حروب العملات الدولية وآثارها على الدول العربية

تقدم الورقة قراءة في مفهوم "حرب العملات" كأحد الأدوات الاقتصادية التي توظفها الدول في إطار التنافس فيما بينها، وانعكاساتها على الدول العربية التي تربط بعض منها عملاتها بالدولار، ونظراً لكون النظام العالمي يتجه لمزيد من مظاهر المُنافسة، كما في الأزمة الأوكرانية، وتداعياتها على الدول العربية، تطرح الورقة مجموعة من الإجراءات الرامية للتقليل من الأثار السلبية للأحداث الدولية على الاقتصادات العربية.

الكاتب سمر عادل
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ٢١‏/٠٤‏/٢٠٢٢

مقدمة

يمر النظام العالمي بمجموعة من التغيرات والتحولات السياسية والاقتصادية، تُعبّر عنها محاولات القوى الكبرى خلخلة مقومات القطب الأحادي الأمريكي، مستخدمين فى ذلك أدوات عدة، يأتي الاقتصاد في مقدمتها.

حيث تُمنح الدول ذات الاقتصادات القوية الفرصة لتأكيد سيادتها، وتمتلك القدرة على فرض هيمنتها ونفوذها. لكن ما يشهده عالم اليوم، أن تلك القوى مثل الصين وروسيا، تخطو بخطوات جادة وناجحة أحياناً، لتأكيد مكانتها العالمية، في إطار من المنافسة الدولية، وتلك الخطوات يُنظر لها في واشنطن والعالم الغربي عموماً، باعتبارها تهديداً لأركان النظام العالمي المُرتكز على الهيمنة الغربية.

وتتجاوز المنافسة بين القوى الكُبرى، عتبة "المُنافسة التامة" التي تقوم على أساسها منظمة التجارة العالمية، ويتجلى ذلك بوضوح في الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، وفي تداعيات العقوبات الغربية على روسيا جراء عملياتها العسكرية في أوكرانيا، في محاولة لاستنزاف اقتصادها، والحد من طموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لتأكيد بلاده كقوة عالمية، وبين ثنيات هذه المُنافسات تبرز بالتبعية "حرب العملات" كجزءٍ أساسي وهام منها.

وقد برز هذا الجزء، بشكل واضح مؤخراً، ضمن مرحلة جديدة وحديثة من الحرب في فضاء العملات، بعد أن قررت روسيا ربط عملتها بالذهب في سياق ردها على العقوبات، ووظفت أداة الدفع بالروبل مقابل صادراتها من الغاز للدول "غير الصديقة" بالنسبة لها، وكشفت أن مشتري الغاز الروسي تحولوا بالفعل للدفع بالروبل، وفي خضم تلك الإجراءات؛ ارتفع سعر صرف الدولار واليورو أمام الروبل الروسي في بورصة موسكو بعد أن كانت العملتان الأمريكية والأوروبية قد سجلتا تراجعا مقابل العملة الروسية، حيث ارتفع سعر صرف الدولار من 3.52 روبل إلى 79.45 روبل، فيما صعد سعر صرف اليورو من 3.24 روبل إلى 85.96 روبل.

كل ذلك يعيد إلى الأذهان ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية عام 2018 بفرض رسوم جمركية على بعض السلع الصينية، من أجل حماية الصناعات الوطنية وعلاج العجز التجاري بينها وبين الصين والذى تشير التقديرات بأنه تجاوز 500 مليار دولار، ولكن ما يتوارى وراء هذه الإجراءات هو الحد من النفوذ الصيني والذى أصبح ينافس نفوذ الولايات المتحدة على المكانة الأولى، والتي لا تقتصر آلياتها على فرض الرسوم الجمركية، بل تجاوز ذلك إلى شكل آخر من الحروب والتي ترتكز أدواتها على العملات.

قراءة فى حرب العملات وواقعها

من البديهي القول، إن الدولار لا يزال العملة المسيطرة حتى الآن، فقد حظي بأكثر من 88% من معاملات الصرف الدولية في العام 2019 وفقاً لبنك The Bank of International Settlements، فى حين يحتل اليوان المرتبة الثامنة بنسبة تبلغ 4.3%، كما يسيطر الدولار على احتياطات العملات العالمية، بنسبة 60%.

مع ذلك، تمتلك الدول المُنافسة للدولار، مثل الصين، أدوات أخرى لتحقيق الاستقرار في اقتصادها، وأهمها تخفيض عملتها المحلية، لإضعاف العملات الأخرى أمامها، وهذه الإجراءات لها تداعياتها حال اشتدت المُنافسة، التي قد تؤدي إلى تغيير في ديناميكيات ومعدلات سعر الصرف، والتأثير على النظام التجاري الدولي، الأمر الذي سيؤثر بطبيعة الحال على الدول العربية، التي تربط معظمها عملاتها بالدولار بشكل أساسي، ويجعلها تشعر بالتقلبات في الاقتصاد العالمي.

ولعل أهم تلك الإجراءات، تتمثل في تدخل الحكومة الصينية بتحديد سعر صرف عملتها أمام الدولار، في محاولة منها للحفاظ على قوة الدولار وإضعاف اليوان بشكل أو بآخر؛ عن طريق شراءها لحوالي تريليون دولار، الأمر الذي يزيد من سيولة تدفقات السلع الصينية للأسواق العالمية، حيث حفاظها على قيمة منخفضة لعملتها – تحفاظ على نسبة (25 – 40%) يعود عليها بمردود إيجابي لنمو اقتصادها، وينعكس بزيادة مستويات الإنتاج والدخل، ويمنح سلعها وصادراتها ميزة تنافسية في الأسواق العالمية نظراً لانخفاض قيمتها. في المقابل يؤدي تراجع قيمة اليوان إلى ارتفاع في أسعار الواردات الصينية، ولذلك تأثير في زيادة معدلات التضخم، وسعي المستثمرين إلى وجهات أخرى.

ولار.jpg

ولا تقتصر حرب العملات بين اليوان الصيني، والدولار الأمريكي، حيث ترتبط باليورو أيضاً، بسبب الثقل الوازن للاتحاد الأوروبي بدوله العشرين، في حركة التجارة العالمية، وتوفره كعملة ذات قيمة للاحتياطات الأجنبية، حيث أن ما يقرب من ثلث إجمالي الأوراق النقدية باليورو يُحتفظ بها خارج الاتحاد الأوروبي، وبالتالي يُعد اليورو قريبًا من الوزن النسبي للدولار فيما يتعلق بمدفوعات المعاملات، بالرغم من أن معظم السلع مثل النفط والقطن يتم تسعيرها بالدولار.

وهذه الديناميكيات، تجعل من اتخاذ الدول لسياساتها النقدية، أمراً ذا قيمة يُتخذ بحرص شديد، نظراً لارتباط السياسة النقدية، في الكيفية التي يتشكل بها الاقتصاد العالمي، وتأثيراتها على العملات وقيمتها، وتحديد مستوى التنافس حولها، الأمر الذي يُخلف تداعيات اقتصادية لا يُمكن التغاضي عنها حال اشتدت المُنافسة.

تداعيات حرب العملات على الدول العربية

تتأثر اقتصادات الدول العربية، بوجه عام في التنافس الدولي الاقتصادي وعلى مستوى العملات أيضاً، فمعظم الدول العربية تربط عملاتها الوطنية بالدولار، وقد كان للحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، والإغلاقات المُرتبطة بجائحة كوفيد-19، أثراً واضحاً في اقتصادات الدول العربية.

يظهر ذلك في مجموع الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجاریة للدول العربیة الذي بلغ حوالي 2432 ملیار دولار عام 2020، وهو ما يعني انكماشًا بنسبة 11.5%،  بالمقارنة مع عام 2019.

يعزى هذا الانكماش إلى الحرب التجارية، التى ألقت بظلالها على سعر الصرف وارتداداتها على الديون، وعلى حركة التبادل التجارى وميزان المدفوعات. وهو الأول من نوعه بعد الأزمة المالية العالمية 2008، وتقدّر حجم الخسائر في الناتج المحلي الإجمالي في الدول العربیة عام 2020 بحوالي 221 ملیار دولار -بالأسعار الثابتة لعام 2015-، والجدول التالي يعكس تطور الناتج المحلى الإجمالي لبعض الدول العربية:

تطور-ناتج-الاجمالي-المحلي-لبعض-الدول-العربية.jpg

يتضح من الجدول، أن العديد من الدول العربية، حققت معدلات نمو سالبة، بالتزامن مع الحرب التجارية الأمريكية-الصينية، والإغلاقات المحلية والعالمية التي صاحبت جائحة كوفيد-19، وبينما تمكنت بعض الدول العربية من التعافي وتحقيق معدلات نمو إيجابية، جاءت الأزمة الأوكرانية لتعيد إلى الأذهان انكشاف الاقتصاديات العربية على التحولات والتغيرات القريبة والبعيدة منها.

ولعل أولى تداعيات الأزمة الأوكرانية، اتضحت في تأثر سعر صرف العملات العربية جراء التغيرات في الدولار الذي يواجه اضطرابات عدة نتيجة للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، فأغلب الدول العربية تربط عملتها بالدولار. يعني ذلك أن أي ارتفاع أو انخفاض في قيمة الدولار، سينعكس على العملات الوطنية العربية. فبعد أن رفع الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة بمعدل 0.25، وبنسبة 100%، استجابت بعض الدول العربية بتغيير مماثل في سعر الفائدة لديها، ومنها مصر التي هبت عملتها بحوالي 16% مقابل الدولار. كما قامت كثير من الدول الخليجية برفع سعر الفائدة، بمقدار 0.25% مثل السعودية والإمارات، ويوضح الشكلين التاليين التغير السنوي في أسعار صرف بعض العملات العربية مقابل الدولار الأمريكي، ومقابل اليورو في عام 2020 في متوسط فترة (2016 : 2020) وذلك كالأتى:

التغير-السنوي-في-صرف-بعض-العملات-مقابل-الدولار-واليورو.jpg

 

ويظهر الشكلين، تأثر متوسط أسعار صرف العملات العربية بالسلب، سواء مقابل الدولار أو اليورو، في إطار التنافس الدولي بين الصين والولايات المتحدة، وتداعيات حائجة كوفيد-19، وقد شهد الجنيه السوداني أكبر نسبة انخفاض في قيمته مقابل الدولار بنسبة تزيد عن 71%، وهو ما ينطبق أيضًا عليه مقابل اليورو، ولهذا التراجع دورًا أساسيًا في ارتفاع مستوى أسعار السلع والخدمات والتي في الأساس تواجه تضخم وقد يصل إلى "تضخمًا ركوديا".

علاوة على ذلك، يؤثر سعر الصرف في حركة الصادرات والواردات العربية، ومن ثّم الميزان التجاري وميزان المدفوعات. وقد شهد النصف الأول من عام 2021 تحسنًا في أداء التجارة الخارجية مقارنة بالعام 2020، حيث سجلت الصادرات غير النفطية خلال النصف الأول من العام 2021 زيادة بنسبة 32.2% مقارنة بالعام الذي سبقه، وارتفعت قيمة الصادرات محلية المنشأ بنسبة 45.4%، في حين ارتفعت الواردات التجارية غير النفطية محققة نموًا قدره 4.9% على أساس سنوي. وأدت نتائج حركة التبادل التجاري خلال هذه الفترة إلى تحسن الميزان التجاري غير النفطي، حيث انخفض العجز التجاري بنسبة 38.5% مع نهاية النصف الأول من العام، وفقاً لبيانات صندوق النقد العربي. ويوضح الشكل التالى معدل نمو الصادرات والواردات لبعض الدول العربية في عامي 2020، 2021.

معدل-نمو-الصادرات-والواردات-لبعض-الدول-العربية.jpg

ويتضح أن صادرات المنطقة العربية عام 2019، بلغت تريليون دولار تقريبًا بما يمثل 5% من حجم الصادرات العالمية، في حين بلغت وارداتها 828 مليار دولار أي 4.4% تقريبًا من حجم الواردات عالميًا، وتمثل كلا من الصين والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي، أساس حركة التبادل التجاري مع الدول العربية، وفقاً لبيانات اللجنة الاقتصادية لغربي آسيا (الأسكوا).

ونجد تأثر الصادرات أو الوادرات العربية، سواء كانت نفطية أو غير نفطية، بالحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، قبل أن تبدأ المعدلات بالارتفاع عام 2021، وليس الاستثمار ببعيد عما يحدث، فقد شهد حجم الاستثمار الأجنبي في العام 2020 تراجعاً ملحوظاً، حيث بلغ 616 مليار دولار بعد أن كان 999 مليار دلاور عام 2019، ذلك يعني تراجع فى دخل الأفراد ودوران رأس المال والنقد الأجنبي ومن ثّم تراجع فى معدل النمو، وزيادة معدلات الفقر والبطالة.

 تطور-مشاريع-الاستثمار-الاجنبي-المباشر-في-بعض-الدول-العربية.jpg

طرق الوقاية وسياسات محتملة

ستختلف طرق وقاية كل دولة وفقًا لمعطياتها الداخلية وعلاقتها الاقتصادية مع العالم الخارجي، من خلال

1- أن تعمل الدول العربية على تنويع هياكلها الاقتصادية، لأن ذلك يشكل الأساس فى حماية الدولة من تقلبات النظام العالمي وتغيرات ديناميكاته، وقد أظهرت الدراسة أن الدول التي تعتمد على سلعة واحدة فى هيكلها الاقتصادي بشكل كبير، هي الأكثر عرضه للصدمات.

2- على الدول العربية أن تبدأ بعمل أكثر من خطة بشكل متوازٍ ومتقاطع أيضًا، من خلال تنشيط سوق الصرف وإدارة احتياجات الصرف الأجنبي برشد وعقلانية، وإعادة هيكلة الواردات حتى لا تمتص النقد الأجنبي، فضلًا عن تنويع العملات الأجنبية المكونة لاحتياجات الصرف، مع مراعاة أن النظام العالمي يمر بأزمات فى بنيته من حين لآخر، وهو ما يجعل العملات تتعرض لتقلبات شديدة.

3- فتح آفاق استثمارية واقتصادية وتجارية جديدة أمام الأسواق العربية، وخاصة في المناطق والقارات المتعطشة للاستثمارات. والتي تمنح مزايا نسبية، وتقع في موقع متقدم من المنافسة بين الدول الكُبرى، كما هو الحال في القارة الأفريقية، وأمريكا اللاتينية.

4- آن الأوان أن تعمل الدول العربية على تحقيق تكامل بين اقتصادياتها، وتعمل على الاستفادة من المزايا النسبية لديها، وبشكل مماثل للاتحاد الأوروبي، يُمكن أن يشمل التكامل مستقبلاً على عملة مُوحدة، تكتسب قوتها مع الوقت، وتصبح منافساً في السوق العالمية.

5- في إطار النقطة السابقة، يمكن أن تقوم هذه الدول بعمل إجراءات متسقة تحد من القيود المفروضة على الصادرات والواردات، وتحديدًا فيما يتعلق بالمواد الغذائية ومدخلات الإنتاج التي تحتاج إليها السلع الرئيسية.

6- تعزيز مستوى مرونة صرف العملة الوطنية، لرفع كفاءتها في امتصاص واستعياب الصدمات، فتعديل سعر صرف العملات المحلية، يُمكن من إعطاء مرونة في إعادة توجيه الموارد الاقتصادية باتجاه يُخفف من تداعيات الهزات والأزمات الاقتصادية.

وأخيراً؛ يحتاج التعامل مع سوق الصرف الأجنبي، إلى إجراءات فعالة وسياسات واقعية، تُدرك أهمية منح العملة السيولة والتحرير المُناسب ودعمها في وقت الحاجة، مع إدراك أهمية العوامل الخارجية، وفي المقام الأول منها، سعر صرف عملة اليوان الصيني، التي لها صلة مباشر بالتنمية الصناعية في الدول العربية، كما لا بدّ من إدارك ضرورة التوجه إلى الأسواق ذات الجودة والتكلفة المنخفضة نسبيًا، التي تمنح الاقتصادات العربية ميزة تنافسية، على صعيد الإنتاج، وبالتالي تزيد قدرتها على التوسع في الأسواق العالمية، وستعزز القاعدة الإنتاجية لديها، ليحقق لها ذلك مزيداً من النمو الاقتصادي.

ولعل أكثر ما تحتاجه الدول العربية، هو التعاون والتكامل الفعلي، ووضع الاقتصاد في مقام يسمو على السياسة وطبيعتها الخلافية، والتركيز على المصلحة المشتركة، وتعظيم المكاسب الاقتصادية، وعليه؛ يتعين العمل بآليات اقتصادية واستراتيجة واضحة الأهداف والنتائج، وتشجيع المستثمرين العرب على الاستثمارات المحلية والعربية، وتقديم التسهيلات لهم، والعمل أيضًا في مشاريع تكاملية إنتاجية مشتركة، وإقامة المناطق الوجستية لتسهيل حركة النقل والعبور، لتعزيز التبادلات التجارية العربية العربية.

*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.

سمر عادل

باحثة في الاقتصاد الدولي