دفاعاً عن الإسلام

حملت الشرائع السماوية جميعها فكرة عظيمة تضمنت معنى الوجود الإنساني على هذه الأرض، وهي أن الله تعالى لم يخلق الإنسان عبثاً ولم يتركه سدى، وإنما لغاية محددة ومعلومة، هذه الغاية هي – وكما أخبرنا الله سبحانه في القرآن الكريم – خلافته على الأرض، جاء في سورة البقرة: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾.

الكاتب حسن إسميك
  • تاريخ النشر – ٠١‏/٠٢‏/٢٠٢١

من أجمل ما في الشرائع السماوية وأعظمها أنها رسالة الله للإنسان، يختار الله لإيصالها أفضل خلقه وأكرمهم، وإذا كنا – نحن البشر – نؤمن بالله ونتّبع هداه من طريق الرسل الذين أوحى إليهم وأنزل عليهم كلماته؛ فإن لهؤلاء الرسل طبيعة إيمان خاصة تقوم مباشرة بين الله والنبي بلا وسيط آدمي، وهذا الإيمان المباشر هو ما يمنح الأنبياء (عليهم صلاة الله وسلامه) مكانتهم العظيمة في أي دين سماوي، فأول أركان الإسلام مثلاً هو شهادة أن لا إله إلا الله التي تقترن بها مباشرة شهادة أن محمداً رسول الله، كذلك نجد أن رابع أركان الإيمان الستة اختص بالإيمان بالرسل، أولئك الذين أكرمهم الله بتلقّي وحيه مباشرة من دون وساطة آدمية. 

حملت الشرائع السماوية جميعها فكرة عظيمة تضمنت معنى الوجود الإنساني على هذه الأرض، وهي أن الله تعالى لم يخلق الإنسان عبثاً ولم يتركه سدى، وإنما لغاية محددة ومعلومة، هذه الغاية هي – وكما أخبرنا الله سبحانه في القرآن الكريم – خلافته على الأرض، جاء في سورة البقرة: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾، أما العبادة التي كلّف الله بها الإنسان فهي قوام هذه الخلافة ومنهجها، وبالتالي أرسل له الرسل والأنبياء وأنزل عليهم الكتب والشرائع التي توضح الغاية والمنهج. لذلك كان العامل المشترك بين الديانات السماوية جميعها هو الإيمان بوجود الله ووحدانيته، بحيث أن الديانات السماوية، وإن تباينت في كيفية السلوك التعبدي لله عز وجل وكيفية قيام العبد بواجباته نحوه، فقد بقيت – في الوقت ذاته – ترى أن الإيمان بالله هو جوهر الدين، لأنه أساس معنى الوجود الإنساني وشرط حسن الخلافة.

وقد جاء الإسلام، باعتباره خاتم الشرائع السماوية، ليجمع في أصوله وتشريعاته خلاصة الرسائل السابقة من جهة، ويكملها ويتممها من جهة ثانية، ذلك لأن ما نزل من عند الله قبل الإسلام كان تراكمياً متناسباً مع تطور وعي الإنسان وإدراكه، ثم لما اكتمل الوعي البشري وبلغ المستوى الذي يؤهله لاستقبال آخر الرسالات نزل القرآن الذي جاء فيه بيان الله عزّ وجل: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً﴾، ومن المؤكد والثابت لدى جمهور علماء الدين والعقيدة أن الإسلام لم يأتِ ناقضاً لما سبقه، ولذلك وكما أوردنا، كان الإيمان بالرسل السابقين والكتب السابقة شرطاً أساساً لكمال الإيمان وصحته في العقيدة الإسلامية.

أما دستور الإسلام، وأقصد القرآن الكريم، فيمثل المنهج الصالح والمصلح لكل زمان ومكان، ذلك لأن خطابه عالمي لكل الناس من شتى الألوان والأجناس، فهو منهج الله الخالد الذي يخاطب البشر كافة على اختلاف ألسنتهم، نزل في مكة والمدينة لكن لم ينزل لمجتمعيهما فحسب، وجاء بلسان عربي لكنه لا يختص بالعرب دون غيرهم، وجاء في زمن معين صار تاريخاً مشهوداً وثابتاً منذ اعتماد التقويم الهجري (هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة التي منها بدأ انطلاق الدين نحو العالمية)، لكن أحكامه رغم ذلك لا تنحصر في زمن نزوله فقط، بل هو كتاب الأبد ورسالة العالمين، اتسم بالشمولية وتلبية كل الاحتياجات البشرية، وتعامل مع كل وقائع الحياة المتغيرة، فتضمن في طياته فلسفة العقيدة، وأصول الشريعة وقواعدها في الحلال والحرام، وعالج أدق القضايا كالميراث والأحوال الشخصية والشؤون الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى القضايا الكبيرة كالوجود والسلام والكون والخَلْق. ومن هنا، فإن طبيعة النصوص القرآنية مهيأة للعمل في كلّ زمان ومكان، وهذا من أعظم جوانب إعجاز القرآن الكريم وشموله وكماله.

ومع تأسيس دولة المدينة، وُضعت دعائم أول مجتمع إسلامي متكامل، لم يضم المسلمين فحسب، بل وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، وأعلنت لأجل ذلك "وثيقة المدينة" التي مثّلت أول إعلان تنفيذي يتضمن قواعد ومبادئ السلام والتعايش. واستناداً إلى ذلك، امتلكت المجتمعات الإسلامية التالية تراثاً عريقاً في ممارسة العيش المشترك يقوم على التنوع والتعدد والاعتراف المتبادل ورفض التطرف وإدانة الجرائم التي يتم ارتكابها باسم الدين، وبخاصة أن الدين الإسلامي نادى صراحة بوجوب احترام الأديان الأخرى، وعمل على حماية الآمنين والمسالمين من أتباعها. وقد استطاع الإسلام أن يؤسس لحضارة عريقة مثّلت جزءاً مهماً من الأساس الذي أقام عليه الغربيون حضارتهم المعاصرة. فكانت الحضارة الإسلامية إرثاً كونياً تتشارك فيه جميع الشعوب والأمم التي انضمّت اليها وأسهمت في بنائها وازدهارها، تأسس هذا الإرث على مجموعة الجهود المبذولة من العلماء والمبدعين والقادة، والتي أثمرت نظريات ناجحة في التكنولوجيا والعلوم على مستوى العالم، وكرست نفسها لتسهيل التقدّم والتطوّر؛ حتّى قيل إنه لا توجد حضارة في الوجود قدّمت للبشرية ما قدّمته الحضارة الإسلاميّة. وباختصار، يمكن القول إن الحضارة الإسلاميّة نتجت من تفاعل مجموعة الثقافات الخاصة بالشعوب التي دخلت في دين الإسلام، كما أنها خلاصة تفاعل الحضارات السابقة لوجودها.

ولم يقتصر الإسلام على تنظيم العلاقة بين المسلم وغير المسلم في الدولة الواحدة، ولكن تطرق أيضاً إلى تحديد المبادئ والأسس التي تقوم عليها العلاقة بينهما من جهة، وبين غير المسلمين والدولة الإسلامية، من جهة أخرى، وهي علاقة بُنيت على التسامح والاعتراف المتبادل والثقة والاحترام، حتى بلغ بعض غير المسلمين مكانة عظيمة في كنف الدول، فكان منهم الوزراء والأدباء والفلاسفة والعلماء الذين غلبت مواطنيتهم الإسلامية على إيمانهم العقائدي، فكانوا رغم عدم إسلامهم عناصر مؤثرة وفاعلة في الحضارة الإسلامية. وما تحقق هذا إلا لأن الإسلام في جوهره دين تسامح ومحبة وسلام، لا يتعامل بأسلوب الغلظة والشدّة وإنما يأخذ الجميع بالرّفق واللّين والعفو عند الإساءة. كما أنه الدين الخاتم الذي ارتضاه الله تعالى للبشرية جمعاء، والرسـالة التي جاء بها محمد هي لكل نفس بشرية، لا فرق بين الناس في أي شكل من أشكال التمييز والتفرقة. وقد وصف الله تعالى رسوله المبشر بهذا الدين بأنه الرحمة المهداة من الله للعالمين، وقال له في كتابه العزيز: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.

وما أريد قوله هنا بعد هذا الإسهاب في الحديث عن عظمة الإسلام وعلوّ قيمه ونقاء مبادئه، أنه ورغم ما تعرّض له هذا الدين من هجوم عليه، ومحاولة تضليل الناس وحَرْفهم عن صراطه المستقيم، فإنه باقٍ ومستمر بالقوة والمنعة نفسيهما اللتين خصّه الله بهما، عبر الحفظ الإلهي لدستوره (القرآن الكريم)، لذلك فإن الإسلام كدين سيبقى عصياً على النيل منه وإطفاء نوره إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أما ما رأيناه في بعض مفاصل التاريخ وما نراه اليوم من انحسارٍ لدور الإسلام في الحياة الإنسانية، أو ضعفٍ أصاب بعض مجتمعاته، فمردّ هذا كله إلى ضعف المسلمين أنفسهم لا إلى ضعف الإسلام بحد ذاته. وبناءً على هذه المسلّمة (ليس ثمة دين ضعيف بل ثمة أتباع ضعفاء) فإنني كثيراً ما أتأمل في مقولة الدفاع عن الإسلام والحض على الذود عنه، وفي الشبهات والأخطاء التي يمكن أن تتضمنها الدعوة إلى نصرة هذا الدين العظيم، والتي أدت ببعضهم إلى الإساءة للإسلام وجمهور المسلمين، حين تجاوزوا في "دفاعهم" ما دعى الدين الحنيف إليه وحضّ عليه، ونسوا أو تناسوا وصية الله لرسوله: ﴿ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾، فانحرف الأمر نحو الإرهاب الذي نرفضه نحن المسلمون أنفسنا، قبل أن يرفضه العالم أجمع. ولا شك في أن هذا الانحراف أدى إلى انتشار الرهاب من الإسلام، أو ما بات يُعرف بالإسلاموفوبيا التي لم تخدم الإسلام ولا المسلمين في شيء.

فهل الإسلام هو المسؤول حقاً عن الإرهاب؟ أم أن الإرهاب بشقيه الإجرامي والفكري، والمستمد من التفسير المغلوط لآيات القرآن، هو أحد أبرز أسباب تشكل الصورة المشوّهة عن الإسلام؟ إن كل الفرق والجماعات المسلحة التي استعملت العنف والإرهاب رافعة رايات دينية، هي جماعات آثمة فكرياً وعاصية سلوكياً، تتعارض مع صحيح الدين، وتسيء إلى الإسلام الذي هو دين السلام. وعندما نجد من هو مقتنع بأن انتصار الإسلام وخلاص المسلمين يكون بزوال الغرب وانتشار الفتنة في ما بينهم واقتتالهم، فحينها نعلم يقيناً أننا لا نطبق من الإسلام شيئاً. وعليه، فإن الفهم الخاطئ للدين هو أحد الأسباب المهمة في الاتجاه نحو التطرف، لأن ديننا الحنيف دين سلام وليس سلوك قتل وإرهاب.

وباعتقادي، فإن أهم مسلمات الدفاع عن الإسلام تكمن مباشرة في الالتزام الصحيح به، وفي تمثُّل أخلاق رسولنا الكريم، والتحلي باتّباع سنّته، أما سلوك أشباه المتدينين من الأصوليين الذين يصدرون الفتاوى المتطرفة التي لا علاقة لها بروح الإسلام ومقتضيات العصر، فما هو إلا نشر صورة خاطئة عن الإسلام، اقتصرت على بعض الشكليات دون الجوهر، وأدت إلى انتشار ثقافة التكفير البائسة والعنيفة، بعيداً من التدين الحقيقي الذي يؤدي إلى التعايش بين القلوب والتسامح بين النفوس. ما يدعو للأسف البالغ أن الإساءة للإسلام جاءت – في جزء منها – من توهم الدفاع عنه، فالإرهابيّ الذي يفجّر نفسه أو يقتل غيره يستشهد بآياتٍ وأحاديث يعترف جميع المسلمين بقداستها وأهمّيتها في الموروث الإسلاميّ، ولكن تفسير هذه الآيات بشكل حرفيّ ومُجتزأ عن سياقه هو ما أدّى إلى ظهور الشراذم والغوغائية والتطرف والتعصب، وما "داعش" و"القاعدة" ... وغيرهما من التنظيمات إلا مجرد انحراف وشذوذ، ويكفي أن ننظر في أعدادهم التي لم تتجاوز الآلاف لندرك أنهم ضالّون مُضلّون لا يمثلون سوى شيء هيّن بالنسبة الى تعداد عموم المسلمين في العالم. 

وما زلتُ أرى أن الذي يضعف ويتشوه هم المسلمون وليس الإسلام، فالدين غير قابل للتشويه بعد أن أكمله الله سبحانه، ووعد بحفظه عبر حفظ أساسه المتين وعصبه القويم – القرآن الكريم ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. وما فكرة تقسيم الإسلام إلى يمين ويسار ووسطي معتدل وأصولي متشدد وجهادي إرهابي إلا واحدة من الأفكار الهدامة التي يراد منها محاربة الإسلام وتشويهه، فالإسلام دائماً وسطي معتدل، وما التشدد والإرهاب إلا إنكار له وخروج عنه.

واليوم، نحن بأمسّ الحاجة للرجوع إلى القيم الإسلامية وإظهار الصورة الحقيقة للإسلام، ذلك عبر التمسك بقيم التسامح والمحبة والسلام والتعايش وروح الوسطية (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) تقبّل الآخر ولا تعرف التشدد ولا الغلو وهذا جوهر ما نادى به الدين ودعا إليه، لنستطيع الدفاع بالإسلام عن أنفسنا كمسلمين، لا أن ندافع عنه. وقد أجمع الأئمة من قبل على أن سلوك المسلم الملتزم هو بحد ذاته دعوة إلى الله وإلى الإسلام، وهذا ما انطلق منه الصحابة لنشر الرسالة في الأرض، فدخل الناس في دين الله عن إعجاب ورغبه عبر رؤيتهم سلوك المسلمين ومعاملتهم.

أخيراً، أذكر أني سألت ذات مرة أحد من نظنهم من عباد الله الصالحين، وهو إمام صوفي شامي مشهود له بالورع والتقوى وحسن الرأي، عن كيفية تمييز أولياء الله الصادقين عن سواهم من المدّعين أو المتخفّين بمظاهر الإسلام، فأجابني بجواب ما زلت اعتبره معياراً لي حتى اليوم، وقال: (إن الهداية من الله نور لا يمكن حجبه، ولذلك فأولياء الله هم الذين إذا رأيتهم سارعت إلى ذكر الله، بهم يُتم الله نوره ويصلح خلقه، فبهم اقتدِ).

 

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS