بايدن و"أخطاء الماضي" في العراق.. فرصة للتعويض أم مشهد سيعيد نفسه؟
بعد أن أصبح بايدن رئيساً للولايات المتحدة، تحاول هذه القراءة التحليلية الإجابة على التساؤل التالي: هل سيقوم بايدن بتصحيح أخطائه التي ارتكبها في العراق؟ انطلاقاً من تجربته في الشأن العراقي التي يصفها العديد من النقاد "بالجدلية"؛ وذلك بعد أن عمل في هذا الشأن عن كثب بصفته رئيساً سابقاً للجنة العلاقات الدولية لعدة سنوات، ومن ثم نائباً للرئيس أوباما.
الكاتب ستراتيجيكس
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ٢٠/٠١/٢٠٢١
يمتلك بايدن خبرة وتجربة كبيرة في العراق، حيث كان مُنخرطاً في الشأن العراقي بصفته ديمقراطياً شغل منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس لعدة سنوات، ولأنه كان نائباً للرئيس في عهد أوباما، وحينها كان صاحب القرار في هذا الشأن، إذ نقلت صحيفة "The New Yorker" عن أوباما أثناء اجتماع للأمن الوطني عُقد في يونيو 2009، إشارته إلى بايدن بالقول: "جو، الشأن العراقي لك". وبحلول العام 2014، كان بايدن قد أجرى قرابة 64 مكالمة إلى العراق، في حين أجرى أوباما أربع مكالمات فقط، وبلغت مجمل زيارات الأول إلى العراق قرابة الـ 24 زيارة.
ومع ذلك، فقد كان للشأن العراقي حضور قليل في حملة بايدن الانتخابية، حيث ركّز خلالها على الترويج لخبرته في السياسة الخارجية كركيزة تؤهله لشغل منصبه كرئيس للبيت الأبيض. وقد لا يبدو ذلك مستغرباً، فمن المحتمل أنه تفادى الحديث عن العراق بسبب رغبته في تجنب تسليط الضوء على "خيبات الأمل" الأمريكية هناك، وهذا هو المصطلح نفسه الذي استخدمه في كتابه الصادر عام 2017 بعنوان ""Promise Me Dad، ويضيف بايدن "بأن الجهود المبذولة لتعزيز الحكم هناك تستغرق وقتاً طويلاً، واستنزافية، وفي النهاية هي شبه مستحيلة".
قد لا يُلام العراق على ذلك بقدر ما يُلام بايدن؛ فوفقاً للعديد من التحليلات التي تم الاطلاع عليها، يُنظر إلى إرث بايدن في الشأن العراقي باعتباره إرثاً جدلياً، ويشير منافسوه إلى أن تجربته هناك شابها سوء التقدير من قبله.
وهنا لا نجد مناصاً دون ذكر الشواهد والتغيرات التي طرأت على سياسات بايدن في الشأن العراقي، فقد صوّت ضد حرب الخليج الأولى عام 1991، لكنه كان مؤيداً للتدخل الأمريكي في العراق عام 2003، بعد أن صوت بصفته ديمقراطياً في مجلس الشيوخ ورئيساً للجنة العلاقات الخارجية، على منح بوش الابن سلطات حرب واسعة في العراق، وهي الحرب التي وصفتها صحيفة "The Guardian" بأنها واحدة من أسوأ أخطاء السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ عقود.
وبعد أن خلّف التدخل الأمريكي سياقات محلية وإقليمية متأزمة، عارض بايدن ما بين عامي 2006 - 2007 زيادة عدد القوات الأمريكية هناك، واقترح آنذاك اللامركزية كحل للأزمة العراقية، والفكرة لديه كما عرضها في مقال مشترك له نُشر في صحيفة "The New York Times" في مايو 2006، هي عراق موحد من خلال منح المجموعات الدينية والعرقية مساحتها الخاصة لإدارة شؤونها، وبالرغم من أنه تأثر بتجربته في البوسنة، إلا أن الطرح وتوقيته كانت فكرة غير منطقية، إذ أن تطبيقها سيحتاج إلى هياكل مؤسسية جديدة، وقواعد قانونية توافقية، في وقت كانت تواجه فيه البلاد خطر "الاقتتال الداخلي".
وبعد أن بات نائباً للرئيس في عهد أوباما، قدّم بايدن الدعم لرئيس الوزراء العراقي الأسبق، نوري المالكي، على حساب إياد علاوي، بالرغم من قلق الدبلوماسيين الأمريكيين والحلفاء في المنطقة من مزاعم أن المالكي كان يدعم أجندة مساندة لإيران بشكل متزايد، واتخذ فيما بعد موقفاً مناوئاً للوجود العسكري الأمريكي، فالخلاف بين المفاوضين الأمريكيين - ومن أبرزهم لويد أوستن وجيمس جيفري - وبين البرلمان العراقي حول الموافقة على بند ينص على عدم محاكمة القوات الأمريكية أمام المحاكم العراقية، كان أحد الأسباب وراء الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من البلاد.
ففي مقال لبايدن حول سبب اختياره لـ لويد أوستن وزيراً للدفاع، أشاد بدوره المتعلق بإشرافه على سحب القوات الأمريكية من العراق، دون الاعتراف بأن الانسحاب في العام 2011 كان خطئاً استراتيجياً، مما جعل الساحة العراقية فارغة ومتاحة للتوسعات الإيرانية، وسمح ذلك لتنظيم داعش الإرهابي باستغلال الفجوة الأمنية والصعود بعد أن سيطر على مناطق شاسعة من العراق وسوريا.
وخلاصة الحديث، بعد أربعين عاماً من الخبرة التي يمتلكها بايدن في السياسة الخارجية، لا يزال العراق يقدم دورساً هامة له، حيث إن مثل هذا البلد الغني بالموارد النفطية والمقدرات الهائلة يعاني من تبعات سلبية كانت متوقعة لدى العديد من الخبراء، وكان يمكن تفاديها، ومعالجتها إذا ما تم التعامل معه بسياق متصل مع حيثياته الاجتماعية وعوامله السياسية وأولوياته الاقتصادية، واليوم بعد أن أصبح بايدن رئيساً فإن السؤال المحوري؛ هو:
هل يمكنه تصحيح أخطائه السابقة في العراق؟
بناء على ما سبق، لا تزال سياسة بايدن في الشأن العراقي غير واضحة، وليس هناك استراتيجية محددة للتعامل مع مشاكل العراق ومعضلاته، لكن قد تتيح له فترة رئاسته فرصة لمراجعة إرثه هناك وإصلاح الثغرات في السياسة الأمريكية السابقة، وعلى الرغم من أنه لا يزال أمام العراق تحديات جمّة يجب تجاوزها، إلا أن البلاد تُظهر بصيص أمل يجب البناء عليه.
إذ شكّل العراق جزءاً من السياسة الخارجية للولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين، فقد أمضى الرئيس الأسبق، جورج بوش، فترته الرئاسية الثانية في التعامل مع تداعيات التدخل في العراق، وترشح خلفه الرئيس باراك أوباما، وكان من بين وعوده سحب القوات الأمريكية الموجودة في العراق، بينما ركز ترامب على الحرب ضد "داعش" متهماً أوباما وبايدن بتجاهل التنظيم وصعوده، ولكن بعد أن حقق التحالف الدولي والعراق النصر عليه، ركزت سياسات ترامب هناك على مكافحة النفوذ الإيراني.
وهنا يرى الكثير من المحللين أن الولايات المتحدة أصبحت تعتبر العراق ساحة ثانوية تحددها سياساتها الأوسع تجاه إيران، وكان ذلك جلياً في التوترات الناتجة عن حملة ترامب "الضغوط القصوى"، والتي تم استشعار صداها في العراق، خاصة بعد اغتيال أبرز القادة العسكريين الإيرانيين على أراضيه، بينما كثّفت إيران مضايقاتها للمصالح والمنشآت الأمريكية هناك.
وبالنظر إلى النهج الأمريكي المتناقض تجاه إيران، يجد العراق صعوبة في التعامل مع السياسة المتغيرة للولايات المتحدة، وموازنة علاقته مع إيران في الوقت ذاته. ومن الواضح أن هذه الديناميكيات قد تعود مرة أخرى في نهج بايدن، الذي أشار كثيراً إلى سياساته التي سيتبعها تجاه إيران في مقابل حديثه المحدود حول ما يتعلق بالشأن العراقي، وهنا ينظر البعض إلى إدارة بايدن باعتبارها متنفساً للجماعات الموالية لإيران في العراق، في حين يخشى آخرون من أن يؤدي الانفتاح الأمريكي على إيران إلى إطلاق يدها مرة أخرى كما حدث في ظل إدارة الرئيس الأسبق، باراك أوباما.
