تطوير الخوف.. من حفظ البقاء إلى التفريط به!

الخوف شعور طبيعي يصيب البشر كلهم على حد سواء، وغريزة يشتركون فيها مع كل أجناس مملكة الحيوان أيضاً. هذا الشعور بدائي وقوي، جوهره حدوث تغيرات فيزيولوجية في الجسم –كيميائية وحيوية– كردة فعل مباشرة على أي تهديد محدق

الكاتب حسن إسميك
  • تاريخ النشر – ٠٨‏/٠٨‏/٢٠٢٢

في إحدى أشهر قصائده التي ما زالت تحيّر الأجيال ببساطتها وعمقها معاً، والمعروفة بعنوان "زيارة لضريح عبد الناصر"، يتحدث أحمد فؤاد نجم عن ما يورثه الأب للابن، فيضع صورة مغايرة تماماً عن صورة "الأب" في المخيال الشعبي، صورة تضجّ بشعرية عالية المستوى، رغم أنها تتحدث عن أب يخاف من قتل "ناموسة"، ولما تزوج امرأة كان محيّراً في الهوى بينها وبين "الجاموسة"!، وبدلاً من أن تشدني الصورة الكاريكاتورية التي صنعها نجم بتورية فائقة الغموض والتجلي، سرحت في مفهوم الخوف نفسه، والذي هو أحد سمات شخصية الأب، ولكنه بدا لي السبب الرئيس لكل السمات.

ما الخوف إذن؟ الخوف شعور طبيعي يصيب البشر كلهم على حد سواء، وغريزة يشتركون فيها مع كل أجناس مملكة الحيوان أيضاً. هذا الشعور بدائي وقوي، جوهره حدوث تغيرات فيزيولوجية في الجسم –كيميائية وحيوية– كردة فعل مباشرة على أي تهديد محدق، فيكون هدفها الرئيس هو نفي هذا التهديد، إما  عبر مواجهته وإما بالهروب بعيداً عنه. والخوف شعور حتمي وكلي، فليس من إنسان مرَّ على هذا الكوكب دون أن ينتابه الخوف من كائن أو من ظاهرة أو من شيء.. أو حتى من إنسان آخر. وعلى امتداد حياة البشرية كان الخوف صديقاً للإنسان، ينبهه ويدفعه بعيداً عن الخطر، فشكَّل على امتداد العصور عاملاً ضرورياً لبقاء البشر.

لكن، أينتهي الأمر هنا؟ هل يتوقف تأثير الخوف على هذا الجانب الإيجابي فقط؟ وإذا كان الجواب "نعم"، فلماذا يعتبر دوستويفسكي أن " الخوف لعنة الإنسان"، ولماذا يرى برتراند راسل أن "الانتصار على الخوف هو بداية الحكمة"، ومثله غاندي الذي يقول إن "آخر الحكمة ألا تعرف الخوف".. لماذا وجد عبد الرحمن منيف أنه "في غمرة الخوف؛ يفقد البشر القدرة على التصرّف"، ولماذا يعدُّ أمين معلوف "كلّ عنف يحدث هنا هو وليد الخوف"، لماذا نبّه فرانكلين روزفلت بأن "ما يجب أن تخافه هو الخوف نفسه"، ولماذا قال أوشو "حيث ينتهي الخوف تبدأ الحياة"؟

لقد طور الإنسان غرائزه على امتداد وجوده القديم على هذه الأرض، وزاد من قدرته على التحكم بها عبر عملية التكييف لتسخيرها بما يخدم بقاءه أولاً، ومن ثم مصالحه وازدهار جنسه ونموه وتحضره. لا ينطبق هذا الأمر كثيراً على الخوف، فقد ازداد هذا الشعور الغريزي تعقيداً مع الزمن، وتطور باتجاه معاكس بات يهدد في حالات كثيرة، حياة الإنسان، وبقاء المجتمعات أيضاً، وبخاصة إذا ترافق مع مجموعة من الأدوات التي تخرجه من حيزه الطبيعي إلى حيّز الاصطناع والاكتساب.

عندما يرى أحد الحيوانات "عدوه"، سواء أكان مفترساً أو متطفلاً أو غير ذلك، فإنه يشعر بالخوف لأنه يعاين تهديداً حقيقياً، ولكن هذا الشعور بنتفي بمجرد انتفاء هذا التهديد.. ليس الحال كذلك عند الإنسان، لقد تطور شعور الخوف عند البشر، بنتيجة تطور حياتهم من طبيعية إلى مصطنعة، ومثلها تطور مجتمعاتهم وتعقد بناها، وتدخل السياسة والاقتصاد كثيراً في الحياة اليومية، حتى صار الخوف ينتج عن مخاطر متخيلة، بعضها كان في الماضي، وبعضها مستقبلي لم يحدث بعد، وقد لا يحدث أبداً، وينبغي أن نتنبه هنا إلى أن اختزان الماضي كذاكرة، وتصور المستقبل كإمكانية، هما خاصتان يتفرد بهما جنسنا البشري وحده. وبناء عليهما.. صار عندنا بالإضافة إلى الخوف الطبيعي الغريزي الفعلي والمباشر والذي يحمي الإنسان ويصون حياته، خوفٌ نفسيٌ مصطنع يحمل تأثيرات مدمرة على هذه الحياة عندما نفرط في الخوف من الأشياء التي قد لا تشكل لنا أي تهديد في الواقع، لأن معظمنا عندما يخاف يفقد القدرة على التفكير العقلاني، ويفقد القدرة على التصرف بهدوء ورشد.

تتفاقم خطورة هذا الأمر عندما ندرك أن خوفنا يُستخدم ضدنا في حالات كثيرة، خصوصاً من قبل السياسيين، وبل وكثيراً ما يعمد هؤلاء إلى خلق تهديد –حقيقي أو متخيل– لإثارة الخوف الذي يتحول الى رعب عند الجمهور، ودفعه إلى مساندة هذا السياسي أو ذاك على اعتبار أنه "المنقذ"، أو إلى المطالبة بسياسات معينة أو تبني أخرى والقبول بها، رغم أنها في بعض الأحيان ظالمة أو مجحفة أو قمعية، ولا تخدم مصالح الأفراد ولا مصالح المجتمع، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى..

الغالبية العظمى من السياسيين هم من الديماغوجيين، والديماغوجي بالتعريف هو "زعيم سياسي يسعى للحصول على الدعم من خلال مناشدة رغبات وتحيزات الناس العاديين بدلاً من استخدام الحجج العقلانية". الشعور المفضل الذي يعمل هذا النوع من السياسيين على تكريسه هو "الخوف" الذي يتحول إلى "خُواف"، فيحاولون دائماً إذكاءه لدى عامة الناس، وخلق حالة طوارئ دائمة في نفوس المواطنين، لأن الخوف يصرف الانتباه عن الحقائق التي يجب أن تُبنى عليها القرارات الواعية، ولا يترك مجالاً أو وقتاً للتشكيك في خطاب هؤلاء السياسيين ولا في تصرفاتهم.

يعزف الزعماء السياسيون –سواء في الماضي أو الحاضر، في الشرق أو الغرب– على كل الأوتار التي قد تثير مشاعر الخوف لدى الشعوب: من الحرب البيولوجية إلى الهجمات الإلكترونية إلى حرب المعلومات، ومن المهاجرين غير الشرعيين إلى اللاجئين، ومن الكوارث البيئية إلى الإرهاب العابر للحدود القائم على الدين، مروراً بالأمراض والأوبئة وحتى اصطدام الكويكبات والمذنبات، وبالطبع الخوف من الآخر بكل أشكاله.. بالمختصر يقول هؤلاء السياسيون لشعوبهم: كونوا خائفين.. ونحن المنقذون!

أليس صعود التيارات الشعبوية اليمينة المتطرفة في الغرب ناتجاً عما يزرعونه في قلوب الشعوب من خوف؟ أليس ذلك واضحاً من خلال خطابهم السياسي المبني على القومية المتعصبة وكراهية الأجانب والعنصرية والتمييز على أساس العرق والدين والجنسية؟ للأسف يتم تطبيع هذا الخطاب يومياً، ومن غير المستبعد أن يصل حملة لوائه إلى أعلى المناصب وأكثرها حساسية في العديد من الدول الأوروبية، الأمر الذي يهدد مستقبل المجتمع في القارة العجوز وعلاقاتها مع جيرانها في الجنوب أيضاً..

إذن يعمل الخوف، ويوظَّفُ في السياسة بطريقة خبيثة، ليستحضر المشاعر، ويؤثر على الرأي العام، ويثير "الذات" ضد "الآخر"، ويخيف الناس ويدفعهم إلى الخضوع للسلطة العامة، وغالبًا ما يتعارض مع "العقل"، إذ لا يوجد شعور يسلب قدرة العقل على التفكير والتصرف مثلما يفعل الخوف، وقد عبر الفيلسوف الروماني ومعلم البلاغة لاكتانتيوس منذ مئات السنين عن ذلك عندما قال: "حيثما يوجد الخوف، لا يمكن أن توجد الحكمة".

عندما نشعر أن بقاءنا مهدد، فنحن على استعداد لفعل أي شيء تقريباً لحماية حياتنا. ومع ذلك، فإننا غالبًا ما نلحق الأذى بأنفسنا عن غير قصد. في هذا السياق أذكر أن دراسة نشرت منذ نحو عشرة أعوام قدّرت أن معدل الوفيات الناجم عن الحوادث الطرقية في الولايات المتحدة قد زاد بما لا يقل عن ألف شخص في العام الذي أعقب هجمات 11/9. يعود السبب في ذلك إلى تفضيل عدد كبير من الناس القيادة بدلاً من الطيران خوفًا من هجوم إرهابي آخر محتمل، يحدث ذلك رغم أن احتمال الوفاة بسبب الإرهاب الجوي لا يتجاوز 1على 540.000، في حين أن احتمال الموت من حادث سيارة يبلغ تقريباً 1 / 7000.

يزداد الأمر خطورة عندما نبحث في أثر الخوف على السياسة والعلاقات الدولية، إذ يحمل الخوف تأثيرين اثنين، ولكل منهما تبعات كبيرة، الأول عندما تخاف دولة من تنامي قوة دولة أخرى فتعمد إلى زيادة قوتها وقدراتها المادية والعسكرية للتغلب على الخوف من الآخر وندخل عندها في سباق تسلح كالذي شهدناه منذ منتصف القرن الماضي بين المعسكرين الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي والرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، والذي وصل حتى الفضاء الخارجي، وهدد العالم في مناسبات مختلفة بحرب شاملة نووية لا تبقي ولا تذر. أما التأثير الثاني فهو وقوع الحرب بشكل فعلي، كالحرب التي شنتها أمريكا على العراق بعد التقارير –التي ثبت عدم صحتها لاحقاً– عن امتلاكه أسلحة دمار شامل. يؤدي التأثيران كلاهما إلى الوقوع في ما يسمى "المعضلة الأمنية" وهي الحالة التي ينتهي فيها الدافع نحو الأمن إلى المزيد من انعدام الأمن، ما يخلق حلقة مفرغة لا تنتهي من الخوف المتبادل بين الذات والآخر، ومن ثم يبقي العلاقات الدولية في حالة توتر مستمر، وتهديد وشيك وهلع دائم لدى الجميع، بكل ما يعنيه ذلك من فوضى.

كل هذا ولم أتحدث بعد عن النمط الآخر الذي يعززه السياسيون، والناجم عن الترهيب المباشر، والمنتشر طبعاً في النظم القمعية والاستبدادية، والذي عانينا نحن العرب من حصة كبيرة منه، في الماضي واليوم أيضاً، ولن أتوسع في الحديث عنه كثيراً لأنه خوف مبرر من تهديد حقيقي غير متخيل، ولا يمكننا في مواجهته إلا العمل على "بناء سدود من الشجاعة لمواجهة طوفان من الخوف" على حد تعبير مارتن لوثر كينج، أهم نشطاء الحقوق المدنية وأكثرهم تأثيراً في تاريخ أمريكا. فالعرب لا يستطيعون التحرر من الخواف المصطنع الذي يلتف حول رقابهم، والذي خلقته السلطات السياسية المستبدة في أغلبية الدول العربية، إلا في انتاج سلطة حقيقية، تسخر مقدرات الدولة لتطوير شعوبها، وليس لخدمة نُظُم قمع وتخلف تصادر الدولة وتشكلها بناء على أهواء مستبدي هذه النظم ورغباتهم.

من جهة أخرى.. لا بد من القول إن "القيادة الملهمة" لا تلجأ إلى إثارة الخوف –لا الحقيقي منه فتصير استبدادية، ولا المتخيل فتصير ديماغوجية شعبوية– لتحقيق مكاسب سياسية، بل على العكس تساعد شعوبها في إدارة مخاوفها، وتخفيف تأثيراتها، والحد من أسبابها ومحفزاتها، فالخوف جزء لا يتجزأ من الحياة، وسيظل كذلك دائماً، في كل مكان وزمان وفي أي مجتمع بشري، إنه جزء طبيعي من "حالة الإنسان". صحيح أن الخوف هو أقوى عدو للعقل، لكن كليهما ضروري لبقاء الإنسان. وقد لا يستطيع العقل أن يبدد الخوف تماماً، لكن يجب في المقابل ألا يُغلق الخوفُ العقلَ نهائياً، فيغري بالتنازل عن الحرية إلى ديماغوجية تعد بالقوة والأمن، أو إلى استبداد لا يسعى إلا إلى تحقيق مصالحه.

وعلى الصعيد الفردي، لا يجب أن نخجل أبداً من مخاوفنا، بل الصحيح هو مواجهتها وتحديدها ومحاولة رؤيتها على حقيقتها، دون التظاهر بأنها غير موجودة. وعندما نتمكن من نقل الخوف من اللاوعي إلى الوعي نصير قادرين على تحديد مصدره ورسالته، وبالتالي فهمه والتعامل معه بشكل أفضل وإدارة تأثيراته على سلوكنا. حتى عندما نتعامل مع قضايا سياسية أو اجتماعية أو ما شابه ذلك، علينا ألا نستسلم إلى ردود الفعل المندفعة، بل أن نأخذ الوقت الكافي لتثقيف أنفسنا وتقييم خياراتنا واتخاذ قرارات مستنيرة تضمن أن يحافظ الخوف على مهمته الأساسية وهي حماية الإنسان والحفاظ على بقائه، فالشجاعة ببساطة وبحسب أفلاطون هي "أن تعرف ما لا يجب الخوف منه". ولذلك نسب هوبز للخوف الدور الحاسم في تشكيل المؤسسات الاجتماعية، فالخوف يتمتع "بنظر بعيد المدى، ويستطيع أن يرى الأشياء المخبأة" كما قال ثيربانتس، ويملأ على حد تعبير جورج أورويل "قلب كل شخص عاقل ويرى أبعد مِما يراهُ الآخرون". الخوف أيضاً كما قالت إيزابيل الليندي أمر "لا مفر منه، يتوجب عليّ تقبله، ولكن لا يمكنني السماح له بأن يشلني"، وكما قال العقاد: "الخوف من الموت غريزة حية لا معابة فيها.. وإنما العيب أن يتغلب هذا الخوف علينا ولا نتغلب عليه".

أخيراً.. الخوف وحش محبوس داخلنا، وإطلاقه اللامشروط سيجعلنا أول فرائسه. وأكثر ما يتبدى هذا الإطلاق في حالة انتقال الخوف من حالة جزئية وفي اتجاه واحد تقوم بين الخائف وما يخاف منه، ليصبح ثنائية متبادلة (وخوافاً عاماً) يكون فيه كلا الطرفان مصدراً لخوف الطرف الآخر، تتجلى ثنائية الخوف المتبادل هذا أكثر ما تتجلى في العلاقة السياسية القائمة في ظل الاستبداد كما ذكرت أعلاه، وتحدث حين يكسر المحكومون بالخوف بعض حلقات خوفهم ويطالبون بزوال أسبابه، على شكل ثورة أحياناً أو عصيان أو إثارة فوضى أو مطالب منظمة للإصلاح والتغيير.. إلخ، فينتقل بذلك جزء من الخوف الذي كانوا يشعرون به ويكبل سلوكهم نحو المصدر الذي كان ينشأ منه خوفهم، وهنا يُصبح المستبد المخيف خائفاً بالمقابل، ليدفعه سلوك الخوف هذا إلى ممانعة وقمع كل أشكال التغيير والتطوير والإصلاح التي يطالب بها الجمهور الخائف. في ظل علاقة الخوف المتبادل هذه (والتي تحل محل العلاقة المثلى في السياسة، وأقصد الثقة المتبادلة بين المحكومين والمؤسسة الحاكمة) تتعطل في المجتمع كل القرارات الصحيحة، فيطغى القمع ويسود الارتياب وتتعاظم الأنانية وتُكبت جميع دوافع التطوير والنمو والازدهار. وهذا ما يؤدي إلى تعطل التقدم التاريخي بأبسط أشكاله، فتُصاب الدولة بحالة من "الستاتيك" الذي يميت كل شيء رويداً رويداً حتى يقضي عليه، وكم من نموذج حولنا تنطبق عليه حالة "الخواف" هذه، والتي إذا استمرت ستحيل مجتمعات وأنظمة بأكملها إلى حال من الركام والتلاشي والفناء!

 

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS