انقلاب النيجر: تعقيدات المشهد والتبعات الجيوسياسية

تقدير موقف يتناول الانقلاب العسكري في النيجر وطبيعة المشهد الذي سبقه والمرافق له والتداعيات اللاحقة، ويتطرق التقدير إلى احتمالات الاستجابة الأفريقية والدولية والصعوبات المرتبطة بمجمل التحركات تجاه النيجر؛ السلمية أو العسكرية.

الكاتب ستراتيجيكس
  • تاريخ النشر – ١٣‏/٠٨‏/٢٠٢٣

قام الحرس الرئاسي في النيجر بتاريخ 26 يوليو 2023 بالانقلاب على الرئيس محمد بازوم، واعتقاله هو وبعض مسؤولي حكومته، وبحلول اليوم التالي أعلن الجيش النيجري دعمه لعملية الانقلاب وتشكيل مجلس عسكري أطلق عليه "المجلس الوطني لحماية الوطن"، وأعلن رئيس الحرس الرئاسي عبد الرحمن تشاني نفسه رئيساً للدولة. واحتلت هذه الأحداث مساحة واسعة من المداولات والتحليلات خاصة بتعدد الفاعلين وتنوع المواقف، واختلاف طرق الاستجابة لها، ما يدفع إلى تحليل طبيعة المشهد في النيجر، ما قبل الانقلاب وبعده، والوقوف على احتمالات الخطوة القادمة لقادة الانقلاب، وللمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، وللمواقف الغربية والدولية.

طبيعة المشهد الحالي

منذ الساعات الأولى لاحتجاز الرئيس بازوم والاشتباه بوقوع انقلاب عسكري في النيجر، تسارعت التحليلات والتأويلات الساعية إلى تفسير المشهد في النيجر، بين من رأى فيها جزء من التفاعلات الحاصلة في النظام الدولي وتعقيداته، وأنه جاء بدور وانخراط روسي في سياق اهتمامها بالقارة الأفريقية، والذي تنامى منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في فبراير 2022، واشتداد المُنافسة مع الغرب في مختلف الميادين الجيواستراتيجية، وتيار آخر فسر الانقلاب في ضوء نظرية "تأثير الدومينو"، بعد سلسلة من الانقلابات الناجحة في غرب أفريقيا منذ عام 2020.

ومع عدم استبعاد أي من التفسيرين، فإن المشهد الكُلي للأوضاع في النيجر، وطبيعة الانقلاب والجهات القائمة عليه، يتضمن العديد من العوامل التي ساهمت في حدوثه، بل إن معرفتها مُسبقاً كانت لتدفع بالمُراقبين إلى توقع ما حدث، ومن ضمن تلك العوامل:

- تردي الأوضاع الأمنية: استشهد “المجلس الوطني لحماية الوطن” في بيانه الأول بتدهور الوضع الأمني، حيث يشهد الساحل الأفريقي نشاط كبيرا للجماعات والتنظيمات الإرهابية مثل تنظيمي "داعش" و"القاعدة" وجماعة بوكو حرام وغيرها، وخاصة في المناطق الحدودية بين مالي والنيجر، إذ تخضع ولايتي تيلابيري وتاهوا، الواقعتين غربي البلاد لحالة طوارئ منذ عام 2017.

- التوترات داخل السلطة: تستبعد الخارجية الأمريكية فرضية أن تكون روسيا ضليعة في الانقلاب العسكري في النيجر، وتنظر لما حدث بأنه خلاف داخلي بين الرئيس محمد بازوم، ورئيس الحرس الرئاسي الجنرال عبد الرحمن تشاني، والذي عينه الرئيس السابق محمدو إسوفو، وتداولت الأنباء عن قُرب تغييره. إذ تحدثت بعض التقارير أن الرئيس بازوم كان ينوي استبدال الموالين للرئيس السابق من المناصب العسكرية والسياسية في البلاد، وبأن الانقلاب ودعم الجيش اللاحق له، جاء كخطوة استباقية لنوايا الرئيس.

- تنامي المعارضة لفرنسا: ربما تأثر قادة الجيش في النيجر بتنامي مشاعر الغضب من الوجود الفرنسي في النيجر والتي كان من مظاهره الاشتباك بين محتجين وقافلة عسكرية فرنسية في غرب النيجر في شهر فبراير 2021، بالإضافة إلى وجود النيجر بجوار دول معادية لفرنسا مثل مالي وبوركينا فاسو، بعد أن قرر “المجلس العسكري” في مالي طرد السفير الفرنسي في يناير 2022، فيما طالبت بوركينا فاسو بمُغادرة القوات الفرنسية مطلع 2023. في حين أن الرئيس محمد بازوم كانت تربطه علاقات وثيقة مع فرنسا، فقد أوجد ذلك تناقض بين النيجر وجيرانها.

ستراتيجيكس-انقلاب-النيجرin-4.jpg

- قضايا معيشية رئيسية: تعاني منطقة الساحل الأفريقي بشكل عام والنيجر بشكل خاص من ظروف اجتماعية واقتصادية سيئة، حيث تعد النيجر واحدة من أفقر الدول في العالم، بوقوع حوالي 41% من سكانها في فقر مدقع وفق إحصائيات 2021، وأكثر من 50% من الفئة العمرية 7-16 لا يتلقون تعليماً مدرسياً، وتعاني 6 محافظات من أصل 8 من وباء الكوليرا. بالرغم من ذلك لطالما منح الوجود الفرنسي والأمريكي الأولوية للقضايا الأمنية ومكافحة الإرهاب، دون النظر في العوامل الرئيسية المؤدية إلى تلك الظواهر، حيث المساعدات والمنح تذهب في معظمها للتدريب والتسليح وهو ما فاقم من الغضب الشعبي ضد الوجود الأجنبي.

- حساسيات إثنية: يتسم النسيج الاجتماعي في النيجر بدرجة عالية من التعقيد والتنوع الإثني والقبلي، وفيما ينحدر الرئيس محمد بازوم من أصول عربية، فلم يُوفر له ذلك قوة اجتماعية داعمة له، إذ تعتبر القبائل العربية هناك أقلية، وتعود أصولها إلى القرن الأفريقي وليبيا وتشاد وسبق أن وجهت للرئيس تُهم من المعارضة بأنه من أصول أجنبية منذ بدأ حملته الانتخابية، وواجه قبل يومين من تنصيبه محاولة فاشلة للانقلاب عليه. في المقابل فإن قائد الانقلاب الجنرال عبد الرحمن تشياني؛ ينتسب لقبيلة (الهوسة) التي تشكل 50% من سكان النيجر.

- حداثة الديمقراطية: يعتبر الرئيس محمد بازوم هو أول رئيس ديمقراطي يتسلم السلطة عبر الانتخابات منذ استقلال البلاد عن فرنسا عام 1960، وقد اصطدمت هذه التجربة الناشئة بعدم تفضيل العسكريين الانسحاب من المشهد السياسي. وفي بعض أحيان ينحاز الشارع الأفريقي إلى المؤسسات العسكرية في انقلاباتها ويرى فيها تصويباً لمسار الحكم في البلاد، دون الحاجة لانتظار الدورة الانتخابية القادمة. وفي ظل هذه الخصوصية فإن نظريات الثقة والشرعية والصندوق الانتخابي قد لا تكون بذات الوزن والمكانة التي تتسم بها في أقاليم وقارات أخرى.

- احتمالات الانخراط الروسي: جاء الانقلاب بعد مضي أيام من قمة روسية أفريقية في بطرسبورغ والتي عُقدت في 27 يوليو، وفي توقيت تتطلع فيه موسكو لتعزيز نفوذها في أفريقيا، جاء في سياق انسحابها من اتفاقية تصدير الحبوب مع أوكرانيا وتعهد الرئيس بوتين تقديم شحنات مجانية من الحبوب إلى الدول الأفريقية، خاصة وأن كل من مالي وبوركينا فاسو المجاورتين إلى النيجر انتقلتا مؤخراً من التقارب مع الغرب إلى علاقات وثيقة مع روسيا، وتستضيفان عناصر من مجموعة فاغنر، وقد يأتي استبعاد واشنطن لأي دور روسي في تحريك الانقلاب، من بوابة التقليل من قدرة روسيا ونفوذها في أفريقيا.

مؤشرات ما بعد الانقلاب

بعد مضي قُرابة الشهر على الانقلاب، لا توجد مؤشرات أن “المجلس الوطني لحماية الوطن” المُشكل حديثاً ينوي التنازل عن السلطة، أو إعادتها إلى الرئيس محمد بازوم، بالرغم من الضغوط الأفريقية والدولية الممارسة على المجلس، بل إن المؤشرات اللاحقة للانقلاب تُعزز فرضية استدامته وترسيخه ومنها:

- إحداث تغييرات في الجيش: تُشير التغيرات التي طالت رئاسة الأركان والقوات البرية ووزارة الدفاع والحرس الوطني والدرك والاستخبارات الخارجية أن “المجلس الوطني لحماية الوطن” يطوي صفحة سابقة من منظومة الحكم في البلاد، ويهيئ مؤسسات البلاد لمرحلة قادمة مختلفة تماماً. وقد تكون التغيرات في القيادات العسكرية والأمنية ذات صلة في استبدال القيادات الموالية للرئيس السابق أو لفرنسا تجهيزاً لصراع محتمل معها.

- التعبئة الشعبية: في حين أن “المجلس الوطني لحماية الوطن” فرض قيوداً على الحركة والتجوال، إلا أن الآلاف من مؤيديه خرجوا في مظاهرات تأييد على امتداد الأيام السابقة، فضلاً عن تجمع ما يقارب من 30 ألف من أنصار الانقلاب في ملعب سيني كونتشي في نيامي.

ستراتيجيكس-انقلاب-النيجر-in-3.jpg

 

- تهيئة مسرح العمليات: تُشير القرارات اللاحقة للانقلاب عن إصرار “المجلس الوطني لحماية الوطن” على الدفاع عن مكاسبه بالحكم حتى في مواجهة التهديد بحملة عسكرية ضده، إذ أصدر منذ الساعات الأولى قراراً أغلق بموجبه المجال الجوي للبلاد، وحرك قوات النخبة إلى العاصمة نيامي، وتحديدا تجاه القصر الرئاسي والمطار، كما تم تشكيل "لجان أمنية أهلية" ونقاط تفتيش مرورية تحسباً لأي تدخل عسكري.

- التلويح بورقة فاغنر: أفادت وكالة أسوشيتد برس، أن مسؤولين من النيجر التقوا قادة من فاغنر عبر وساطة من دولة مالي، وجاء اللقاء بطلب من أحد قادة الانقلاب بهدف تقوية موقف النيجر ضد أي تدخل عسكري غربي-أفريقي محتمل، لكن إدخال فاغنر إلى المشهد يمكن اعتباره كورقة ضغط تُعزز موقف “المجلس الوطني لحماية الوطن” التفاوضي مع الغرب.

- حصر العداء بفرنسا: يُدلل إلغاء الاتفاقيات مع فرنسا واستثناء الولايات المتحدة أن “المجلس الوطني لحماية الوطن” يسعى إلى شرعنة تحركاته بهدف نيل الثقة والرضا الشعبي عنه، لكنه يُحافظ في الوقت نفسه على علاقاته مع الدول الأخرى مثل الولايات المتحدة، التي لا تمتلك ماض استعماري في النيجر، ومن مؤشرات ذلك أن قنوات الاتصال بين نيامي وواشنطن لا تزال مفتوحة حتى بعد الانقلاب.

- تعيينات سياسية مدروسة: إن تعيين لامين زايني، رئيساً للوزراء، يمكن قراءته من أوجه عدة، في مقدمتها اهتمام قادة الانقلاب في الشأن الاقتصادي خاصة في ظل العقوبات المفروضة على النيجر، والتي يعتقد أن تفاقم من الأوضاع الاقتصادية المتردية بالأصل، ومن جهة أخرى يُشير إلى حاجة المجلس لواجهة ذات خبرة أفريقية كونه شغل سابقاً منصب ممثل بنك التنمية الأفريقية في تشاد وساحل العاج والغابون، وتربطه بحكم ذلك علاقات مع أركان السياسة والاقتصاد في الدول الأفريقية المختلفة.

- غياب الاضطرابات المدنية: منذ اللحظات الأولى للانقلاب وجه مؤيدو الرئيس محمد بازوم، دعوات ونداءات إلى العامة للنزول إلى الشوارع ورفض الانقلاب، إلا أن المشهد المحلي في النيجر لا يزال مستقراً من جهة خلو الشوارع من مظاهرات رافضة لعزل الرئيس، أو حتى من التحركات والإغلاقات العسكرية، وهذا الاستقرار النسبي يعزز من فرص استمرار قادة الانقلاب في مخططاتهم.

احتمالات الاستجابة في المشهدين الإقليمي والدولي

يواجه "المجلس الوطني لحماية الوطن" احتمالات وسيناريوهات تدخل عسكري محتمل لقوات عسكرية تقوم بإعدادها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، بدعم فرنسي، لإعادة العمل بالشرعية الدستورية واستعادة الرئيس محمد بازوم للسلطة، وكانت “الإيكواس” قد أمهلت قادة الانقلاب حتى مساء الأحد السابق الموافق 6 أغسطس للتنازل عن السلطة، وبالرغم من تجاوز مهلة التحذير فإن مصادر تتحدث عن عدم تراجع “الإيكواس” وإنما حاجة جيوشها لمزيد من الاستعداد، خاصة وأن اجتماعها الأخير بشأن النيجر في 10 أغسطس أبقى التدخل العسكري خياراً مطروحاً. ويدعم احتمالات التدخل العسكري عوامل عدة وهي:

- احتواء التراجع الديمقراطي: لعبت نيجيريا دوراً بارزاً إقليمياً في الحفاظ على الشرعيات الدستورية، ومكافحة الانقلابات، فمنذ عودة الحكم المدني عام 1999، حددت استراتيجيتها الإقليمية المعروفة باسم "مشروع نيجيريا"، والقائم على أن اكتساب القوة والمكانة الأفريقية في المجتمع الدولي يعتمد على تبني دولها لرؤية ديمقراطية. وبينما تشهد القارة سلسلة من الانقلابات الناجحة والمتتالية منذ العام 2020 (انقلاب غينيا، ومالي وبوركينا فاسو وأخيراً النيجر)، فإن ذلك يزيد من مخاطر واحتمالات تأثير الدومينو حيث يُشجع ويحفز قادة عسكريين آخرين من القيام بمغامرات انقلابية في دولهم خاصة مع وجود كتلة إقليمية داعمة لهم، ما يستدعي التدخل لوقف فترة الانقلابات تلك وردع أي انقلابات أخرى.

ستراتيجيكس-انقلاب-النيجر-in-2.jpg

- إضاعة الفرص على روسيا: بالرغم من استبعاد كل من الولايات المتحدة وفرنسا أن تكون روسيا ضالعة في عملية الانقلاب لكنها تخشى أن يتيح الفرصة لروسيا للتقارب مع النيجر أحد أهم الحلفاء الغربيين في أفريقيا، ومواصلتها توسيع تمددها عبر أحد أدواتها المتمثلة بمجموعة فاغنر على حساب القوى الغربية، فقد تحولت دول مثل مالي وبوركينا فاسو من المربع الغربي إلى روسيا نتيجة لانقلابات عسكرية.

- تاريخ مليء بالتدخلات: في الواقع لا يعد تهديد "الإيكواس" بالتدخل العسكري الأول من نوعه، حيث تمتلك تاريخاً طويلاً من التدخلات في ساحل العاج 2003، وليبيريا 2003، وغينيا بيساو 2012، ومالي 2013، وغامبيا 2017. وفي ديسمبر 2022 اتفقت المجموعة على إنشاء قوة إقليمية ليس لمكافحة الإرهاب فحسب، بل للتدخل في منع الانقلابات أيضاً.

- مكافحة الإرهاب: يعاني الساحل الأفريقي من انتشار للعديد من المنظمات والجماعات الإرهابية مثل تنظيمي "داعش" و"القاعدة"، وجماعة بوكو حرام في نيجيريا، ويكشف الانقلاب في النيجر عن مخاطر تمددها حيث تُشير الإحصائيات أن انقلاب بوركينا فاسو عام 2022 أدى إلى زيادة معدلات عنف الإرهاب بنسبة 69%. وبذلك تظهر الجيوش الوطنية أنها عاجزة عن محاربة الإرهاب دون تلقي الدعم الخارجي، وفي حالة النيجر فيرجح أن يوفر الانقلاب فيها فرصة لتصاعد الإرهاب حيث يعتبر الرئيس محمد بازوم أحد القيادات الموثوقة للغرب في منطقة تعاني من انعدام الأمن وأتاح بلاده لتصبح رأس الحربة الأمريكية في عمليات مكافحة الإرهاب.

مع ذلك؛ ينطوي التدخل العسكري سواء كانت أطرافه غربية أو أفريقية على تعقيدات وصعوبات عدة، وبشكل يختلف عن أي تدخل سابق قادته “الإيكواس” في مكافحة الإرهاب أو الانقلابات، ومن تلك التعقيدات ما يلي:

- غياب أدوات التأثير: في الواقع لا تمتلك دول “الإيكواس” الخيوط ذاتها التي حلت بها أزمات مشابهة في السابق، حيث كانت الدول ذات العلاقات الحليفة مع فرنسا تتدخل إما إلى جانب حلفائها من الدول المستعمرة فرنسياً سابقاً، أو في دول كانت تقع ضمن النفوذ الاستعماري البرتغالي، ويُراد من التدخل وضعها في كنف النفوذ الفرنسي أو الكتلة الأفريقية المقربة من فرنسا كما في حالة غينيا بيساو التي تدخلت بها “الإيكواس” لمرتين في (1998) وفي (2012). لكن في حالة النيجر المستعمرة السابقة لفرنسا، فهي تقع ضمن كتلتين إحداهما مناوئة لفرنسا وقريبة من روسيا، وهي الكتلة الداعمة لقادة الانقلاب والأخرى المقربة من الغرب والمتمثلة في دول مجموعة “الإيكواس”.

- خصوصية النيجر: إن عدم تمتع الرئيس محمد بازوم بقوة كبيرة داخل النيجر، لفقدانه الثقل الإثني أو القبلي، وغياب نفوذه على المؤسسة العسكرية يخلق تعقيدات عدة أمام أي تدخل خارجي، ويُفقد ما يروج له الفاعلين الدوليين والأفارقة حول استعادة الشرعية والحفاظ على الإنجازات الديمقراطية من مضمونها وتأثيرها. وهناك مخاطر من أن يؤدي أي تدخل خارجي إلى نزاع مُطول أو أن يفضي إلى حرب أهلية.

- قوة الجيش واتساع رقعة البلاد: يصنف جيش النيجر كرابع أقوى جيش في المجموعة الاقتصادية "“الإيكواس”"، وتُشكل مساحة البلاد قُرابة 17% من إجمالي القارة الأفريقية ويبلغ عدد سكانها حوالي 350 مليون نسمة، وذلك ما يعقد على قوة خارجية التوغل والسيطرة على البلاد لما ينطوي عليه من احتمالات لمواجهة نزاع مطول وعنيف ومقاومة شعبية ما قد يؤدي إلى موجة من الاضطرابات التي تعم القارة كاملة، وذلك ما يجد القادة الدوليين والأفارقة أنهم في غنى عنه.

- تراجع قوة نيجيريا: تمتلك نيجيريا نفوذاً وقوة عسكرية ضاربة مكنتها من امتلاك النفوذ داخل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) منذ تأسيسها عام 1977. وبجيشها الذي يتألف من 223 ألف فرد، فقد شكلت نيجيريا حجر الأساس في تدخلات “الإيكواس” السابقة.

إلا أن النفوذ النيجيري آخذ بالتضاؤل تحت وقع الصعوبات الاقتصادية والتحديات الأمنية، حيث يكافح الجيش النيجيري لإرساء الأمن في 30 ولاية تنشط بها منظمة "بوكو حرام" من أصل 36 ولاية، وينطوي على أي تدخل خارجي لها تحدياً كبيراً ليس لقدراتها العسكرية فحسب، بل لاستقرارها الداخلي أيضاً، ولذلك يلقى الحديث عن أي دور عسكري لها معارضة كبيرة لا سيما بين أعضاء مجلس الشيوخ الذي رفض طلب الرئيس بولا أحمد تينوبو، إرسال قوات عسكرية إلى النيجر.

- الانقسام الأفريقي-الأفريقي: شهدت القارة الأفريقية منذ العام 2020 انقساماً بين دولها ونظمها السياسية، بعد أن قادت سلسلة من الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو وغينيا إلى تولي العسكريين للحكم فيها، وهؤلاء يُعارضون خطط "الإيكواس"، للتدخل عسكرياً في النيجر، واتخذت كل من الجزائر وتشاد موقفاً مماثلاً، ما يُعقد أي تدخل ويوسع رقعة الصراع أو الحرب بالوكالة بين الفاعلين الأفارقة.

- الميل الغربي نحو الدبلوماسية: تزيد المعارضة في الغرب من صعوبات أي تدخل للقيام بعمل عسكري في النيجر، فقد شدد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، على أن الدبلوماسية هي "السبيل الأفضل" لحل الأزمة في النيجر، مضيفاً أن ذلك هو نهج المجموعة الاقتصاديّة لدول غرب أفريقيا، فيما طالبت إيطاليا تمديد المهلة السابقة التي منحها "الإيكواس" لإعادة الرئيس النيجيري إلى منصبه.

المشهد المستقبلي: مناورة بين أطراف المشهد

يتسم المشهد في النيجر بالتعقيد والغموض الشديدين، لتعدد أطرافه من جهة، ولأهمية التغيرات الحاصلة في النيجر على المشهد الجيوسياسي في أفريقيا من جهة أخرى. مع ذلك فإن مستقبل المشهد يُحدد بناء على تجاذبات المواقف التي تنحصر في ثلاثة اتجاهات، اتجاه تدفع به بعض دول الإيكواس نحو التدخل العسكري وتدعمه فرنسا، وآخر يُفضل الحفاظ على قنوات اتصال وإتاحة الفرصة للدبلوماسية وتمثله الولايات المتحدة، فيما الثالث يتمثل في قادة الانقلاب، وهم القوة الوحيدة في النيجر اليوم.

ومع استبعاد التدخل عسكريا، لما يواجه من صعوبات وما ينطوي عليه من تهديدات، فيبدو أن قراءة المشهد تحدده ملامح التفاعل بين قادة الانقلاب والولايات المتحدة، حيث الأخيرة لا تدعم مخططات فرنسا والإيكواس بالتدخل عسكرياً، وتُفضل مُقاربة الموقف بواقعية من حيث عدم ترجيح كفة المبادئ القائمة على قيم الديمقراطية والتعددية، مُقابل التفريط في مكانة النيجر الجيوسياسية بالنسبة لها، وخسارتها لصالح روسيا. ومن دلالات ذلك أن واشنطن أرسلت مسؤولاً رفيعاً للقاء قادة الانقلاب، وهي وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند، بخلاف ما جرت عليه العادة في حالات مماثلة أخرى كانت تُرسل مبعوثاً أو مندوباً من رُتب أدنى.

وفي ضوء ذلك، تُركز واشنطن في سياساتها تجاه النيجر على بُعدين أساسين: الأول يتمثل في استمرار دور النيجر كنقطة محورية في عمليات مكافحة الإرهاب، والحفاظ على عمل ونشاط القواعد الأمريكية هُناك، فيما البعد الثاني يُركز على تجنب قادة الانقلاب الميل نحو روسيا وجعل بلادهم منصة جديدة لنشاط فاغنر.

من جهتهم؛ يبدو قادة الانقلاب مدركين للواقع وليس لديهم شعور مرتفع بالتهديد، ودلالة ذلك ما أشارت له نولاند بأن المحادثات معهم كانت صعبة، ذلك أنهم يمتلكون القرار لتحديد موقع بلادهم من التنافس الدولي في القارة الأفريقية، ومن الاستقطاب داخل القارة نفسها. مع ذلك فإن البلاد تعاني أزمات أمنية واقتصادية تتطلب استمرار تدفق المساعدات الاقتصادية والعسكرية من الدول الغربية، وهو شرط أساسي لإدامة حكمهم دون مواجهة اضطرابات محلية، وبذلك فإن قوتهم في التأثير على المشهد الجيوسياسي الأفريقي يُقابله حاجتهم إلى الموارد المالية والعسكرية، ما يتطلب تقديم بعض التنازلات، التي قد يأتي في مقدمتها المضي في مسار استعادة العمل بالدستور والذي لا يستلزم بالضرورة عودة الرئيس إلى السلطة بقدر ما يعني تقديم خارطة طريق لإجراء انتخابات قد تكون في غضون سنتين، والتزام التنسيق مع الولايات المتحدة واستبعاد التواصل مع مجموعة فاغنر الروسية.

وبذلك، هناك مؤشرات متزايدة أن لدى الطرفين قدرة من الوصول إلى حل وسط، يدعمه العلاقة بين المؤسستين العسكريتين في النيجر والولايات المتحدة، وهو ما كان مفقوداً في النموذجين السابقين لكل من مالي وبوركينا فاسو. من أمثلة ذلك الجنرال موسى بارمو، قائد قوات العمليات الخاصة في النيجر الذي تلقى تدريباً من قبل الجيش الأمريكي، وحافظ عليه قادة الانقلاب في منصبه، ما يؤشر إلى إدراك من الطرفين بطبيعة المشهد وبأن تفاهمات ضمنية تُبنى بينهما قد تترجم لاحقاً إلى اتفاقيات مُعلنة.

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات