تصاعد الأزمة الجيوسياسية في القطب الشمالي وآثارها على منظومة الأمن الدولي

ملخص استراتيجي| يتناول هذا الملخص أهمية القطب الشمالي في التأثير على المنظومة الدولية بعد عقود من هامشيته ومحدوديته في التأثير، في سياق تحديثات استراتيجية وتعزيزات عسكرية كبيرة تُحدثها الدول المُجاورة للقطب تشير إلى دخوله في بؤرة الصراع الدولي

الكاتب أنس القصاص
  • تاريخ النشر – ٢١‏/٠٨‏/٢٠٢٢

أثارت الأزمة التي حدثت مع نهاية شهر يونيو 2022 بين روسيا والنرويج بشأن أرخبيل سفالبارد الاستراتيجي شمالي بحر النرويج، تساؤلات كثيرة حول بزوغ أهمية القطب الشمالي مجددا في التأثير على المنظومة الدولية بعد عقود من هامشية هذه المنطقة ومحدوديتها في التأثير.

في ذات السياق، أعلنت قيادة الدفاع الجوي لأمريكا الشمالية إجراء تحديثات كبيرة على طبقات الدفاع الجوي الخاصة بها لمواجهة الصواريخ الفرط صوتية الروسية واحتمالات القصف النووي لإحدى دول القيادة الموحدة (الولايات المتحدة وكندا). توافق ذلك مع خطة للقوات المسلحة الأمريكية لإعادة الانتشار في ألاسكا مع الإعلان عن عودة الكتيبة الحادية عشر المحمولة جوا (12 ألف جندي) إلى ألاسكا بعد أن غادرتها منذ قرابة ثمانية عقود مع نهاية الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى زيادة أعداد مقاتلات السيادة الجوية وإعادة نشر كتائب المشاة الميكانيكي (سترايكر وبرادلي) في إطار تحسينات واسعة على استراتيجية القطب الشمالي التي أعلنها الجيش الأمريكي في 2021، وذلك في سياق مواكبة تطورات حالة الحرب الدائرة في أوروبا والتوترات المتصاعدة مع الصين. كل ذلك إلى جانب تطورات عسكرية وأمنية وسياسية أخرى تشير إلى دخول القطب الشمالي في بؤرة الصراع الدولي.

أزمة أرخبيل سفالبارد وأبعادها الاستراتيجية

لفت تصاعد الأزمة بين روسيا والغرب إلى النقاط الرخوة في المنظومة الأمنية والاجتماعية والاقتصادية لدى الدول الغربية، وكان من بين تلك النقاط التي لفتت الحرب الأنظار والتركيز عليها أرخبيل سفالبارد التابع للنرويج. والذي يقع شمالي بحر النرويج في المنطقة الفاصلة بين بحر بارنتس وبحر جرينلاند.

ومنذ بدايات الحرب الباردة، يشكل هذا الأرخبيل أزمة كبرى للناتو بسبب معاهدة سبيتسبيرجن (1920) المثيرة للجدل، والتي منحت روسيا ودولا أخرى حقوقا سيادية في جزر سفالبارد من بينها حق البحث العلمي والبيئي والتنقيب واستغلال المناجم والثروة السمكية وخلافه، بالإضافة إلى نص الاتفاقية على نزع السلاح في هذه الجزر وعدم قدرة الناتو أو النرويج حتى هذه اللحظة على نشر أي قوات حتى وإن كانت قوات خفيفة في أرخبيل الجزر.

ومما يزيد من وقع الأزمة على حلف الناتو أن التموضع الاستراتيجي لموسكو في هذه المنطقة أفضل كثيرا من تموضع الناتو بشكل عام في بحر بارنتس بسبب تموضع الأسطول الشمالي للبحرية الروسية في موقع أقرب للأرخبيل حيث تقع مقر قيادة الأسطول في قاعدة بوليارني المطلة على خليج مورمانسك في بحر بارنتس، وهو أقوى أسطول بحري تمتلكه موسكو حتى الآن. كما أن غواصات البحرية الروسية تحوم طوال الوقت في بحر بارنتس وبحر كارا اللذين يشهدان وجودا ضعيفا للقوات البحرية الأمريكية والأخرى التابعة لحلف الناتو التي تتواجد بشكل أفضل في بحر النرويج، حول قواعدها في النرويج وأيسلندا وجرينلاند.

الأزمة-الجيوسياسيةin-2.jpg

كما ارتفع تواجد القوات البحرية الروسية في بحار الشمال مع انضمام بعض قطع من أسطول البلطيق للأسطول الشمالي بعد موافقة حلف الناتو ضم السويد وفنلندا إلى الحلف مما صعب مهمة أسطول البلطيق الذي بدأ في إعادة إنتشار منذ أسابيع استجابة لخطة محور مورمانسك التي وافق عليها بوتين وعهد بها إلى نيكولاي باتروشيف سكرتير مجلس الأمن الروسي المقرب من بوتين وذلك للأهمية القصوى لهذه الخطوة في الاستراتيجية الروسية لفك الحصار.

ومما يصعب من مهمة الناتو في هذا الاتجاه الاستراتيجي أن بعض الدول استغلت إطار معاهدة 1920 الفضفاض لتقوم بتأسيس وجود لها في جزر الأرخبيل، ومن أهم هذه الدول هي الصين التي لديها بعثة لمعهد أبحاث الدراسات القطبية في ناي أليصاند وأسست هناك محطة بحثية تتشكك المخابرات الأمريكية في مهمتها بسبب التوسعات الكبيرة في الفترة الماضية. كل هذه التحديثات الأمنية والعسكرية عمقت من أزمة سفالبارد لاسيما مع ضعف الانتشار العسكري الأمريكي شرقي جريندلاند لأمور لها صلة بإعادة الانتشار البحري الأمريكي بعد حرب أوكرانيا، خاصة في انتشار الغواصات والتعديلات التي طرأت على الجانب الخاص بانتشارها في خطة عمليات البحرية الأمريكية في 2022.

إعادة الانتشار في أيسلندا لوقف تمدد الأسطول الشمالي

تعتبر أيسلندا إحدى أهم المحطات اللوجستية ونقاط التمركز الاستراتيجي في أوروبا والأطلنطي والعالم، فوجودها في موقع وسط جنوبي بحر بارنتس وبحر جريندلاند وشمالي بحر النرويج جعلها منصة مهمة للتحكم في حركة القطب الشمالي المتجهة نحو شمال الأطلنطي.

ومع الأخذ في الحسبان كل هذه الاعتبارات، فإن أيسلندا تعتبر نقطة حرجة وخاصرة رخوة للغاية في منظومة حلف الناتو بسبب عدم امتلاك البلاد لجيش نظامي مع تنامي الأهمية الاستراتيجية لأيسلندا كمحور رئيسي عالمي للنقل والخدمات لاسيما مراكز تخزين البيانات، وهو ما دعى الناتو والجيش الأمريكي للتواجد على مدى فترات أطول، وظلت القوات الأمريكية في قواعدها في أيسلندا طوال فترة الحرب الباردة حيث لعبت دورا مهما في تقليص الوجود البحري الروسي في منطقة شمال الأطلنطي. لكن معظم تلك القوات غادرت في 2006 مع استتباب التنافس القطبي بين معسكر الناتو وروسيا التي كانت لا تزال مشغولة بما هو أهم من التنافس في القطب الشمالي حينذاك، لاسيما مع اتساع دور مجلس القطب الشمالي كمنصة مهمة لحسم النزاعات.

لكنه مع بزوغ أهمية القطب الشمالي مجددا كأحد محاور العقيدة البحرية الروسية في 2015، وكثافة تحركات البحرية الروسية في بحر الشمال وقبالة المضائق الدانماركية مما يهدد بشكل صريح دولا مهمة في حلف الناتو كبريطانيا والدنمارك وكل المجال الخاص بالحلف في شرقي وشمالي الأطلنطي، فقد قامت الولايات المتحدة بإعادة نشر قوات في أيسلندا من بينها إعادة فتح قاعدة كيفلافيك للطيران البحري التي تستضيف طائرات بي 3 أورويون و بي 8 بوسايدون طويلة المدى والتي تشتهر بقدراتها الكبيرة على اصطياد الغواصات، إلى جانب إعادة فتح محطة مهمات للمارينز والقوات الخاصة وسلاح الجو الأمريكي في تلك المنطقة.

ومما يؤكد على خطورة أيسلندا كمحور هام للحلف والانتشار الأمريكي في منطقة القطب الشمالي والسيطرة على محور شمال الأطلنطي؛ اعتماد روسيا بشكل كبير على قوات الأسطول الشمالي في توفير الإمدادات المطلوبة في البحر الأسود في ظل الحرب الدائرة في أوكرانيا، وهو ما تكشفه الأخبار بين فترة وأخرى. ففي شهر يوليو 2022، فقدت روسيا جنودًا من الفرقة 140 ذات الأغراض الخاصة التابعة للأسطول الشمالي في رحى الحرب الدائرة في خاركيف مع وجود لقوات استطلاع بحري في البحر الأسود تابعة للأسطول الشمالي كشفت عنها المخابرات البريطانية في شهر مايو 2022. وهو ما يعتبر مؤشرا مهما على احتمالية زيادة عدد القوات الأمريكية وقوات الحلف في أيسلندا من أجل الحد من انتشارات الأسطول الشمالي في المحيط الأطلنطي والبحار الخاضعة للحلف، وهو ما كشفت عنه تصريحات لسفيرة ريكيافيك لدى واشنطن.

الجيش الأمريكي يعيد نشر قواته في ألاسكا

تمثل ألاسكا إحدى أهم البؤر القطبية التي شهدت إعادة إنتشار واسع خلال الفترة الماضية مع استعار الحرب الروسية الأوكرانية، فإحدى الحقائق التي تغيب عادة لدى تفكيك العلاقات الأمريكية مع روسيا أن لها مياه مشتركة مع روسيا على طول 3200 كم في بحر بيرينج وبحر تشوكشي.

الأزمة-الجيوسياسية-in-11.jpg

لذا، فإنه مع تطورات الحرب الأوكرانية، قامت الولايات المتحدة بإعادة الانتشار الواسع لقوات الجيش وسلاح الجو والدفاع الجوي والفضائي الأمريكي في ألاسكا. لكن من بين أكثر هذه الانتشارات أهمية هو الإعلان عن عودة الكتيبة الحادية عشر المحمولة جوا إلى ألاسكا وهو خبر شديد الأهمية في جوهره ودلالته. فهذه الكتيبة تتكون من 12 ألف جندي وهو رقم كبير في كتائب المهام الخاصة، بالإضافة إلى أن هذه الكتيبة تنشط عادة في أوقات الأزمات الكبرى حيث سجلت نشاطا بارزا في الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية.

ويأتي ذلك الانتشار بالتوازي مع إعادة نشر كتائب المشاه الميكانيكي المحمولة على مدرعات سترايكر خلف خطوط الدفاع الساحلي المتراصة عبر بحري بيرينج وتشوكشي. إلى جانب ذلك، رفع سلاح الجو الأمريكي من جاهزية المجموعة 477 قتال (إف 22 - رابتور) في ألاسكا ورفع عدد طائراتها مع الإعلان عن مناورة القوة القطبية في أبريل 2022.

إعادة هيكلة الدفاعات الجوية لـ (نوراد)

تزامناً مع كل تلك التطورات المهمة التي أعقبت فتح مجال الصراع واسعا بين الغرب وروسيا، فقد قررت قيادة الدفاع الجوي والفضائي لأمريكا الشمالية (نوراد) إعادة هيكلة دفاعاتها لاسيما منظومتي الإنذار الفضائي والسيادة الجوية.

فخلال شهر يوليو 2022، وفي أعقاب تجارب ناجحة للصواريخ الفرط صوتية من قبل موسكو، قررت كندا تخصيص 4.9 مليار دولار لتحسين دفاعات قيادة (نوراد) التي اكتشف كثير من الثغرات في منظوماتها الدفاعية لاسيما في مواجهة الصواريخ الفرط صوتية والصواريخ الجوالة (كروز)؛ حسب تصريحات مهمة أدلى بها الجنرال جلين فانهيرك، قائد قيادة الدفاع الجوي والفضائي لأمريكا الشمالية (نوراد)، خلال فعاليات مؤتمر أسبن للأمن المنعقد في ذات الشهر. من جانبه، يرى فانهيرك أن ذلك التحدي الروسي القائم سيكون مضاعفا في الفترة القادمة، بالنظر إلى تطور صناعة الصواريخ الروسية وكذلك التطور المطرد للصين في هذا المجال. لذا، فإن قيادة (نوراد) يجب أن تكون على أتم استعداد لاسيما مع ارتفاع مخاطر القصف النووي أكثر من أي وقت سابق.

ملابسات تلك التطورات على منظومة الأمن الدولي

مع اتساع جبهة المواجهات مع روسيا في أعقاب الحرب الأوكرانية، تبرز أهمية الاستراتيجية الأمريكية للتوازن فيما وراء البحار Offshore Balancing، حيث تقوم الولايات المتحدة في هذه الآونة بإعادة فتح قواعد قديمة في بلدان القطب الشمالي وخصوصا أيسلندا التي تعتبر وتر أخيل بالنسبة للاستراتيجية الأمنية للناتو في القطب الشمالي والتي تعمق من أعبائها وتبعاتها الادعاءات الروسية بحقوق تاريخية في سفالبارد التي تحيط بها روسيا من كل الجهات.

لذا، وعلى اعتبار محدودية الموارد، فإنه مع تجدد الصراع في القطب الشمالي الذي يعتبر مفرق رأس الأمن القومي الأمريكي في هذه الآونة، ستقوم الولايات المتحدة بخطة إعادة انتشار لبعض القوات الاستراتيجية في بعض أرجاء العالم. وسيتم في هذه الحالة سحب قوات من المناطق الأدنى أولوية لصالح القطب الشمالي وغرب وجنوب الباسيفيك وشرق أوروبا، وهو ما ستفصح عنه الاستراتيجية الوطنية واستراتيجية الأمن القومي الجديدة المزمع الإعلان عنهما خلال أسابيع.

*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.

أنس القصاص

خبير في الشؤون الدولية والاستراتيجية وقضايا الحرب والسلام