سياقات ومآلات تطور العلاقات التركية الإماراتية

تدلل زيارة ولي العهد الإماراتي، محمد بن زايد ولقائه الرئيس التركي رجب أردوغان، على طي صفحة العقد الماضي من العلاقات، التي ساد خلالها التنافس الأيديولوجي والسياسي في العديد من المحاور الإقليمية، وعليه تحلل هذه الورقة مجريات الزيارة وسياقها في ضوء التحولات الأوسع في المنطقة والتغييرات التي طالت شكل العلاقات والتحالفات الإقليمية.

الكاتب عمر الرداد
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ٢٩‏/١١‏/٢٠٢١

 تجسد زيارة ولي العهد الإماراتي، محمد بن زايد إلى تركيا بتاريخ 24 نوفمبر، ولقائه الرئيس التركي رجب أردوغان، أحدث وأبرز الخطوات التي شهدتها العلاقات التركية الإماراتية منذ أن تم التمهيد لها عبر العديد من المؤشرات والتصريحات والمحطات قبل أشهر عدة، وجاءت بدعوة من الرئيس أردوغان وهي الأولى منذ العام 2012، بشكل يعكس تعويلاً تركياً كبيراً وعلى صعد عديدة ما بين سياسية واقتصادية. لا سيما الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين في إطار التعاون الاقتصادي وفي مجال الاستثمار.

وعليه؛ ترنو هذه الورقة للإجابة عن تساؤلات حول الزيارة، بما فيها سياقاتها ومآلاتها ومرجعياتها ما بين السياسة والاقتصاد، والمقدمات التي مهدت لهذه الزيارة والتحولات التي يشهدها الإقليم، لا سيما وأن أنقرة جزء منها، تلك التحولات التي بدأت منذ أشهر عدة، وأظهرت أن المشروع التركي الجديد في الإقليم يواجه صعوبات لن تستطيع معها القيادة التركية على الاستمرار به وبالأدوات والتحالفات نفسها، وأنه لا بد من استدارة جديدة، تتجاوز مقاربة المناورات السياسية و" براغماتية" القيادة التركية، بالتزامن مع صعوبات داخلية تخشى القيادة التركية معها من احتمالات أن تطيح بفرص استمرار حزب العدالة والتنمية بقيادة البلاد.

خلافات سياسية عميقة وحلول في الأفق

تأتي زيارة ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، لتركيا ولقاء الرئيس التركي رجب أردوغان، في سياق التحولات العميقة التي تشهدها المنطقة، والتسويات الإقليمية المتسارعة، وهي بالنسبة للدولتين تظهر عمقاً وإدراكاً بضرورات التكيف الاستراتيجي مع تلك التحولات، لطي العقد السابق من حالة إدارة الخلافات، مقابل النظر فيما توفره فرص التعاون من منافع اقتصادية للدولتين، وبما يُسهم في الحد من محطات المد والجزر بينهما.

مع ذلك لعلنا لا نتجاوز حقيقة أن الخلافات التركية- الإماراتية لم تتوقف عند انحياز تركيا إلى جانب الإسلام السياسي وعنوانه دعم "الإخوان المسلمين"، وتحديداً بعد وصولهم إلى الحكم في مصر، والإطاحة بهم لاحقاً استجابة لمطالب المتظاهرين في 30 يونيو، عام 2013، وعلى المنوال ذاته الدعم التركي المُقدم لحركات الإسلام السياسي في مناطق أخرى مثل سوريا وفي ليبيا وفي السودان، بالإضافة لتونس والمغرب والجزائر وغيرها من الدول الافريقية.

بيد أن المحصلة النهائية للدعم التركي لجماعات الإسلام السياسي، تشير إلى أزمات حادة يعيشها حلفاء أنقرة، وقد تصل إلى درجة يمكن وصفها بالخسائر الفادحة، كما هو الحال في مصر بعد ثورة 30 يونيو، وفي السودان نتيجة لخسارة تركيا حليفها الرئيس السابق عمر البشير، وكذلك القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد، بتجميد البرلمان الذي كان يرأسه راشد الغنوشي، فيما تلوح في الأفق خسارات لاحقة لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا وبشكل مشابه لخسارتهم في المغرب.

ويمكن القول إن هذه العلاقات تسير في اتجاه فك التحالف بين الجانبين، وكانت مقدمة لتحولات تركية مهدت لعودة العلاقات مع أبوظبي، وتفاهمات جديدة مع القاهرة يتم استكشافها في جولات المحادثات بين الطرفين، والمضي قدماً في التقارب والتعاون مع المملكة العربية السعودية، ولعل الإجراءات التي اتخذتها أنقرة ضد المنصات الإعلامية للإخوان المسلمين المصريين، وضبط تحركاتهم ونشاطاتهم من خلال الساحة التركية تظهر جدية التحولات التركية.

وبشكل متزامن، تعرض المشروع التركي للتوسع الجيوسياسي لانتكاسات عدة، خاصة في سياق علاقتها  وموقعها الدولي، فقد قوضت السياسية التركية في مناطق البلقان إمكانيات الشراكة مع أوروبا، واحتمالات انضمامها للاتحاد الأوروبي، فضلاً عن التصعيد التركي في منطقة شرق المتوسط ضد أثينا، في إطار التنقيب عن النفط والغاز، وكذلك تعزيز العلاقات مع روسيا وصفقة صواريخ "S-400" الروسية، كأحد مسببات الخلاف مع واشنطن، والتي أظهرت أن واشنطن تنظر لتركيا بوصفها "حليفاً متمرداً" مقارنة مع إيران التي توصف من قبل واشنطن بأنها "عدو" يمكن التفاهم معه.

وعليه؛ من المؤكد أن الخلافات السياسية بين أنقرة وأبو ظبي في العديد من مناطق الصراع تُعد متشابكة ومعقدة، غير أنها قد تختلف من حيث الأهمية والأولوية عند الدولتين، على سبيل المثال: قد يكون الملف الليبي الأكثر إلحاحاً في الوقت الحاضر لا سيما مع قُرب موعد الانتخابات التي يتنافس بها تيارات محسوبة على الطرفين، فيما سيكون الملف السوري الأقل حضوراً في ظل ارتباطاته الدولية والمتشعبة، إضافة إلى إمكانية التقارب بين أنقرة وأبو ظبي في المواقف تجاه دمشق، خاصة وأن تركيا قد تصبح أقل حدة وأكثر قبولاً  بالرئيس بشار الأسد، إذا ما توفرت لها ضمانات بخصوص استراتيجيتها المتضمنة مواجهة الخطر "الكردي" من الشمال السوري لارتباطه بثوابت تمس بنية الدولة التركية وتشكل من وجهة نظر أنقرة أحد أبرز مهددات أمنها.

إضافة إلى ما سبق؛ لا تزال هناك العديد من القضايا التي تلقي اهتمامها وتحفظاتها بين الدولتين، ولعل أهمها العلاقات الإماراتية الإسرائيلية بعد توقيع اتفاقيات أبراهام، مع ذلك من غير المستبعد أن تشكل أبو ظبي قناة للتواصل بين تل أبيب-أنقرة، خاصة في ظل العلاقات المأزومة بين الدولتين، رغم ما تأكيد أنقرة المتواصل باستمرار علاقاتها الاستخباراتية مع تل أبيب.

وعلى المنوال ذاته، تدرك أبو ظبي وأنقرة حقيقة التحولات في الموقف الأمريكي من طهران، خاصة في ظل بوادر يراها الخبراء وشيكة لتوقيع اتفاق نووي جديد بين إيران والولايات المتحدة والقوى الدولية، وقد يكون أقرب من أي وقت مضى، وهو ما يفسر لقاء الرئيس التركي رجب أردوغان والإيراني إبراهيم رئيسي على هامش قمة رؤساء منظمة التعاون الاقتصادي الـ15، رغم الخلاف في سوريا، ووقوف الدولتين على طرفي نقيض من الصراع الأذربيجاني الأرميني، في حين تخطو الإمارات بسياسة مشابهة تجاه إيران، فقد تناقلت الوكالات الإخبارية زيارة سابقة لمسؤولين إماراتيين رفيعي المستوى إلى طهران، وفي سياق متصل تبقى حقيقة التنسيق مع كل من الإمارات وتركيا حول أي اتفاق نووي جديد غاية في الأهمية في ضوء مكانة وقوة الدولتين في الإقليم، ولكل منهما حساباتها ومصالحها في اطار تداعياتها.

in-2-(3).jpg-التقارب-التركي-الاماراتي.jpg

من هنا، تحتاج العديد من الملفات الخارجية موضع الإهتمام لمزيد من الوقت والجهد لاستيضاح متغيراتها وتحولاتها في مواقف الدولتين، إلا أن الزيارة ستسهم في إنجاز اتفاقيات إطارية، تُركز جُل اهتمامها على الجانب الإقتصادي بشكل يدفع نحو مزيد من التحييد للخلافات السياسية، وهو ما أكدته التصريحات الرسمية حول الزيارة من قبل الجانبين.

الاقتصاد أولاً

يلحظ المتابع للمحتوى الإعلامي الرسمي الصادر عن أنقرة وأبو ظبي أن مساحة المحتوى الإعلامي ذات المضامين الاقتصادية تحتل المساحة الأكبر في ظل الحديث عن أُطر التعاون بين الجانبين بما فيه الاستثمارات الإماراتية المتوقعة في تركيا، مقارنة بالملفات السياسية بينهما، وهو ما يعطي مؤشراً على إدراك الدولتين بأهمية تنمية قواسم مشتركة متفق عليها وتحييد ملفات لا يتحقق فيها التوافق بالمستوى نفسه.

يُذكر أن الزيارة شهدت توقيع تركيا والإمارات لـ 10 اتفاقيات في مجالات عدة، منها مذكرات تفاهم في سياق مكافحة غسيل الأموال ومكافحة الإرهاب وتعاون في مجالات الطاقة والبيئة والشؤون الجمركية والخدمات المصرفية بين الدولتين، ناهيك عن مذكرات التفاهم بين الشركات التركية والإماراتية مثل التفاهم بين الصندوق السيادي التركي وشركتي "ميناء أبوظبي"، و أبوظبي التنموية القابضة، وبين بورصة أبو ظبي وإسطنبول، وغيرها.

in-1-(5).jpg-التقارب-التركي-الامماراتي.jpg

وهذه الاتفاقيات تأتي في وقت يعاني فيه الاقتصاد التركي من أزمات متفاقمة، أبرزها التراجع المستمر في سعر الليرة التركية، بالتزامن مع ارتفاع نسبة الدين العام والتضخم وغلاء الأسعار، حيث تخطت نسبة التضخم وفقا لبيانات تركية ودولية حاجز الـ 20% فيما ارتفعت نسبة الديون التركية بما فيها ديون القطاع الخاص الذي يشكل 65% من الاقتصاد التركي، بالتزامن مع مغادرة شركات استثمارية كبرى لتركيا، هذا بالإضافة إلى ضغوطات ملف الطاقة في تركيا، حيث تستورد تركيا حوالي 90% من احتياجاتها النفطية، وهو ما يشكل عامل ضغط على الاقتصاد التركي.

ونتيجة لذلك، تدرك القيادة التركية أن الاتجاهات المستقبلية على صعيد الأوضاع الداخلية سياسيا واقتصاديا لن تكون في صالح حزب العدالة، واستمرار تفاقم الأزمات الاقتصادية سيؤثر سلبا على فرص حزب العدالة والرئيس أردوغان في الانتخابات القادمة عام 2023، والتي كانت سببا إضافيا لأسباب أخرى في خسارة العدالة لبلديات كبرى من بينها بلديات أنقرة وإسطنبول وإزمير، فيما تبدو المعارضة بوضع أقوى من السابق وتعززت فرصها للإطاحة بالعدالة باستثمار التخبط الاقتصادي وعدم قدرة العدالة على إقناع جماهير الأكراد بالسياسات الإقليمية لحزب العدالة والتنمية، التي خلقت خصوماً لا تخدم سوى استراتيجيات الحزب الحاكم وطموحات الرئيس القومية، في ظل رغبات عميقة للأتراك بالإنضمام إلى أوروبا.

سيناريوهات مستقبل علاقات الجانبين

تتعدد السيناريوهات التي من خلالها يمكن أن تكون عليه العلاقات بين الجانبين ومستقبلها، وهي تتراوح بين سيناريو تجميد الخلافات السياسية والمضي في التعاون الاقتصادي، وهو السيناريو الأكثر ترجيحا، لا سيما وأن أبوظبي بقدراتها المالية واستثماراتها الموعودة في تركيا تشكل إحدى الحلقات المهمة في طوق النجاة للاقتصاد التركي، وتبعات ذلك على فرص حزب العدالة والتنمية في الانتخابات القادمة.

فيما السيناريو الثاني يتعلق ببقاء العلاقات بحدود ما وصلت له من "تبريد" الملفات الساخنة بين الجانبين، دون تحقيق توافقات سياسية وأخرى اقتصادية يمكن تلمسها على الأرض، إذ لا يستبعد أن تنتظر أبو ظبي خطوات أكثر وضوحاً من أنقرة تجاه الملفات الخلافية، لا سيما وأن تركيا ما زالت تناور في ليبيا وتونس وفي اليمن بالإضافة الى سوريا ضمن حسابات تركيا الإقليمية، مع ذلك تجعل الأزمة الاقتصادية والحاجة إلى الحلفاء في تركيا هذا السيناريو أقل حدوثا، إذ تؤكد معطيات عديدة تحولاً تركياً في سياق علاقاتها مع دول المنطقة بشكل عام، لا سيما الرياض والقاهرة، فقد شهدت تلك العلاقات تحسنا ملحوظا انعكس في حقول عدة، من بينها تخفيف حدة الحملات الإعلامية الموجهة والمتبادلة، ومن المؤكد أن التقارب التركي الإماراتي يأتي في سياق متصل مع كل من المملكة العربية السعودية ومصر، نظراً للتنسيق الإقليمي الوثيق بين الدول الثلاث وتزامن خطواتها للتقارب مع تركيا، وهو ما يرجح معه أن تشهد الايام القادمة لقاءات بين المستويات الأمنية والسياسية في أنقرة والرياض والقاهرة، بالتوازي مع الانفتاح المتسارع الذي تشهده تحولات المنطقة والإقليم.

 

 

*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.

عمر الرداد

خبير أمن استراتيجي