*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
بعد وفاة القرضاوي ومنير: ماذا ينتظر جماعة الاخوان المسلمين؟
تقدير موقف| يتناول حال جماعة الإخوان المسلمين بعد وفاة اثنين من أبرز وأهم قيادييها في البعدين السياسي والتنظيري، وهما يوسف القرضاوي آخر المرجعيات البارزة للجماعة وللإسلام السياسي، وإبراهيم منير القائم بأعمال المرشد العام للجماعة.
الكاتب د. هاني نسيره
- تاريخ النشر – ١٤/١١/٢٠٢٢
تعرضت جماعة الإخوان المسلمين خلال الفترة الماضية، إلى فقدان اثنين من أبرز وأهم قيادييها في البعدين السياسي والتنظيري؛ فبوفاة يوسف القرضاوي آخر المرجعيات البارزة للإسلام السياسي، وإبراهيم منير القائم بأعمال المرشد العام للجماعة، فإن الجماعة ستواجه تداعيات وآثار كبيرة نظراً لرمزية الرجلين في فضاء الإسلام السياسي، ودورهما في الهيكل التنظيمي وضبط الخلافات داخل صفوفها. فحتى إن كان الأخير قد لا يرقى إلى درجة التأثير التي نالها القرضاوي، إلا أنه يترك أثراً على ثلاث جبهات، أولها تلك التي كان يقودها في لندن، والأخرى في تركيا بقيادة محمود حسين والثالثة التي بزغت قبل شهور قليلة وهي جبهة التغيير التي تمثل أتباع القيادي السابق محمد كمال الذي ظهر في أكتوبر من عام 2022 أي قبل وفاة منير بأقل من شهر.
ويأتي توقيت فقدان الجماعة لقائدها ومنظرها، في ظل الحالة المأزومة التي تُعانيها منذ سقوط حكمها في مصر عام 2013، وما تبعه من سلسلة الانتكاسات التي تعرضت لها في مختلف الدول العربية. ما يُعزز من فرضية أن الجماعة ستدخل بوفاتهما نفقاً مظلماً من الانشقاقات والتيه الفكري وهذا ما ستناقشه الورقة ضمن محاورها.
القرضاوي أبرز منظري الإسلام السياسي
ينتمي يوسف القرضاوي للجيل الثاني من منظري "الإخوان"، وقد شكل رقماً صعباً في فعالية الجماعة بعد التأسيس الثاني لها في سبعينيات القرن الماضي، ومحطة بارزة في صورتها و توجهاتها، نظراً لطبيعة شخصيته، وتنوع مهاراته ومواهبه، وكم ونوعية مؤلفاته، ودوره وتمكنه من تأسيس العديد من المؤسسات التي تحمل آراءه وتوجهاته ومشاركاته وأهمها الاتحاد العالمي لعماء المسلمين الذي أسسه في الدوحة عام 2004، واستمر برئاسته 14 سنة حتى أواخر العام 2018.
لكن القرضاوي خلال السنوات القليلة بعد سقوط حكم الإخوان عام 2013، خسر الكثير من شعبيته ورمزيته لدى العامة، فقد تحول من الوسطية والاعتدال، وانحاز بشكل كامل باتجاه الإخوان المسلمين وأصبح واحداً من صقور الجماعة أو ما يطلق عليهم "القطبيين"، فقد أيد العدائية والعنف ضد السلطات ودعى للجهاد في مصر، وفشل في الوقت ذاته من لم شمل الجماعة وتحييد النزاعات داخل أروقتها.
ويبقى من المهم التساؤل عن مستقبل الإخوان المسلمين بعد وفاته من الناحيتين النظرية والمرجعية، فحتى وإن لم يكن للقرضاوي موقع تنظيمي داخل الجماعة، إلا أنه كان رافعة وجسراً فقهياً وفكرياً في محاولة لتجديدها وإعادة القبول لها في العالم العربي والإسلامي، كما لسائر تيارات الإسلام السياسي. ما يدفع بالاعتقاد أن وفاته ستشكل محطة قبل نهاية الإخوان على الأقل في الصعد الفكرية والتنظيرية لهم، وهو ما سنوضحه فيما يلي:
أولاً: أزمة الجفاف النظري عند الإخوان
إن جماعة الإخوان وانطلاقا من إيمانها بأولوية التنظيم على التنظير، ظلت تعاني جفافا نظريا وفكريا منذ توقف خطابها وروافدها الفكرية عند مرجعية مؤسسها حسن البنا، دون غيره، وعجزها عن دمج واحتواء أي تجديد أو اجتهاد أو طرح مغاير لما طرحه، ويمثل عند قادتها ومرشديها المحافظين الرابط والجامع لتنظيمها الكبير والثقيل الذي لا يتحمل الانتقال والقفز والتجاوز الفكري، ويبدو حضور سيد قطب حضورا شارحا ومعمقا لما طرحه البنا وزاده عليه من إنشاء شاعري ومحاولة تديين وتجذير عقدي لأطروحاته الفكرية.
وقد كان حسن البنا نفسه مدركاً لصعوبة وخطورة تجديد الأفكار على الإخوان المسلمين وتنظيمها، ففي حوار بين البنا وبين مؤسس حركة مصر الفتاة، أحمد حسين (1911-1982)، والذي كان كثير التطوير والتجديد والتحول في خطابه وجماعته، من القومية إلى القومية الإسلامية، إلى الإسلام الاشتراكي، أنه وهو يطالب حسن البنا بالتجديد الفكري لجماعته رد عليه البنا قائلا: "إن التنظيم ثقيل والحركات السريعة والمستمرة قد تقع به".
ونتيجة هذا الجمود والجفاف النظري والفكري الذي يقف عند أدبيات فكرية محددة منذ أكثر من سبعة عقود، كان الخيار بين الطاعة للمحافظين والصقور داخلها، أو مغادرتها عند أي خلاف (إيجابيا كان أو سلبيا، عقلانيا أو عنيفا)، وكان مصير أي خروج عن هذا الإطار، في النصف الثاني من القرن العشرين، الإقصاء والانزواء أو الفصل والانشقاق، سواء في حياة حسن البنا أو بعد وفاته.
ولذلك غادر أو أقصي بعض منظري الجماعة منذ الانشقاق الأكبر لعدد من رعيلها الأول بعد أزمة الجماعة سنة 1954، الذي برزت فيه أسماء كبيرة، مثل البهي الخولي (1901- 1977) محمد الغزالي (1917- 1996) والسيد سابق ( 1915-2000) وأحمد حسن الباقوري (1907-1985) والدكتور عبد العزيز كامل (1919-1991). - وقد تولى الأخيران منصب وزير الأوقاف المصرية لفترة طويلة من الزمن- ووصولاً، لفصل القيادي السابق في الجماعة عبد المنعم أبو الفتوح في أبريل 2011.
وجاءت المُزايدة في فكر سيد قطب، وميله للعنف، بعد تصنيفه للحكومات على مقصلة الحاكمية التي ابتدعها، وللمجتمعات والأوطان على مبدأ الجاهلية التي عممها. وهنا غابت مرونة البنا وقدرته على تمويه الخطاب والمواءمة البرجماتية والإجرائية، رغم اتفاقهما في المفاهيم المركزية وإن اختلفت تعبيراتها وشدتها بينهما، فقد تكلم كلاهما عن" الوطن الإسلامي" وعن عقدية "الحكم" وإن لم يستخدم البنا تعبير الحاكمية ولكنه استخدم نفس المضامين.
ثانياً: القرضاوي بين حسن البنا وقطب
رغم سيطرة توجهات وأدبيات حسن البنا على فكر الجماعة إلا أن النزعة القطبية التي زادت الفكرة تصلبا واعتقادا ظلت في الجماعة، مع ضبطها بمرونة المؤسس الفكرية.
فقد ظل تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، تحت سيطرة القطبيين الفترة الأطول من تاريخه، قبل عام 2011 وبعده، فقد انتمى أغلب من قادوا الجماعة، منذ المرشد الرابع محمد حامد أبو النصر (1913-1996) مرورا بالخامس مصطفى مشهور (1921- 2002) ثم المرشد السادس محمد المأمون الهضيبي (توفي عام 2004) وحتى الآن، للتيار القطبي.
ربما كان الاستثناء فترات المصالحة مع الأنظمة، في عهد المرشد الثاني حسن الهضيبي ( توفي عام 1973) والمرشد الثالث عمر التلمساني (توفي عام 1986)، ولكن ظل الصف الأول في الجماعة ينتمي لمجموعة القطبيين والتنظيم الخاص، ونذكر منهم من قياداتها الحالية محمود عزت وخيرت الشاطر والمرشد الحالي محمد بديع، المحكوم عليهم في مصر بالسجن، وربما كان التوجه القطبي بصلابته ضامنا وحاكما عند هؤلاء للترابط التنظيمي وانكساراتها في الآن نفسه.
في السابق، كان القرضاوي بما كتبه من مؤلفات أحد أركان الإخوانية "البناوية"، فقد نقد الفكرة القطبية في عدد من كتاباته، وإن لم يكن في وضوح وشدة بعض نقاد سيد قطب شأن الباكستاني وحيد الدين خان (توفي عام 2021) والهندي أبي الحسن الندوي (توفي عام 1999)، ولكن نجح القرضاوي بجمع فقهي في ثوب أدبي بأن يزيد البنا عمقاً وأن يمهد لدمج وقبول الجماعة والإسلام السياسي في المجال العام في عدد من البلدان.
لكن لم يقف نقد القرضاوي للفكرة القطبية طويلاً، فقد شاب مساره العديد من التحولات والتناقضات؛ أبرزها تحولاته الفكرية بعد العام 2013؛ ويمكن القول، إنه وضع الإطار النظري والمرجعي الحاكم والمسيطر على خطاب وتوجهات الجماعة، منذ سقوط تجربتهم في مصر، تجاه النظام المصري والذي تماهت معها مواقفه من مختلف النظم العربية، وظل هو المسيطر والحاكم لمرجعيات جماعة الإخوان، والتي كانت أقرب ما تكون إلى المفاهيم القطبية في الحاكمية والجاهلية، وظهر ذلك في فتواه الجدلية "بجواز القيام بعمليات انتحارية" بعد نيل موافقة "الجماعة"، وإذا كانت "هناك حاجة إلى تفجير شخص نفسه" على أن "تدبر الجماعة كيفية التنفيذ مع تقليل الخسائر قدر الإمكان".
لذا فإن مشاركة القرضاوي في فكر الإسلام السياسي، زادت من تجذيره وعقديته ومحافظته واستعداده للعنف، أكثر مما طرحه من اعتدال أو تطوير في هذا الفكر، ولعل من نتائج هذا ما تشهده الجماعة من حصادها الدائم للأزمات ولمنسوبيها، كما أن من نتائجه أن الجماعة اتجهت لمزيد من الجمود والعنف، دون القدرة على تجاوزها له اعتدالا وتجديدا، وأفضى كل ذلك إلى ما تشهده الجماعة اليوم من أزمات وخلافات يتصدع بها بيتها الداخلي، والتي قد تؤدي إلى انهياره في أي لحظة.
ثالثاً: آخر منظري الإخوان المسلمين
على مدار العقود السابقة، عُد القرضاوي منظر الإخوان المسلمين الأول، وقد نجح عبر العديد من مؤلفاته الكثيرة من التأسيس الشرعي لصورة الإسلام السياسي، وخاصة في الموقف من قضايا كالحزبية والتعددية السياسية والموقف من التكفير والعنف، ومن التمثيل الفقهي للمفارقة والفجوة بين الإسلام السياسي كما يمثله الإخوان وبين غيره من التيارات الأصولية ، وبخاصة "السلفية الجهادية"، وتمكن من تقديم ذاته - كآخر رمزية كبيرة- لآرائه وما يمثله تاريخيا من انتماء لجماعة الإخوان.
ورغم أسبقية أسماء كالشيخ محمد الغزالي (توفي عام 1996) في كثير من هذا الطرح، إلا أن القرضاوي تميز عن سائر منظري الإخوان والإسلام السياسي الآخرين، سواء في مصر أو العالم العربي، بعدة مسائل وهي:
1- استمرار انتسابه الفكري للإخوان وعدم إعلانه انشقاقه عنها.
2- العمق والتأسيس والاشتباك الفقهي للطرح الفكري، بينما كان الشيخ الغزالي أكثر وضوحا فكريا وأقل اشتباكا فقهيا.
3- كان البعد المؤسسي والإعلامي أكثر حضورا في سيرة القرضاوي عنه عند الغزالي، مما جعل لجهوده وأطروحاته أبعاد وتأثير أكبر.
4- يتميز بخطابه الفقهي والفكري، وحضوره الفردي والمؤسسي وارتباطه واستقلاله في آن واحد، وهو ما لم يتح لغيره سواء من الراحلين أو المعاصرين، من محمد الغزالي والسيد سابق إلى أحياء شأن العراقي محمد أحمد الراشد أو راشد الغنوشي أو غيرهم.
لذا كان القرضاوي آخر الأصوات والرموز الكبيرة الأبعد أثرا، في مرجعية الإسلام السياسي السني المعاصر، ولم يجاره أحد من مجايليه، مثل مجايله أحمد العسال (توفي عام 2010) وعبد المعز عبد الستار (توفي عام 2011) أو بعده مثل محمد عبد الله الخطيب المفتي التقليدي والمحافظ لجماعة الإخوان (توفي عام 2015)، كما لا يعرف لفروع الجماعة ولجماعات الإسلام السياسي خارج مصر رموز نظرية ومرجعية كبيرة في الآن نفسه.
إبراهيم منير وصراع جبهات الإخوان
لم يستطع إبراهيم منير تحقيق وحدة الجماعة ولملمة شتاتها، منذ توليه منصبه كقائم بأعمال المرشد عام 2015، فقد اتسعت هوة الخلاف بين جبهته في لندن، وجبهة محمود حسين في أنقرة، حيث أصدرت الأخيرة بيانا في أكتوبر عام 2021، بإعفائه من مهامه، وتعيين مصطفى طلبة المقيم في لندن أيضا، متحدثا بديلا عنه باسم الجماعة، وهو ما لم تقبله جبهة إبراهيم منير وأصدرت قرارات مضادة بعزل المعترضين، وظلت جبهته هي الأوسع والأكثر قبولا في صفوف الإخوان، مما يثير التساؤل حول مستقبل الجماعة وصراعاتها بعد وفاته، وهل هي لصالح جبهة تركيا بقيادة محمود حسين أم لا؟!
لا بد من الإشارة هنا إلى أن إبراهيم منير نجح في الحفاظ على الجناح الأبرز للجماعة بعيدا عن إدارتها السابقة بقيادة أمينها العام محمود حسين، الذي يقود جبهة تركيا، وظهور إبراهيم منير بوصفه أكثر قبولا داخل صفوف الجماعة وخارجها، مقابل محمود حسين ومجموعته، التي واجهت العديد من الاتهامات داخل صفوف الجماعة، أبرزها فشلها في قيادة الجماعة في مرحلة خطيرة من عمرها.
وربما للأسباب السابقة أعلنت جماعة الإخوان المسلمين بعد وفاة منير بيوم واحد، في الخامس من نوفمبر 2022 تعيين مساعده محيي الدين الزايط متحدثا وقائما بأعمال المرشد بشكل مؤقت، وقد عمل مع منير فترة من الوقت بناء على طلبه، كما أنه متهم كذلك بعدد من القضايا الأمنية، وصدرت ضده أحكام غيابية.
جبهات جماعة الإخوان المسلمين:
1- جبهة لندن التي كان يقودها إبراهيم منير قبل رحيله، ويقودها مؤقتاً محيي الدين الزايط.
2- جبهة تركيا بقيادة محمود حسين أمين عام الجماعة.
3- جبهة التغيير التي تتبع التيار الكمالي داخل الجماعة، نسبة لمحمد كمال أحد منظري العنف والصدام مع الدولة المصرية بعد سقوط حكم الإخوان عام 2013.
وهذه الأخيرة، كانت قد رفضت في وقت سابق إعلاناً لإبراهيم منير بالانسحاب من أي صراع على السلطة في مصر، لتعلن عن تأييدها للخطاب الثوري، وللعنف كوسيلة للوصول إلى السلطة.
ويستبعد أنصار منير أن تكون وفاته تصب في صالح جبهة محمود حسين، وتؤكد أن الجسم الثقيل والكبير للجماعة لازال متماسكا بعد رحيله وتحت القيادة المؤقتة لمحيي الدين الزايط، وأن القدرات المالية واللوجيستية لجبهة تركيا بقيادة محمود حسين هي ما تمنحه الحضور والقوة الآن، وليس قوته التنظيمية.
وبالمجمل؛ يبدو أنه بعد رحيل القرضاوي يتراجع الجانب النظري والمرجعي بشكل كبير في فضاء الإسلام السياسي وجماعة الإخوان بالخصوص. وبرحيل إبراهيم منير فإن الجماعة ستتفاقم في شقاقها بين ثلاث جبهات، لتكون الأزمة الأكبر منذ تأسيسها مستمرة سواء في علاقاتها الداخلية أو الخارجية مع الأنظمة والعالم الخارجي.
وبغياب القائدين فإن إمكانية رأب الصدع بين جبهات الجماعة المتعارضة أصبح أكثر تعقيداً وصعوبة، وستتجه نحو سيطرة أولوية التصلب التنظيمي على التطور الفكري، مما يرشحها لمزيد من الانشقاقات والتشظي في الأيام القادمة، وهو ما ينطبق كذلك على مختلف تيارات الإٍسلام السياسي.
د. هاني نسيره
كاتب وخبير سياسي