جولة ماكرون في الخليج: ما الدوافع؟ وهل تؤثر نتائجها على الشراكة الأمريكية؟
تقدم هذه الورقة قراءة للأبعاد الاقتصادية والجيوسياسية، في جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر، حيث لوحظ تنامي اوجه الشراكة الاستراتيجية الخليجية الفرنسية بشكل يثبت مكانة باريس كلاعب استراتيجي رئيسي، ويؤكد تعريف الدول الخليجية كشركاء لا غنى عنهم. وعليه؛ تسعى الورقة للإجابة عن التساؤلات الأبرز؛ ما هي دوافع الزيارة وكيف ستؤثر على الشراكة الأمريكية - الخليجية ؟
الكاتب محمد برهومة
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ١٢/١٢/٢٠٢١
على مدى يومين، في الثالث والرابع من الشهر الجاري، قام الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بجولة خليجية زار فيها دولة الإمارات ثم دولة قطر فالمملكة العربية السعودية. ومع النجاح التجاري الكبير الذي حققته الجولة بالنسبة لفرنسا، فإن الأبعاد الاستراتيجية والسياسية كانت حاضرة بقوة؛ حيث يريد ماكرون أن يرفع من مكانة بلاده كلاعب مهم في الشؤون العالمية، وكقائد أساسي في الاتحاد الأوروبي. ولطالما دعا ماكرون إلى ما يسمى "الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي"، وهي دعوة تكتسب راهنية متجددة مع استعداد باريس لتسلّم القيادة الدورية للاتحاد الأوروبي في الربيع المقبل، كما أنه يرغب في أن تكون قيادته للاتحاد ورقة انتخابية رابحة لصالحه في حملته الرئاسية في مايو 2022.
وحتى في الجهد الدبلوماسي الذي بذله ماكرون لحلحلة ملف الأزمة بين لبنان ودول الخليج، خصوصاً بعد استقالة وزير الإعلام جورج قرداحي،" فقد نقلت "فايننشال تايمز" عن مسؤول إقليمي قوله "مع الانتخابات الفرنسية المقبلة، من المهم بالنسبة لماكرون أن يحرز تقدمًا في هذا الملف".
وتحاول فرنسا تعزيز أدوارها في الشرق الأوسط في ظل التغيّر في طبيعة أدوار وأولويات الولايات المتحدة الأمريكية حيال المنطقة، وفي ظل تنامي أدوار موسكو وبكين في الإقليم.
وكانت السعودية اتفقت مع فرنسا، خلال زيارة ماكرون، على ضرورة قيام الحكومة اللبنانية بإصلاحات شاملة في قطاعات المالية والطاقة ومكافحة الفساد ومراقبة الحدود. وجاء في بيان مشترك بعد زيارة الرئيس الفرنسي أن الرياض وباريس اتفقتا أيضاً على إنشاء آلية مشتركة للمساعدة الإنسانية للتخفيف من معاناة الشعب اللبناني.
وفي قطر، التي كانت المحطة الثانية لماكرون، شكر الرئيس الفرنسي دولة قطر على المساعدة التي قدّمتها لتنظيم عملية إجلاء 258 أفغانياً عبر الدوحة نحو فرنسا، كانوا مهدّدين في بلدهم بعيد سيطرة حركة طالبان بسبب صلاتهم بباريس.
وقال ماكرون إن دولاً أوروبية عدّة تعمل على إقامة بعثة دبلوماسية مشتركة في أفغانستان من شأنها أن تمكّن سفراءها من العودة إلى البلاد. وأضاف ماكرون للصحفيين في العاصمة القطرية الدوحة أن هذه الخطوة ستتم في أقرب وقت ممكن، لكنه أكد أنهم لن يعترفوا بحركة طالبان، التي سيطرت منذ أغسطس 2021 على مقاليد الحكم في أفغانستان.
صفقات متنوعة تعكس الثقة بالشريك الفرنسي
جولة الرئيس ماكرون في الإمارات وقطر والسعودية ثبّتت مكانة باريس كلاعب استراتيجي رئيسي لدى حلفائه الخليجيين. وفي ظل بعض التباسات العلاقة الخليجية-الأمريكية في بعض الصفقات الدفاعية، بدت باريس كشريك دفاعي موثوق وكـ"عامل توازن". ومع ذلك ينبغي عدم المبالغة؛ إذْ إن الشريك الأمريكي يبقى لا غنى عنه لدول الخليج.
في سياق متصل، لوحظ التنامي في أوجه الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع فرنسا؛ من خلال مِروحة الاتفاقات والصفقات المتنوعة التي عقدتها باريس في هذه الجولة مع الإمارات والسعودية، خصوصاً. شملت هذه الاتفاقات والصفقات مجالات عسكرية وتجارية وغيرها، ومن ذلك:
- بعد لقاء ماكرون مع ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، أعلنت الحكومة الفرنسية أن الإمارات ستشتري 80 طائرة مقاتلة من طراز رافال من إنتاج شركة داسو للطيران و 12 طائرة هليكوبتر عسكرية من طراز كاراكال من شركة إيرباص. وقالت فرنسا إن العقدين تبلغ قيمتهما أكثر من 17 مليار يورو (نحو 19 مليار دولار). كما اشترت الإمارات طائرات مروحية ومعدات؛ في عقود إضافية بلغت قيمتها 3 مليارات دولار. وتهدف هذه الصفقة التي سيتم تسليمها بين 2027 و2031، إلى استبدال 60 طائرة من طراز "ميراج 2000-9" الفاعلة في الخدمة منذ عام 1998. وقالت الشركة المصنعة داسو للطيران إن الإمارات تشتري النسخة المحدثة من طراز F4 من طائراتها القتالية متعددة المهام رافال. وذلك سيجعل من سلاح الجو الإماراتي أول مستخدم لهذا الطراز خارج فرنسا.
- أعلن الصندوق السيادي الإماراتي "مبادلة" عن اتفاقيات اقتصادية شاملة بين الدولتين تقدر بأكثر من 15 مليار يورو، موقعة بين الشركات الإماراتية والفرنسية، بهدف تعزيز الاستثمارات الاستراتيجية بين البلدين.
- أعلنت شركة إيرباص في بيان عن اتفاقية مع شركة الطائرات المروحية السعودية، لتوسيع أسطولها بشراء 26 مروحية، منها عشرون من طراز " H145" وست طائرات من طراز "H160".
- أعلنت شركة "فيوليا" الرائدة عالمياً في مجال المياه والنفايات، عن منحها عقداً من شركة المياه الوطنية السعودية، لإدارة خدمات مياه الشرب والصرف الصحي في الرياض و22 مدينة مجاورة. ويمتد العقد لسبع سنوات، بعائدات تبلغ 82.6 مليون يورو، إضافة إلى "اتفاق شراكة استراتيجية" مع وزارة الاستثمار السعودية وشركة نقل وتقنيات المياه "لتحسين الأداء التشغيلي والتجاري وفي مجال الطاقة لقطاع المياه في أنحاء البلاد"، إضافة إلى توسيع روابطها مع مجموعة أرامكو السعودية النفطية العملاقة. فقد أصبحت المجموعة الفرنسية "الشريك الحصري" لأرامكو في معالجة نفاياتها الصناعية والعادية، أي 200 ألف طن سنويًا تُضاف إلى 120 ألف طن من النفايات الخطرة التي تتكفّل بها أصلًا فيوليا.
- وأعلنت شركة أرامكو عن توقيعها خمس اتفاقيات مع شركات فرنسية، من بينها واحدة مع جاوسين لاستكشاف أعمال سيارات تعمل بالهيدروجين.
الدلالات والدوافع
لدى البحث في دوافع الرئيس الفرنسي من هذه الجولة الخليجية، وما تركته من تأثير في صورة المشهد الإقليمي، يمكن الحديث عما يلي:
1. يمثل شراء سرب ضخم من طائرات رافال المحدّثة خطوة كبيرة للقدرات العسكرية لدولة الإمارات العربية المتحدة في منطقة الخليج الغنية بالنفط والغاز. ونقلت "أسوشيتدبرس" عن تشارلز فورستر، المحلل البارز في شركة جينس، قوله إن المقاتلة الفرنسية "ستعمل على ترقية قدرات القوة الجوية الإماراتية بشكل كبير من حيث الضربات، والحرب الجوية، والاستطلاع".
2. ثمة سياسة واقعية لدى فرنسا تجاه الرياض، كعاصمة إقليمية مؤثرة، وهو نهج يعزز صفة "التوازن" من طرف قوة دولية. ويوضح أحد مستشاري الرئيس الفرنسي أن بلاده تقدم نفسها "كقوة توازن من خلال تعزيز الحوار مع وبين مختلف الفاعلين" في المنطقة و"كشريك أساسي وموثوق". ولذلك لا بديل أمامهم سوى تعزيز الشراكة الاقتصادية مع المملكة العربية السعودية والتعاون في القضايا ذات الاهتمام المشترك، بما في ذلك لبنان وأسواق الطاقة والبرنامج النووي الإيراني والصراعات الإقليمية. وقال أحد مساعدي ماكرون: "لا يمكننا تخيل وجود خطة طموحة في المنطقة مثل خطة الرئيس ماكرون- في محاربة الإرهاب في المنطقة، وخفض التوترات في الخليج والعراق واليمن-من دون إجراء حوار قوي مع المملكة العربية السعودية".
3. وفي مذكرة بحثية، قالت شركة استشارات المخاطر Eurasia Group إن عدم اليقين في الشرق الأوسط بشأن التزامات الولايات المتحدة يدفع دول الخليج إلى تعزيز العلاقات الأوروبية، وقد استفاد ماكرون من ذلك لتعزيز صورته وإبرام بعض الصفقات التي يمكنه الاستفادة منها في حملته الانتخابية.
4. وقبل خمسة أشهر من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، تبدو جولة ماكرون في الخليج بوصفها فرصة للإدلاء ببيان على المسرح العالمي. وفي هذا السياق تنقل شبكة "بلومبيرغ" عن أيهم كامل، رئيس فريق البحث الخاص بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجموعة "أوراسيا" البحثية، قوله إن ماكرون يعقد صفقات ضخمة في الخليج؛ لأن ذلك "يظهره كقائد يريد الجميع التعامل معه وأنه يتمتع بنفوذ عالمي".
الإمارات بين الطائرات الفرنسية والأمريكية
لدى قراءتها لأبعاد صفقة الرافال مع دولة الإمارات، نقلت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية عن الباحث في "المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية" "جان-لو سمعان" قوله إن "الصفقة تحمل في طياتها رسالة سياسية موجهة للولايات المتحدة التي تلكأت ببيع ال F-35 الذي تنتجه "لوكهيد-مارتن" الأمريكية إلى أبو ظبي". وتشير "ليبراسيون" إلى أن "الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا أولاند، كان يحلم بتصدير أول مقاتلة "رافال" لكنه فشل بمسعاه. وما غيّر المعادلة وفقاً للصحيفة هو "انسحاب الولايات المتحدة تدريجياً من منطقة الشرق الأوسط".
وفي محاولة لطمأنة الولايات المتحدة، وضحت الإمارات موقفها في شراء مقاتلات F-35، حيث قال اللواء إبراهيم ناصر العلوي قائد القوات الجوية والدفاع الجوي الإماراتية لوكالة أنباء الإمارات (وام)، إن شراء مقاتلات رافال الفرنسية مكمّل لصفقة مرتقبة لشراء المقاتلات الأمريكية F-35، مضيفاً إن طائرات الرافال ستحل محل أسطول الإمارات من طائرات الميراج 2000 الفرنسية الصنع الموجودة حالياً في الخدمة، ضمن الاستراتيجية الشاملة والمراجعة المستمرة لتطوير قدرات القوات الجوية الإماراتية.
الخلاصة والاستنتاجات
1. تحاول فرنسا تعزيز أدوارها في الشرق الأوسط في ظل تغيّر في أدوار وأولويات واشنطن حيال المنطقة، وفي ظل تنامي أدوار موسكو وبكين في الإقليم.
2. خلال فترة رئاسة ماكرون، عمّقت فرنسا علاقاتها الدبلوماسية مع شركائها العرب، ما يعكس ليس فقط الاعتراف المتزايد بالدور الإيجابي الذي يمكن أن تلعبه باريس في العالم العربي، ولكن أيضًا ضرورة الاهتمام بالأصوات الإقليمية في العالم العربي، كما أشارت صحيفة "ذا ناشونال"، التي نبّهت إلى الأمن المشترك والمتداخل بين الشرق الأوسط وأوروبا؛ حيث تشترك المنطقتان في مجموعة من التحديات - من أزمة الهجرة المستمرة إلى انتشار الجماعات المتطرفة المسلحة - وتتطلب استراتيجيات مشتركة وتصميمًا مشتركًا للتصدي لها. بعض هذه التحديات، بالطبع، ليست جديدة. لقد تفاقمت لسنوات عديدة، وقد ميزت فرنسا نفسها، بحسب "ذا ناشونال"، في هذا الصدد بإبقائها في الصدارة والوسط في سياستها الخارجية، حتى عندما كان من الصعب القيام بذلك. ولعبت فرنسا دوراً قيادياً في توحيد أجندة الأمن الإقليمي، وأجرت تدريبات مشتركة مع اليونان ومصر في البحر المتوسط والبحر الأحمر. وأجرت تدريبات مماثلة مع الإمارات في الخليج، بهدف الحفاظ على الطرق البحرية التجارية المهمة آمنة، وتعزيز دفاعات المنطقة ضد الجماعات الإرهابية مثل داعش.
3. تتجاوز التحديات المشتركة الأخرى نطاق الشراكات الدفاعية. لقد نمت قائمة مجالات التعاون المحتملة بين فرنسا والعالم العربي لتشمل التعافي الاقتصادي، والإشراف البيئي، والابتكار التكنولوجي والأمن الغذائي، والتعاون الثقافي والأكاديمي.
4. ومن خلال تحركاته الدبلوماسية في العامين الماضيين؛ في لبنان والعراق والخليج، يبعث ماكرون برسالة بأن أوروبا مهتمة بلعب دور سياسي قيادي أكبر في شؤون المنطقة. غير أن واقع الحال يؤكد أن ملفات المنطقة الشائكة وما تنطوي عليه من تعقيدات وإشكالات لا يكفي لحلّها مثل هذه الجولات الخاطفة. هذه الملفات، في ظل غياب الثقة بين أطراف الأزمات المختلفة، تتطلب عملاً دبلوماسياً دؤوباً ومتعدد الأطراف ليصل إلى خطوات متراكمة من شأنها أن تكون مقدمات تُفكّك بعض عقد الملفات الشائكة وبؤر التوتر الساخنة في الإقليم. وجميع ذلك يعطي مؤشرات حول حقيقة النفوذ الفرنسي وآفاقه في الشرق الأوسط. ومع أن ماكرون كان له إسهام جوهري في دعم مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة الذي الْتأم في العراق في أغسطس الماضي، في سياق تفعيل دور العراق في محيطه العربي، فإن هذا الجهد الفرنسي لم يرافقه جهد آخر لا يقلّ إلحاحاً وأهمية، ويتعلق بممارسة ضغط على الجانب الإيراني من أجل دفعه لعدم عرقلة مشاريع ومبادرات إقليمية أخرى، وهو أمر يتطلب تعديلاً في السياسات الإيرانية، وما يزال حتى الآن بعيد المنال، برغم تحرّك العواصم الخليجية الكبرى للتواصل مع القيادة الإيرانية، ومحاولة تفعيل أدوات التهدئة والحوار، والحرص على وقف التصعيد من الجانب الخليجي.
5. الثابت من هذه الجولة، أن فرنسا تتمتع بعلاقات عميقة بشكل خاص مع الإمارات العربية المتحدة، وأنّ الصفقات التي عقدها ماكرون في جولته في الخليج تقدم دفعة قوية لصناعة الدفاع الفرنسية بعد انهيار عقد بقيمة 66 مليار دولار لأستراليا لشراء 12 غواصة فرنسية ذهبت في نهاية المطاف إلى الولايات المتحدة.
6. فضلاً عما سبق، وبخصوص آفاق العلاقات الفرنسية-الخليجية، فإن اهتمام ماكرون الشديد بإقامة علاقات شخصية مع ولي عهد أبوظبي ونظيره في المملكة العربية السعودية، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، يجعله ضيفًا موضع ترحيب في المنطقة.
7. من المستبعد أن تحلّ فرنسا، على الأقل في المدى المنظور والمتوسط، بدلاً من الولايات المتحدة الأمريكية في تأمين مظلة الحماية الأمنية لمنطقة الخليج. كما أن الطائرات والمعدات العسكرية الفرنسية لن تكون بديلاً عن المعدات والأسلحة الأمريكية. وحتى مع سياسة دول الخليج الثابتة منذ عقود في تنويع مصادر التسلح، وتنويع الشراكات الاستراتيجية على مستوى اللاعبين الدوليين، فإن الحصة المركزية والأكثر أهمية ستبقى للولايات المتحدة. وبرغم ذلك فإن تنويع الشراكات يعزز قدرات "التحوّط" لدى دول المنطقة، لكنه مع ذلك يبقى يثير إشكالية الأمن المستدام والجماعي، الذي ما يزال بعيد المنال حتى الآن.
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
محمد برهومة
كاتب وباحث أردني