من الناحية النظرية، يمكن أن تساهم عودة بايدن للاتفاق النووي في تقليل الآثار الجانبية للتنافس الأمريكي الإيراني في العراق، خاصة إذا تمكن من الحصول على اتفاق أوسع نطاقاً كما وعد مسبقاً، بما يشمل نشاطات إيران الخارجية ولا سيما في العراق.
لكن على بايدن والمسؤولين في واشنطن الكف عن اعتبار العراق طرفاً ثانوياً في اللعبة مع إيران، وإيلاء هذا البلد الاستراتيجي محورية خاصة في سياستهم الخارجية، ونظراً لتأثير القضايا المحلية على الإقليم جرّاء الحدود الممتدة والمشتركة مع كل من: إيران والأردن والمملكة العربية السعودية وسوريا والكويت، فإن الاستقرار والأمن في العراق جزء لا يتجزأ من أمن الشرق الأوسط، ناهيك عن مؤهلاته ومقدراته الهائلة، بوصفه بلداً منتجاً للنفط والغاز، وهنا يجب أن يعي بايدن أن ضمان تدفق ثابت من النفط العراقي إلى الأسواق العالمية سيؤدي دوراً في النمو العالمي وسيُسرّع التعافي من تبعات جائحة كوفيد-19.
وهناك قضية أخرى تواجه بايدن، ومن المحتمل أن تكون أكثر تأثيراً؛ وهي مصير الوجود العسكري في العراق، والذي يأتي جزء منه ضمن التحالف الدولي لمكافحة "داعش"، وفي الأثناء تستبعد تحليلات المجلس الأطلسي، حدوث أي تغيير كبير في سياسة واشنطن تجاه العراق.
لا يختلف بايدن عن سابقيه في وعوده بالانسحاب من الحروب التي لا تنتهي أبداً، لكنه حدد في الوقت ذاته أن مهمة القوات الأمريكية هي هزيمة "القاعدة" و"داعش"، حيث يوجد اليوم حوالي 2500 جندي أمريكي في العراق، ومن المتوقع أن يستمر سحب القوات حتى العدد "صفر"، وأحد الجوانب التي تدعم هذه الفرضية والتي تستحق النظر فيها، هو فريق بايدن للسياسة الخارجية، والذي كان عدد منهم بارزين ضمن البيروقراطية التي أشرفت على سحب القوات الأمريكية عام 2011.
ويُعد المرشح لمنصب وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، الذي عمل جنباً إلى جنب مع بايدن في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، أحد أبرز العاملين في فريقه والذين كان لهم دور في إقرار السياسات المتعلقة بالشأن العراقي. ويشير العديد من النقاد له بأصابع الاتهام في تصويت بايدن لاستخدام القوة العسكرية في العراق عام 2003، وهناك أيضاً المرشح لمنصب وزير الدفاع، لويد أوستن، الذي كان مسؤولاً عن الانسحاب الأمريكي من العراق.
من المتوقع أن تؤدي البيروقراطية دوراً أساسياً في القرارات ذات الصلة بالشأن العراقي، ونظراً للكم الهائل من التحديات الداخلية والخارجية التي تنتظر بايدن في البيت الأبيض منذ يومه الأول، فقد لا يكون هناك الكثير من الوقت لقضايا الشرق الأوسط، وفي الوقت الذي من المتوقع فيه أن يُكمل بايدن سياسات سلفه في تقليل البصمة العسكرية، فإن أمامه فرصة للعودة بدبلوماسية أكثر متانة ومهارة للتعامل مع العراق، وهنا يجب توظيف الخبرة التي يتمتع بها هو وفريقه هناك، والعلاقات الراسخة مع المسؤوليين العراقيين في تعزيز الحوار الاستراتيجي بشكل تغلُب فيه المصلحة العراقية بمعزل عن العلاقات الأمريكية الإيرانية.
وبهذا الصدد، على بايدن العمل عن كثب مع رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، الذي يسعى منذ استلامه لمنصبه إلى موازنة الضغوطات الناتجة عن النفوذين الإيراني والأمريكي، وإعادة العراق إلى الاصطفافات الإقليمية من خلال زياراته لدول الجوار مثل المملكة العربية السعودية والأردن ولقائه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي. وهنا فإن كل محاولات الكاظمي لتوجيه البوصلة نحو مسارها الطبيعي والتأكيد على قدرة العراق على التصدي للأنشطة الإيرانية الضارة، يجب أن تُقابَل بالمزيد من الدعم السياسي والاقتصادي؛ الذي يُعد حاسماً في تحديد مسار البلاد خلال الفترة القادمة.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات