتفاق النووي، وأن توقيعه بات وشيكاً، مع ذلك لا تزال هناك عدداً من القضايا الجوهرية محل الخلاف بين واشنطن وطهران، وهي القادرة على نسف التفاهمات المُبرمة بين الطرفين سواء قبل توقيع الاتفاق أو بعده.
الكاتب عمر الرداد
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ٢٩/٠٣/٢٠٢٢
تمهيد
تحمل التصريحات الصادرة عن أطراف محادثات فيينا بشأن الاتفاق النووي الإيراني؛ مؤشرات عدة حول فُرص نجاحها وقُرب توقيع الاتفاق، الذي لا يُستبعد الإعلان عنه في غضون الأيام وربما الأسابيع القليلة القادمة، إذ قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس: "نحن قريبون من اتفاق محتمل، لكننا لم نبلغه بعد"، كما توقع مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن الاتفاق بين إيران والدول الكبرى في التوصل إلى آلية لإحياء الاتفاق النووي المبرم في عام 2015؛ بات "قريبا جدا".
وعلى النقيض من تلك المؤشرات وغيرها مما لم يُذكر، تبقى العديد من المُعيقات القادرة على وقف التقدم في المحادثات قائمة، فقد صرح وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في 16 مارس، أن هناك "موضوعان" يؤخران إنجاز تفاهم مشترك بين إيران والولايات المتحدة، وتتحدث تقارير أخرى عن 30% من القضايا التي لا تزال عالقة بين الدولتين. ومن ضمن هذه القضايا والموضوعات ما يُشكل حرجاً بالغاً على المستوى الداخلي والخارجي للدولتين، وقد تكون ذات أهمية في تأخير أو عرقلة التوصل إلى اتفاق.
وبناء على ذلك، تقدم الورقة قراءة في طبيعة المؤشرات والمحادثات الكثيفة بشأن الاتفاق النووي وتستعرض التفاهمات المُحققة والمعيقات القادرة على نسف التفاهمات والسيناريوهات المستقبلية.
تفاهمات بين واشنطن وطهران
من الواضح أن ثمة العديد من التفاهمات التي أجمعت عليها الدول المشاركة في محادثات فيينا، وخاصة في قضيتها الرئيسية بمنع إيران من الحصول على سلاح نووي، والتزامها بنسب محددة لتخصيب اليورانيوم تتوافق مع الأغراض المدنية. وهذا ما ألمح به وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في مؤتمر صحفي مع وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد بأن "إيران لن تمتلك أبداً سلاحاً نووياً".
بينما لا تزال حدود ما تم التوصل إليه من تفاهمات في برنامج إيران الصاروخي، وسلوكها الإقليمي غير مُعلنة أو معروفة حتى اللحظة، وفيما إذا كانت المحادثات قد غطتها وهل يشملها الاتفاق المُتوقع أم لا.
وبالرغم من أن قضايا خلافية عدة لا تزال عالقة، تتجه التقديرات أن نجاح محادثات فيينا مؤكدة، نظراً لحاجة أطرافه المُلحة بإنجاز هذا الملف بحيث أصبح هدفاً استراتيجياً لكل من طهران وواشنطن. فإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تسعى لتقديمه كورقة رابحة تدعم الحزب الديمقراطي قُبيل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي ستجري في الثامن من نوفمبر القادم، في وقت تواجه فيه إدارته تراجعاً ملحوظاً؛ تؤشر لها نسب تأييد الأمريكيين لسياساته الوطنية، والتي وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ توليه الرئاسة بواقع 40% وفقاً لآخر استطلاعات الرأي.
من جهة أخرى، يحتاج بايدن الاتفاق النووي لخدمة متطلبات واشنطن الاستراتيجية في مواجهة كل من الصين وروسيا، وقد أسفرت الأزمة الأوكرانية عن سعي أمريكي في تسريع التوصل إلى اتفاق، في ظل توجهها لتوسيع العقوبات على روسيا وخاصة ما يتعلق منها بصادرات النفط والغاز الروسية.
بالنسبة لإيران؛ التي وصف كبير مفاوضيها، علي باقري كني، مفاوضات فيينا –قُبيل انطلاقها- باعتبارها "المفاوضات التي تستهدف إزالة العقوبات". ضمن حملة "الضغوط القصوى" التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وخلفت أثاراً سلبية على الاقتصاد الإيراني. إذ تأمل إيران على عودة صادرتها من النفط خاصة في ضوء الفرصة السانحة لأسواق النفط العالمية بزيادة الإنتاج، والسعي الأوروبي لإيجاد بدائل عن مصادر النفط الروسي، وتحفظ منتجين آخرين في الخليج "السعودية والامارات" على زيادة انتاج النفط التزاما باتفاقات "أوبك".
عقبات تواجه تنفيذ الاتفاق
يواجه تنفيذ الاتفاق العديد من العقبات على الصعيدين الأمريكي والإيراني، بالاضافة لمواقف الدول العربية وإسرائيل وارهاصات تشكيل تحالف إقليمي مناوئ. غير أن أبرز العقبات التي تشكل قاسما مشتركا لدى كافة القوى المعنية بالاتفاق، أن الاتفاق يأتي في سياقات من عدم الثقة بين أطرافه، من جهة التزام طهران بتعهداتها، أو الحصول على ضمانات أمريكية بعدم الانسحاب منه مرة أخرى. هذا إلى جانب مواجهة الطرفين لمسار داخلي مُعارض، لا يرى في الاتفاق أولوية أو حاجة وطنية.
الولايات المتحدة
تواجه الإدارة الامريكية سيلاً من الاتهامات الداخلية، بالاستعجال في سعيها إبرام اتفاق مع طهران، وقد تزايدت النبرة المُعارضة له في ضوء مؤشرات عدة عن قرب توقيعه، حيث تعهد مؤخراً 49 من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين من أصل 50 على معارضة الاتفاق المنتظر، وفي الوقت نفسه يرفض الكثير من الديمقراطيين العودة للاتفاق النووي السابق. وجدير بالذكر أن الاتفاق النووي الموقع عام 2015 صوت ضده أربع ديمقراطيين في مجلس الشيوخ، ومن ضمنهم زعيم الأغلبية الحالي في مجلس الشيوخ الأمريكي تشارلز شومر.
بالنسبة لهؤلاء وغيرهم، من غير الواضح ما إذا سيمنع الاتفاق النووي المُحتمل بالفعل، إيران من مواصلة برنامجها النووي، لا سيما أنها لم تقدم ضمانات كافية للسماح لوكالة الطاقة الذرية بالوصول إلى مواقعها متى يطلبون ذلك، وقد يُنتج عن الاتفاق ما تطلق عليه POLITICO سيناريو "البيضة والدجاجة"، حيث ترفض إيران العودة إلى الامتثال حتى ترفع الولايات المتحدة العقوبات وترفض الولايات المتحدة رفع العقوبات حتى تعود إيران إلى الامتثال. هذا إلى جانب ما إذا كان الاتفاق النووي سيقيد البرنامج الصاروخي الإيراني أو يُحدد من سلوكها الإقليمي.
في حين تسعى الإدارة الأمريكية لطمأنة الداخل والحلفاء، بأنها تعلمت الدرس من التجربة السابقة عام 2015، حينما وظفت طهران المليارات المُفرج عنها بتطوير برنامجها الصاروخي، ودعم الجماعات المُسلحة في المنطقة.
إيران
ثمة دلالات عدة، تشير إلى أن الداخل الإيراني مُنقسم حول العودة إلى الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة، وبشكل خاص داخل التيار المحافظ الحاكم نفسه. بالرغم من أن الرئيس الإيراني رئيسي، حقق نصره الانتخابي كمُرشح مدعوم من المُرشد الإيراني، تشهد الساحة السياسية في إيران تحركاً لا يستهان به، تقوده شخصيات محافظة وذات إرث ونفوذ سياسي كبير، فقد نشرت وسائل إعلام إيرانية تفاصيل رسالة من سعيد جليلي، ممثل المُرشد علي خامنئي في المجلس الأعلى للأمن القومي؛ إليه – المُرشد – تُعارض محادثات فيينا، وتنتقد فريق المفاوضات الإيراني.
ومن جهة أخرى، لا يُمكن التقليل من هدف الفريق المُفاوض الإيراني بالتمسك بمطالبه؛ رفع الحرس الثوري وفيلق القدس عن قائمة الإرهاب الأمريكية، نظراً للدور الكبير الذي يلعبه الأخير على الساحة الداخلية، وفعاليته في السياسة الخارجية، إلى جانب أن أي ضمانات يُقدمها الفريق الإيراني المُفاوض لتغيير السلوك الإقليمي – إن وُجدت- ، لن تكن كافية؛ ذلك أن جزء كبير من السياسة الخارجية الموجهة للإقليم تجري عبر قنوات لا تتبع للحكومة ويضطلع بها الحرس الثوري بشكل مُباشر، وعلى المنوال ذاته ما يتعلق ببرنامج الصواريخ الإيراني والطائرات دون طيار.
وحتى إن صحت الترجيحات، بأن تخضع التفاهمات حول القضايا سابقة الذكر إلى مُحلق سري، لا يُعلن الطرفين فحواه، فإنه سيوجد مشكلة في الداخل الإيراني، قد تضر في الرواية التاريخية التي ربطت شرعية النظام الإيراني، بالدور الذي يضطلع به الحرس الثوري في أبعاده العسكرية والسياسية والاقتصادية.
الموقف الإقليمي
تخشى دول المنطقة أن إحياء الاتفاق النووي، قد ينعكس على طبيعة السلوك الإيراني في الإقليم، فقد كان واضحاً أن تداعيات الاتفاق المُوقع عام 2015، انعكست بزيادة التصعيد على مستوى المنطقة. وحيث أن دولاً في المنطقة لا تزال متشككة أن مسار مفاوضات فيينا الحالي هو فرصة لتصحيح ما ورد من أخطاء وعيوب في الاتفاق السابق.
وبهذا السياق يُمكن فهم الحراك الدبلوماسي الكثيف الذي تشهده المنطقة، والذي يقرأ ضمنه ارهاصات تشكل تحالف إقليمي في مواجهة إيران ومُعارض لأي اتفاق معها، مثل: اللقاء الثلاثي بين الرئيس المصري ورئيس الوزراء الإسرائيلي وولي عهد أبو ظبي، والاجتماع الرباعي العربي في العقبة الذي ضم جلالة الملك عبد الله الثاني ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، واجتماع النقب الذي ضم وزراء خارجية الولايات المتحدة إسرائيل والمغرب ومصر والبحرين والإمارات العربية المتحدة.
سيناريوهات مستقبل الاتفاق
تتعدد سيناريوهات ما بعد دخول الاتفاق النووي الجديد حيز التنفيذ، أو الإعلان عن إحياء الاتفاق السابق، بما في ذلك احتمالات أن تلتزم أطرافه بمضامينه، بشكل واضح ومحدد سلفاً، أو الإبقاء على التنازلات لما بعد الاتفاق. وفي هذه الحالة، سيستمر الخطاب التصعيدي لطرفيه في واشنطن وطهران، ومن المؤكد أنه سيبقى "اتفاقاً هشاً"، ضمن المعضلة المذكورة سابقاً "البيضة والدجاجة"، وهذا قد يرافقه ارتفاع في الأصوات الداخلية والخارجية المُعارضة للاتفاق، ما قد ينسف التفاهمات المُحققة في فيينا، ويعيده إلى نقطة الصفر.
وحتى اللحظة؛ تشير المعطيات الأولية الصادرة عن المفاوضات، أن إيران تُصر على رفع العقوبات أولاً وثُم الالتزام في حين تريد الولايات المتحدة عكس ذلك، إلى جانب تمسك الأولى بمطالبها رفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب الأمريكية، وهذه المطالب قد تدل على نية إيرانية بمواصلة سلوكها الإقليمي، وتستند على تقدير استراتيجي يُراهن على ضعف الولايات المتحدة، ونقل زخمها العسكري إلى بحر الصين الجنوبي. ويُمكن استنباط تلك النوايا الإيرانية في سلوك الجماعات المُسلحة المدعومة من قبلها، حيث تستمر جماعة أنصار الله الحوثيين في اليمن بالتصعيد داخلياً وخارجياً، وكذلك لا تزال المنشآت الأمريكية في العراق وسوريا عُرضة للهجمات. فيما تنشط هذه الجماعات ضمن مستوى جديد من التصعيد بغطاء من عصابات المُخدرات العابرة للحدود.
وعليه، أنتجت الشكوك العميقة بشأن طبيعة الاتفاق ومضمونه وشموليته، تداعيات حتى قبل إقراره، وأوجدت تحالفين هما:
الأول: تحالف دولي، لم يتشكل بعد، يضم روسيا والصين، إذ أظهرت الحرب الروسية الأوكرانية تحولات جديدة، تشير إلى إمكانية تعويض إيران تعاونها مع روسيا ببدائل أوروبية وحتى أمريكية، في ظل ما تعانيه الأولى جراء العقوبات الغربية المفروضة عليها، بل وقد تستفيد طهران من تلك العقوبات بأن تُشكل بديلاً عن النفط والغاز الروسي إلى أوروبا.
الثاني: تحالف إقليمي، يضم دول الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين، بالإضافة إلى مصر والمغرب وإسرائيل، واستنادا لحسابات استراتيجية فمن المرجح أن تنضم كل من تركيا والأردن والسودان للتحالف في مرحلة لاحقة، قاسمها المشترك استعدادات لمواجهة شكوك بمضامين الاتفاق، بما فيها حقيقة المواقف الأمريكية تجاه حلفائها الاستراتيجيين في المنطقة، وقناعات بأن إيران لن تتوقف عن التدخل في الإقليم من خلال مواصلة دعم الجماعات المُسلحة في المنطقة.
وفي الختام؛ تدل المؤشرات أن العالم سيشهد نجاحاً لمحادثات فيينا، وستفضي جملة التفاهمات بين واشنطن وطهران إلى التوقيع على اتفاق نووي، سواء كان جديداً أو بالعودة إلى الاتفاق السابق.
مع ذلك سيبقى الاتفاق محط شكوك ومُعارضة من قبل جهات داخلية في كل من الولايات المتحدة وإيران، ومن قوى إقليمية، ترى فيه مُقدمة لنشاط إيراني سلبي في المنطقة، مُستغلة التدفقات المالية المُتوقع الإفراج عنها، لتمويل أنشطتها وسياساتها وبشكل يحاكي المرحلة اللاحقة لتوقيع الاتفاق النووي عام 2015.
وبالرغم من النشاط الدبلوماسي الأمريكي في الشرق الأوسط، لتهدئة الحلفاء، وتقديم الضمانات لهم، تبقى المُعارضة الأبرز والأكثر تأثيراً على الاتفاق تأتي من الداخل الإيراني والأمريكي، بل ومن النخب السياسية للأحزاب والتيارات الحاكمة والمعارضة على حد سواء، ما قد يفرض ضغوطاً أكبر على مستوى التنازلات المطلوب تقديمها من كل طرف.
وبالمُجمل، وجدت أطراف محادثات فيينا نفسها محكومة بجملة من المُعطيات الداخلية والخارجية، التي كثفت من جلسات الحوار، وضاعفت من التقديرات المُرجحة لقرب إبرام الاتفاق. في وقت لا تزال قضايا جوهرية عالقة بين أطرافه، يستبعد استثناؤها أو تقديم أي طرف تنازل حولها، بشكل يُرجح أن ما سيصدر هو اتفاق مبدئي يمكن وصفه بـ"الضعيف والهش".
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
عمر الرداد
خبير أمن استراتيجي