النسوية العربية... ترف أم ضرورة؟
لا أبالغ على الإطلاق إذا قلت إن الأحاديث والحوارات التي شاركت بها، مع العائلة أو مع الأصدقاء والزملاء، منذ بداية الشهر، كلها دارت في فلكٍ واحد، وكيف لا يحدث ذلك، ولا نعود كلّما تكلمنا إلى "المرأة"، ونحن في شهرها في "آذار (مارس)".
الكاتب حسن إسميك
- تاريخ النشر – ٣٠/٠٣/٢٠٢١
لا أبالغ على الإطلاق إذا قلت إن الأحاديث والحوارات التي شاركت بها، مع العائلة أو مع الأصدقاء والزملاء، منذ بداية الشهر، كلها دارت في فلكٍ واحد، وكيف لا يحدث ذلك، ولا نعود كلّما تكلمنا إلى "المرأة"، ونحن في شهرها في "آذار (مارس)".
ضحكت إحدى الصديقات مقاطعة جدية نقاشنا، لتروي حواراً طريفاً دار بينها وبين موظفة نادٍ رياضيٍ ترتاده، إذ باغتتها الفتاة بسؤالها: "كيف لي أن أصبح نسويه مثلك؟"، فأجابتها: "وما الذي يوحي لك بأنني نسوية؟" لترد الفتاة أن شكلها يوحي بذلك.
وبالتزامن مع نوبة ضحك تملكتنا، انساب سيل من الأسئلة في رؤوسنا، وهو بالضبط ما أرادته صديقتنا من قصتها.
رغم وجود عدد لا يحصى من النساء المبدعات في مجالات الفنون والأدب والسينما اللواتي تطرقن كثيراً من خلال أعمالهن إلى موضوع حقوق المرأة وغياب المساواة، إلا أن مفهوم "النسوية العربية" لمَّا يتبلور بعد، ولم يحقق بعد إجماعاً حوله في العالم العربي، وتغيب المرجعية الإطارية الموحدة لمن يصفن أنفسهن بالنسويات، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت تمنح اليوم مناصري النسوية منصة للتعبير عن أنفسهم، بكل ما يتبنونه من أفكار ثائرة على جميع ما ينمّط المرأة من العادات والأدوار المعدَّة مسبقاً إلى الهيئة والمظهر واللباس.
بالمقابل، يُثير موضوع "النسوية" صخباً كبيراً وجدلاً مستمراً، على منصات التواصل الاجتماعي، بين من يرى أن للنسوية قضاياها المحقة من جهة، وبين من يتّهمها بأنها مجرد مستورَدٍ غريبٍ إلى العالم العربي، ومحاولة عمياء لترجمة التجربة النسوية في دول الليبراليات المتقدمة. ليس هذا الأمر مستغرباً فمسألة حقوق المرأة، وبالتالي النسوية، لا تقتصر في مضامينها على موضوع المساواة بين الجنسين، بل تتجاوزه إلى مسائل الهوية والإيديولوجيا والسلطة والسياسة وإحداث تغييرات قانونية واجتماعية أيضاً، فالنسوية، في نهاية المطاف، هي وسيلة لتحقيق غاية... إنها حركة تعمل كمحفز للتغيير، ولخلق ذهنية تمكينية للمرأة على المستويين العربي والعالمي.
إذاً، لا يمكن على الإطلاق أن نختزل التجربة النسوية العربية إلى أنها مجرد فكرة مقتبسة أو مستوردة، لأنها تجربة أصيلة، لم تواجه المجتمع البطريركي العربي المحافظ فقط، بل واجهت حتى النظرة الاستشراقية الغربية التي تقول إن المرأة في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة مهمشة دائماً، ووسائل الإعلام الغربية التي تصوِّر المرأة العربية على أنها ضحية، وعلى أنها مضطهدة وخاضعة بشكل عام!.
لقد نشأ الوعي النسوي العربي مبكراً، وتطور جنباً إلى جنب مع الوعي القومي، أواخر القرن التاسع عشر. والنسوية العربية، بنقاط ضعفها، هي نتاج محلي للديناميات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العربية. لذا يجب تحرير هذه الحركة من التراكمات الاستعمارية والاستشراقية التي تثقل كاهلها، ويجب أن يدرك الجميع، عرباً كانوا أم غربيين، أن حاجة المرأة العربية إلى التغيير الإيجابي ليست أكثر ولا أقل من حاجة النساء في أي مكان آخر في العالم.
في المقابل، على الحركة النسوية العربية، في سعيها نحو التبلور أولاً، ونحو تحقيق المساواة ثانية، ألا تنساق نحو التطرف فتتجه إلى معادة "الرجل العربي" وتحاول "الانتصار" عليه بصفته عنصراً متسلطاً، وكأن جميع الرجال موجودون في موقع السلطة والتشريع واتخاذ القرار، فتخسر بذلك شريكاً وحليفاً في المعركة ضدَّ الفقر والقمع والتهميش الذي يعاني منه الرجال والنساء على حد سواء في العديد من بلدان عالمنا العربي، بخاصة تلك التي لم تجد بعد طريقها إلى السلام والاستقرار وبناء الإنسان رجلاً كان أم امرأة.
نقف اليوم على امتداد الدول العربية، أمام منعطف تاريخي، فإما أن نختار الاستمرار في حروبنا، أو أن نختار شعوبنا وأجيالنا القادمة. وعلى من يمتلك الوعي الكافي لتبني ثاني الخيارين أن يدرك في الوقت نفسه أن المساواة الجندرية على أساس المواطنة هي ضرورة لازمة، لأن المرأة العربية، بخاصة في البلدان التي تعاني الحروب هي سبيل الخلاص والنهوض الأول، مثلما كانت النساء الأميركيات بعد الحرب العالمية الأولى مثلاً، اللواتي تتحدث عن تجربتهن الكاتبة الأميركية ليتي غيفن Lettie Gavin في كتابها "النساء الأميركيات في الحرب العالمية الأولى"، فتقول: "كانت الحرب بداية لحقبة جديدة في تاريخ المرأة... حررتها من التقاليد البالية والقوالب النمطية العتيقة، ووضعت الأساس لرفع الأجور وتوفير وظائف أفضل وتحسين ظروف العمل".
كذلك تعد أدوار النساء الألمانيات بعد الحرب العالمية الثانية مثالاً مهماً على ما يمكن للمرأة القيام به، فمثلما شاركن في الحرب شاركن أيضاً في البناء وتعويض ما تدمر، فعمِلن متطوعاتٍ لرفع مخلفات الحرب وإعادة الإعمار، بخاصة أن أعدادهن كانت قد تجاوزت أعداد الرجال بعدة ملايين. لقد انخرطت النساء إلى حد كبير في قوة العمل وتحملن أعباء الأسر وتأمين موارد الدخل، فكان ذلك الأساس لتحررهن في المستقبل، وكان كذلك الدعامة والركيزة لـ "المعجزة الاقتصادية" التي شهدتها ألمانيا.
لقد أثبتت المرأة أن الاستغناء عنها مستحيل بخاصة في مراحل ما بعد الأزمات، وفي بناء اقتصاد ما بعد الحروب، لقد برهنت أن تمكين المرأة وتوظيف قدراتها هما ضرورة وليسا ترفاً، ولمجتمعاتنا العربية، في التجربتين السابقتين، وفي تجارب نسوية كثير أخرى، مثالٌ يجدر الاقتداء به، كي لا تضيع على بلداننا فرصة هائلة تكمن في قدرة النساء العربيات وطاقاتهن وحماسهن الشديد لإثبات الذات من جهة، ولرفد الاقتصاد الوطني وإحداث التغيير والبناء في مجتمعاتنا من جهة ثانية.
إذاً، فالنسوية بالنسبة لدولنا العربية ليست ترفاً فكرياً ولا "موضة أو تريند" أو اقتباساً معيناً ينشره البعض على صفحات التواصل الاجتماعي خاصتهم، بل إنَّ تمكين المرأة هو حاجة ومطلب رئيس سيغير في مجتمعاتنا الكثير، نحو الأفضل، لأنها أمتنا بحاجة إلى مساهمات كل أبنائها من دون استثناء.
وإذا كان الرجل قد اكتسب السلطة الاجتماعية تاريخياً بسبب قيامه بمهمتي الحماية والإنتاج، إلا أن هنالك جيلاً من النساء العربيات من الخليج إلى المحيط نشأ مع المزيد من الفرص والحرية والإصلاح الثقافي، وهنا يجب ألا يقف الرجل مرتبكاً أو معارضاً، بل على العكس يجب أن يكون داعماً ومشجعاً فهناك من سيشاركه العمل ويحمل معه العبء.
وفي الختام أود القول إنَّ المساواة أو تمكين المرأة ليس مجرد جمعية صغيرة نسوية هنا أو مجموعة على فايسبوك هناك، ولا هو حتى "كوتا Quota شكلية" في هذا البرلمان أو ذاك، إنما الحراك النسوي هو سيرورة يتداخل فيها السياسي والمجتمعي والاقتصادي والأكاديمي، ربما لم تصل دراسات المرأة والجندر والنوع الاجتماعي في جامعاتنا العربية بعد إلى وضع إرشادات أو اتجاه واضح لما نريد أن تكون عليه "النسوية" في منطقتنا، لكن المرأة العربية مستمرة في مسيرتها، ولن تتوقف.
وأخيراً، وكما في البدء، للمرأة العربية، بكل بهائها وتضحياتها وتصميمها، كل المحبة وكل التقدير، في آذار (مارس) وفي كل الشهور.
حسن إسميك
رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS