النزاع البحري اللبناني الإسرائيلي: إلى أين؟

تقدّر هذه الورقة الموقف القانوني للنزاع الحدودي البحري بين لبنان وإسرائيل والمرتبط بأحقية الانتفاع بالثروات الكامنة في المياه المتنازع عليها، وتستشرف الورقة كذلك السيناريوهات المحتملة لهذا النزاع وفقاً للاعتبارات المحلية والخارجية التي يتحرّك في نطاقها كلا الطرفين.

الكاتب ستراتيجيكس
  • تاريخ النشر – ١٧‏/٠٧‏/٢٠٢٢

على وقع ضجيج السياسة ومخاوف اندلاع الحرب، يجري لبنان وإسرائيل مفاوضات تقنية غير مباشرة برعاية أمريكية لترسيم الحدود البحرية وحسم النزاع القانوني على ممارسة الحقوق الاقتصادية في المياه المتجاورة شرقَ البحر المتوسط، وتوسعَ هذا النزاع من كونه مرتبط بالسيادة إلى الاستفادة من الاحتياطات الضخمة من الغاز والنفط الكامنة في قاع البحر.

فمنذ أن نشرت هيئة المسح الجيولوجية الأمريكية عام 2010 تقريرها حول ثروات شرق البحر المتوسط، أخذت الدول الساحلية على عاتقها إثبات أحقيتها القانونية في استخراج الغاز والنفط منه، وقدّر التقرير أن كميات الغاز المتوقعة تبلغ 3.3 ترليون متر مكعب، ومن النفط 1.7 مليار برميل.

ومع تزايد الاستكشافات تضاعفت الكميات المتوقعة لتصل حسب بعض التقديرات إلى 13.5 تريليون متر مكعب من الغاز، و5 مليار برميل من النفط. وهذه الكميات المتوقعة بالإضافة إلى موقع الشرق المتوسط النافذ إلى أوروبا الباحثة عن استقلالها عن روسيا فيما يتعلق بمصادر الغاز؛ تجعل من المنطقة بؤرة للتوتر كما هي بؤرة للطاقة، فكميات الغاز فيها تغطي الاستهلاك العالمي لثلاث سنوات ونصف. (بلغ الاستهلاك العالمي من الغاز عام 2020 قرابة 3.8 تريليون متر مكعب).

ولذلك كانت هذه الثروات دافعاً لإعادة تشكيل العلاقات الشرق (متوسطية)، لا بل أصبحت هذه العلاقات ترسم طبيعة العلاقات الشرق (أوسطية) وأعادت تعريف الإقليم في الحسابات الجيوسياسية.

ولم يكن لبنان وإسرائيل بمعزل عن التنافس لحجز موقع سيادي في خريطة إنتاج ونقل الغاز الدولية، فالدولتين تتشاركان مياه متنازع عليها تنتظر الحسم.

وابتدأت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في أكتوبر 2020 "إطار مشترك للنقاشات البحرية" لحل هذا النزاع، عبر إجراء محادثات غير مباشرة برعاية أمريكية وتحت علم الأمم المتحدة؛ حتى لا تصبح هذه المحادثات سبباً للاتهامات الداخلية التي قد يكيلها طرف طعناً بمصداقية طرف آخر منافس.

وتمتلك كل من الدولتين منظوراً مغايراً للمحادثات عن الأخرى، فلبنان الذي يعيش أزمة اقتصادية مُتفاقمة، يعتبر الملف "اقتصادي" سيادي، أما إسرائيل فتعتبره ملف "أمني" سيادي.

ورغم هذا الاختلاف الجوهري فإن كليهما سيضع كل أوراق القوة التي يحوزها على طاولة المفاوضات مستعيناً بحجج قانونية تعزز شرعية مطالباته.

يقدم تقدير الموقف التالي قراءة قانونية موجزة في النزاع البحري اللبناني الإسرائيلي، ويحاول استشراف سيناريوهاته وفقاً للاعتبارات المحلية والخارجية التي تتحرك في نطاقها كلا الدولتين.

 تناقضات تفسيرية

يوصف النظام الدولي بـ"الفوضوي - Anarchy" لعدم وجود سلطة عليا تفرض مواده القانونية الملزمة والشاملة لمختلف جوانب التفاعلات، فبخلاف القانون المحلي الذي لا تنازع سلطات الدولة الثلاث فيه أي جهة أخرى؛ لا يوجد إجماع حول المواد القانونية للنظام الدولي، ويحدث أن تتناقض تفسيرات هذه المواد حتى من قبل الدول التي أعلنت قبولها بها واعتمدتها.

ويعبّر القانون الدولي الخاص بترسيم الحدود البحرية عن هذا الوضع الملتبس، فبعد قرون من تطور العرف الدولي والمواثيق المدونة، استقرت الممارسة الدولية على "اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار" التي أقرت عام 1982 واعتُمدت رسمياً في نوفمبر 1994. ويبلغ عدد الدول الموقعة عليها بحسب موقع الأمم المتحدة للمعاهدات 158 دولة.

وفي حين انضم لبنان إلى هذه الاتفاقية، لم تنضم إسرائيل إليها، بالرغم من أنها شاركت في صياغتها، الأمر الذي يفهم منه إقرارها بها حتى وإن لم تصادق عليها، ولو اعتمدت الدولتين هذه الاتفاقية كمرجع لأصبح الملف يمتلك معايير يمكن الاستناد عليها للحل، وإن تعذر الحل فيمكن اللجوء إلى التحكيم عبر المحكمة الدولية لقانون البحار أو التوافق على توكيل هيئة محايدة لحسم النزاع.

وفي هذا السياق، تنص اتفاقية عام 1982 على حق الدولة بممارسة مظاهر السيادة (كالحقوق الاقتصادية والتفتيش والتحكم في العبور والإجراءات القضائية والجمركية) حتى مسافة 12 ميل بحري من أطراف يابسة ساحلها، وتمنح حق اقتصادي غير سيادي للتنقيب والتمتع بالثروات حتى 200 ميل بحري، وقد يصل حتى 350 ميل بحري في حالات وجود امتداد للجرف القاري، أي وجود امتداد لتضاريس تلك الدولة حتى تلك المسافة، وغير ذلك تعتبر المياه دولية.

ويكمن جوهر الخلاف اللبناني-الإسرائيلي في درجة ميل الخط الأساسي (الساحلي)، الذي يتم انطلاقاً منه رسم خطوط متعامدة نحو البحر، ووفقاً لمقال تحليلي نشره معهد واشنطن في مايو 2021 "التفسيرات المختلفة لهذا الخط النظري يمكن أن تُسفر عن اتجاهات مختلفة. على سبيل المثال، إذا تم التأكيد بأن خط الساحل بين إسرائيل ولبنان يمتد من صور إلى عكا، فسيكون اتجاه الحدود/المنطقة الاقتصادية الخالصة 290 درجة. ولكن إذا امتد خط الساحل من بيروت إلى حيفا، فسيكون الاتجاه 295 درجة - وهو فرق كبير عند تحديد كيفية توزيع احتياطيات النفط والغاز البعيدة عن الساحل. وما يعقّد الحسابات إلى حدّ أكبر هو أن لبنان قد جادل أحياناً بأن الحدود البحرية يجب أن تكون امتداداً لاتجاه الحدود البرية (المتنازع عليها)، والتي تسجل 270 درجة عند الساحل، أو تميل إلى ناحية الغرب".

لبنان-وإسرائيل-new-1-01.jpg

وعليه، إن الخلاف في تحديد الخطوط البحرية بين لبنان وإسرائيل "تقنياً" ليس على المسافة وإنما على زاوية الميل، ويقع النزاع بصورة رئيسية بين خطي 23 و 29، حيث يرى لبنان أنه له مياه اقتصادية حتى الخط 29 في حين ترفض إسرائيل ذلك وتسعى إلى حجز ما تراه حصتها في المياه المتنازع عليها.

ولتقوية موقفها التفاوضي، عدّل مرسوم لحكومة تصريف الأعمال اللبنانية الحدودَ البحرية -من طرف واحد- في أبريل 2021 لتصبح المساحة المتنازع عليها قرابة 2300 كيلو متر مربع وليس 850 كيلو متر مربع، انتقالاً من خط 23 إلى الجنوب نحو خط 29.

ونظراً لأن المرسوم لم يُصادق عليه بعد رئاسياً، فهو لم يودع في الأمانة العامة للأمم المتحدة، ما يعني أن المرسوم اللبناني فاقد الأثر قانونياً، ومجرد ورقة مساومة في مفاوضات حدودية اعتادت اسرائيل إجرائها منذ تأسيسها.

وتعمّق جدال الخطوط هذا بالإعلان عن الاكتشافات الضخمة في حقل كاريش البالغة مساحته 150 كم مربع والتي تتراوح احتياطاته بين 42-56 مليار متر مكعب من الغاز، ويقع جنوبي بلوك 8 و9 وعلى بعد عدة كيلو مترات من المياه التي تراها لبنان حقاً اقتصادياً خالصاَ (الخط 23)، ما يجعل من السحب من الحقل مؤثراً على الاحتياطات اللبنانية.

لبنان-وإسرائيل-new-1-03.jpg

يذكر أن سفينة إنتاج وتخزين يونانية -ليست سفينة تنقيب واستكشاف- متعاقدة مع الحكومة الإسرائيلية وصلت الحقل في يونيو 2022، وسط احتجاج ورفض لبناني، حيث أن القانون الدولي يستثني البئر المتنازع عليه من النزاع إذا ما قامت دولة واستغلته، مما يعني أن الممارسة المستقرة الإسرائيلية للانتفاع من كاريش تخرجه من كونه متنازعاً عليه.

وبالتالي قد تعكف إسرائيل على تكريس أحقيتها بالحقل، فبالإضافة إلى السفينة اليونانية، لوحظ أن مذكرة التفاهم الثلاثية لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى الاتحاد الأوروبي الموقعة في يونيو 2022، تضع حقل كاريش كأحد 3 حقول محتملة لتصدير إسرائيل الكميات المتفق عليها، وهي كميات كبيرة - لم تحدد في مذكرة التفاهم المبدئية- تعول عليها دول الاتحاد الأوروبي جزئياً لتخفيف اعتمادها على الغاز الروسي.

وتزامن وصول السفينة وتوقيع مذكرة التفاهم مع عودة منسق الإدارة الأميركية لشؤون أمن الطاقة ورئيس الوفد الأمريكي للمفاوضات غير المباشرة، آموس هوكشتاين، إلى بيروت لاستكمال المفاوضات الحدودية المعلّقة حيث سمع هوكشتاين موقفاً موحداً في لقاءاته برفض "الاستفزاز" الإسرائيلي والتمسك بحقوق لبنان المائية.

وبالعودة إلى عدم إيداع لبنان مرسوم توسيع حدوده في الأمم المتحدة وتحسين الموقف التفاوضي؛ نقلت مصادر صحفية مقترح لبناني قُدم إلى هوكشتاين يقضي بأن تخصص 1200 كم مربع من المياه المتنازع عليها كحق اقتصادي للبنان، أي بين خطي 23 و 29، وبما يعطي لبنان حقل قانا كاملاً ويستثني تماماً حقل كاريش من المياه الإقليمية اللبنانية دون الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية عليه، بحكم عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية بين الدولتين.

ويظل السؤال التقني الأساسي حال التوافق على "حقل قانا مقابل كاريش"، ما إذا كان التجاور في الحقول سيدفع الطرفان إلى التفاهم على آلية لتقاسم النفقات والإيرادات، ما يحيل السؤال التقني إلى بعد سياسي يتصل بحدوث نوع من التنسيق بين الطرفين، الأمر الذي قد يمهد مع الوقت إلى تعامل "طبيعي" بحكم الأمر الواقع رغم حالة العداء الرسمي، وهذا التطور رهن بسيناريوهات ترسيم الحدود وبظروف البيئتين الإقليمية والدولية التي تتحرك في نطاقهما كلا الدولتين.

 السيناريوهات المحتملة

يصعب التنبؤ بدرجة عالية من الدقة بمسار كثير من القضايا الشرق أوسطية، وعندما يتعلق الأمر بملف تتنازع فيه لبنان وإسرائيل فإن درجة الغموض تزداد نظراً لطبيعة العلاقة بين الدولتين وماضيها، مما انعكس على غياب الثقة وتوجس كلا الطرفين من الخطوات المستقبلية التي قد يتخذها الطرف الآخر.

وفيما يتعلق بترسيم الحدود البحرية، تكاد تنحصر الخيارات فيما يلي:

أولاً: التعنت والجمود

حتى تستطيع حكومة ما إنجاز اتفاقية سيادية، فيجب أن تستند هذه الاتفاقية على أرضية صلبة من الاستقرار السياسي المحلي بحيث لا تؤزم الاتفاقية الأوضاعَ المضطربة أصلاً، حيث الحكومة في كلا الدولتين لتصريف الأعمال، بعد استقالة نيتفالي بينيت وتسلم يائير لابيد رئاسة الحكومة حتى إجراء الانتخابات في أواخر أكتوبر أو أوائل نوفمبر 2022، أما في لبنان فلا توجد حكومة كاملة الصلاحيات حتى أواخر يونيو 2022.

علاوة على ذلك، يشكل عدم رسم الحدود البرية عاملاً ضاغطاً على ترسيم الحدود البحرية، فعادةً يتم رسم الحدود البحرية بين دول رسمت حدودها البرية، وتكون هذه الأخيرة نقطة الأساس للتفاهم، أما في الحالة اللبنانية الإسرائيلية يجري العكس، لذلك من المحتمل وجود مخاوف لكلا الطرفين من أن يكون توسيع المياه الاقتصادية للطرف الآخر مبرِّراً قانونياً لتوسيع الحدود البرية حال مناقشة ذلك.

وستدرس تل أبيب، المقترح اللبناني "قانا مقابل كاريش" من كل الجوانب التي لها صلة محتملة بالحدود البحرية، وستحرص على إظهار موقف متسق مع اتفاقية قانون البحار رغم أنها -تل أبيب- ليست طرفاً فيها، فإسرائيل حريصة على صورتها الشرعية خصوصاً أن 158 دولة موقعة عليها، ما يجعل من الاتفاقية قانون عرفي مواده ملزمة بحكم استقرار العمل بها على فترة زمنية طويلة، بحسب اجتهادات قانونية مُعتدّ بها.

تجدر الإشارة إلى أن قضايا ترسيم الحدود لها حساسية فنية واستراتيجية عالية، ويمكن لوثيقة أصدرتها الدولة أن يكون لها وزن في تحديد السيادة، فمثلاً في قضية مزارع شبعا التي يدّعي كل من سوريا ولبنان سيادته عليها؛ يحاجج خبراء بخارطة على ورقة عملة لبنانية قديمة لم تضع هذه البقعة ضمن الجغرافيا اللبنانية، ولكون العملة تعتبر وثيقة رسمية فإنها تضعف الوضع القانوني للبنانية شبعا.

ثانياً: نجاح الوساطة الأمريكية

على النقيض من السيناريو الأول، فإن عدم استقرار البيئة المحلية يمكن أن يكون محفزاً على نجاح الوساطة الأمريكية، فلبنان في أزمة اقتصادية يتفق كل طيفه السياسية أنها غير مسبوقة.

أما الحكومة الإسرائيلية فهي تبحث عن اختراق إقليمي لتقوية موقفها الانتخابي القادم في مواجهة رئيس الوزراء الأسبق بنيامين تنتياهو.

وبعث بيان مشترك لثلاث وزراء إسرائيليين (الخارجية والأمن والطاقة) برسالة تهدئة إلى الطرف اللبناني، حيث تضمن البيان أن السفينة اليونانية والمنصة الملحقة لن تضخا الغاز من المنطقة المتنازع عليها.

ومن الملاحظ أن أسلوب حزب الله في التعامل مع ترسيم الحدود يرتكز على ترك الملف للدولة اللبنانية، ومؤسساتها الرسمية، فقد قال الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله في خطاب ألقاه في أكتوبر 2021 "ترسيم الحدود البحرية متروك للدولة". وعاد وكرّر في 9 يونيو 2022 أن "لبنان يملك الحق وقوة الجيش والمقاومة لمنع إسرائيل من استغلال الحقل النفطي".

ومرد ذلك، امتلاك الجيش ومؤسسات الدولة وعلى رأسها وزارة الخارجية، روابط مع جهات خارجية يمكنها التفاعل ونقل الرسائل ذات الصلة بهذا الملف، كما أن انخراط الدولة الرسمية في المفاوضات يقلل من التبعات والمسؤولية السياسية التي قد ترتد على الحزب، لا سيما بين قواعده.

ومن جهة أخرى، يدفع الوضع السياسي المحلي بالحزب لتقديم تنازلات وتسهيلات، تسهم في تخفيف الضغط الإقليمي الواقع عليه وفي رفع فرص حلفائه بتولي المناصب التي يتم الإعداد لها.

أهم هذه المناصب هو رئاسة الجمهورية، الذي يسعى حزب الله، لطرح اسم أو مجموعة أسماء مقربة منه بهدف إقصاء ومنافسة حضور حزب القوات اللبنانية برئاسة، سمير جعجع، الذي أقرت الانتخابات النيابية الأخيرة أنه يشكل حضوراً سياسياً في البنية المحلية.

ثالثاً: الاشتباك العسكري الواسع النطاق

سيضاف ترسيم الحدود إلى القضايا المشتعلة بين لبنان وإسرائيل، التي اكتسبت حساسية عالية، بعد انخراط "حزب الله" في الأزمة السورية وتنفيذ الجيش الإسرائيلي لعمليات عالية الدقة والتدمير ضد نقاط تمركز تتبع للحزب وممرات نقل الأسلحة.

ولا يمكن التطرق إلى  ثنائية حزب الله - إسرائيل دون النظر إلى المشهد الإقليمي، فكلا الطرفين ينهمكان في سياسات خارجية متصادمة تجعل من العلاقة الثنائية جزءاً من حلقة أوسع من التشابكات والتعقيدات؛ فلن يقف الحزب مكتوف الأيدي حال اندلاع حرب إقليمية كبرى ضد البرنامج النووي الإيراني الذي تتوجس إسرائيل من تجاوزه "العتبة النووية" على وقع تعثر المفاوضات النووية.

صحيح أن الردع المتبادل وعقلانية القرار السياسي تبعد وقوع الحرب، لكن التاريخ السياسي في الشرق الأوسط ينبئ بأن شرارة الحرب ليست رهناً لحسابات عقلانية. ولا تقتصر احتمالية وقوع حرب لبنانية إسرائيلية على فرضية صدور قرار سياسي "محسوب ومدروس" من أحد الطرفين ببدئها؛ بل قد تحدث بالخطأ "War by Accident". 

فوقوع حادث غير متعمد سياسياً -كإطلاق منصة هجومية النار بسبب عطل فني، أو تمرد مقاتل باستهداف أصول عسكرية للطرف المقابل- قد يتفاقم وفق متتالية "الرد - الرد على الرد" وصولاً إلى مشاركة مختلف التشكيلات العسكرية في الاشتباك. فالشحن النفسي للمقاتلين ودرجة الجهوزية اللوجستية يعززان مخاوف الحرب بالخطأ.

وفي مؤشر على احتمالية اندلاع متتالية "الرد – الرد على الرد" أعلن "حزب الله" مطلع يوليو 2022 عن قيام 3 طائرات مسيرة غير مسلحة بجولة استطلاعية فوق حقل كاريش اضطر معها سلاح البحرية الاسرائيلي لملاحقتها عبر قطعة بحرية، بعد تمكّن المسيرات من اختراق الرادارات ومناورة الطائرات العاملة في المنطقة، بحسب تقرير نشرته هيئة البث الإسرائيلية الرسمية "كان".

أما وسائل الإعلام غير الرسمية فتداولت هذا التصعيد من زاوية نجاح الحزب في اختراق مستويات متقدمة من دفاعات كاريش دون اعتراضها لولا تدخل سلاح البحرية.

وهدد نصر الله في خطابٍ ألقاه منتصف يوليو 2022 بمنع إسرائيل من استغلال الثروات من البحر ما لم يتمكّن لبنان من استخراج وبيع النفط والغاز. كما أعاد التذكير بمعادلة "حيفا وما بعد حيفا" التي صرّح بها قبل أسابيع من حرب تموز عام 2006، عندما قال أن حزبه لن يقف عند حقول كاريش بل سيرسي معادلة "كاريش وما بعد كاريش". 

وبغض النظر عن التفكير الواقعي الذي يستبعد اندلاع الحرب، إذا اقتنع الطرفان المتنازِعان بكلفها التدميرية العالية، فإن كلاً من لبنان وإسرائيل لهما أسباب خاصة للتمرد على هذا التفكير الواقعي، فمن البديهي أن يبذل لبنان و"حزب الله" كل الممكن للتعافي من الدمار الاقتصادي الحالي الذي يقترب من أن يعصف بوجودية الدولة، فحتى دون وقوع حرب مباشرة تظل مسألة الاستمرارية محل شك، ما لم يتوفر مخرج اقتصادي كاستخراج الغاز من مكامنه.

أما إسرائيل، فستسغل الحرب لتدمير البنى الاستراتيجية لـ"حزب الله" وتأليب الطبقة السياسية اللبنانية المنقسمة ضده، فالحزب مجموعة مسلحة غير حكومية، وما لم يحظى بتفويض نيابي حكومي يكون استخدامه للقوة غير شرعي مما يطلق يد إسرائيل في حرب مبررة من وجهة نظر قانونية.

رابعاً: إحجام الشركات عن التنقيب 

وجّه نصر الله في خطابه سابق الذكر تهديداً لأصحاب وإدارة الشركة اليونانية التي انضمت للعمل في خط 29، معتبراً أنهم "شركاء في الاعتداء الذي يحصل الآن على لبنان، وهذا له تبعات"، مضيفاً أنهم "يجب أن يتحملوا المسؤولية ‏الكاملة من الآن عما قد يلحق بهذه السفينة مادياً وبشرياً". 

وفي حال تحقق السيناريو الأول "التعنت والجمود" فإن المخاوف من السيناريو الثالث "الاشتباك العسكري الواسع النطاق" ستلقي بظلالها على إقدام الشركات على العمل في منطقة عالية المخاطر يمكن استهداف مرافق الطاقة فيها بعملية أمنية دقيقة. وأكد نصر الله في خطابه منتصف يوليو 2022 أن الهدف من إرسال المسيرات إلى حقل كاريش هو تنبيه العاملين على متن السفينة اليونانية بأنها ليست منطقة آمنة.

ومن المرجح أن منصات الغاز تحتل مكانة متقدمة في بنك معلومات كل الفاعلين في المنطقة، استعداداً للاشتباك الكبير، وكشف مسؤول عسكري إسرائيلي في يونيو 2022 لقناة "I24" أن كتائب القسام حاولت استهداف منصة الغاز "تمار" في خضم العمليات التي اندلعت في مايو 2021 التي سمتها الكتائب "سيف القدس".

بموازاة كلف التأمين اللوجستي للمرافق، ستضع الشركات في اعتباراتها أيضاً ارتفاع رسوم التأمين واحتمالية تكبّدها مطالبات تعويضية إذا صدر حكم قضائي بانتهاكها حقوق اقتصادية تتبع لدولة أخرى في مياه متنازع عليها.

ويمكن أن تمتد التبعات العسكرية والسياسية لتطال الدولة/الدول المسجلة فيها الشركات العاملة في هذه المياه، وقد استدعت الخارجية اليونانية القائمة بالأعمال اللبنانية احتجاجاً على تهديدات نصر الله مؤكدةً أن لا علاقة للحكومة اليونانية بملكية السفينة، وأقلية فقط من حملة أسهم الشركة رجال أعمال يونانيين، ولكن يوجد عليها بحارة يونانيين. 

 خامساً: انفراد إسرائيل بكل المنطقة الواقعة بين خطي 23، 29

يعاني لبنان من أزمات محلية سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً تنافس "ترسيم الحدود" على سلّم الأولويات الوطنية، وهذا المناخ العام المليء بالشكوك والاتهامات يؤثر على وحدة وتماسك المفاوض اللبناني، فتتشتت الأفكار والرؤى ويتزعزع الموقف التفاوضي اللبناني.

وكما جاء سابقاً، يخرج الحقل من صفة المتنازع عليه حال إقدام دولة على الانتفاع به واستقرار هذا الانتفاع، ولا يبدو هذا السيناريو مستبعداً في الحسابات الإسرائيلية، وإن كان احتمالية وقوعه ضئيلة بناءً على أهمية الغاز للاقتصاد اللبناني ومعادلة الردع النسبي التي يلوح بها حزب الله تحت راية الدولة.

ولكن من شأن تفاقم الأزمات في الداخل اللبناني، مع استمرار الضغوطات الاقتصادية، والجمود السياسي، والمخاوف المُترتبة من رد فعل احتجاجي شعبي، فمن المحتمل أن يُصبح ملف ترسيم الحدود في أدنى سلم الاهتمامات، وستستغل تل أبيب الفرصة للسيطرة على ما أمكن من المياه المتنازع عليها.

إلى جانب، المخاوف من تأزم العلاقات بين المتنافسين السياسيين، على غرار ما شهدته بيروت في أكتوبر 2021 من اشتباكات مسلحة، أسفرت عن سقوط 6 قتلى و30 جريح، واتهم حزب الله، الكتائبَ بتعمد افتعال أزمة، في حين ردّت الكتائب أن ما حدث نتيجةً للشحن الذي مارسه حزب الله للتأثير في مسار تحقيقات انفجار المرفأ.

بالطبع يدرك الجميع في لبنان خطورة ما حدث، ويسعون إلى تجنب الانجرار نحو افتعال الأزمات، ولكن من غير المنطقي التسليمَ بقدرة مختلف الأطراف على ضبط النفس في لحظات الأزمات، وهي الأزمات التي قد تتولد بفعل ملف الترسيم لتطيح بالموقف التفاوضي اللبناني.

لبنان في معادلة الطاقة الشرق أوسطية

أصبح شرق المتوسط بؤرة للتوترات وللطاقة، ليس فقط على صعيد الاحتياطات الضخمة من الغاز المقدرة في مقدمة هذا التقرير وإنما أيضاً لموقعه المحاذي لجنوب أوروبا، فجيوبولتك الطاقة لا يقل أهمية عن الاحتياطات والقدرات الانتاجية، وتدرك أوروبا جيداً هذه الحقيقة في سعيها لتنويع مصادر الطاقة بعيداً عن "الاحتكار" المبطّن الروسي.

أمام هذه "الفرصة" الطارئة التي أكسبت شرق المتوسط أهمية قصوى، يجد لبنان نفسه في وضع غير مواتي للاستفادة منها، فعلاقاته الإقليمية لا تؤهله للإندماج في مسارات ربط الطاقة، وتبتعد الشركات عن استخراج الغاز والنفط حتى من مياهه الخالصة غير المتنازع عليها، فلبنان في وضع "قانون قيصر" غير معلن يعرقل أهدافه المتعلقة بحل أزماته الاقتصادية.

ومن الملاحظ أن العلاقات بين الدول الشرق متوسطية في هذه المرحلة تشهد عمليات استشكاف نوايا لبناء الثقة وتجاوز الخلافات الماضية، فعلاقات تركيا مع كل من مصر وإسرائيل آخذة في التحسن على صعيد اللقاءات السياسية والتنسيق في بعض المجالات، كالاقتصاد والطاقة.

ويعد الترابط المصري الإسرائيلي في هذا الملف حجر أساس لأي تعاون قادم، وتمثل مذكرة التفاهم لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر مصر "مظلة لمجموعة جديدة من الاتفاقات" بحسب ما صرح به وزير البترول والثروة المعدنية المصري، طارق الملا.

وكما جاء سابقاً في بند تناقضات تفسيرية، من المحتمل أن حقل "كاريش" المتنازع عليه سيكون أحد مصادر تصدير الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، مما يعني أن توترات لبنان في شرق المتوسط لا تقتصر على إسرائيل.

فسوريا أيضاً لم تحسم الدولة اللبنانية حدودها البحرية معها، حيث استنكرت أطراف لبنانية منح الحكومة السورية في مارس 2021 شركة روسية الحقَّ في المسح والتنقيب في بلوك رقم 1 من المياه السورية الذي يتقاطع مع البلوك 1، 2 من المياه اللبنانية، وتقدر مساحة التقاطع بـ750 كم مربع.

وإن كانت المساحة غير المتفق عليها مع سوريا لا تختلف كثيراً عن تلك المتنازع عليها مع إسرائيل (انحصرت المطالبات اللبنانية بـ1200 كم مربع) فإن طبيعة ترسيم الحدود البحرية للبنان مع سوريا وإسرائيل تتباين تبعاً للاعتبارات السياسية والأمنية والعسكرية، فالجيش هو من يدير ملف الحدود الجنوبية، أما شمالاً مع سوريا فتتولاه الوزارات والمؤسسات ذات الاختصاص وبالتنسيق مع الجيش، وتميل مصادر لبنانية إلى تسمية ما يحدث جنوباً بـالنزاع الحدودي، أما شمالاً بـالخلاف البحري.

لبنان-وإسرائيل-new-1-02.jpg

ومن ملامح روابط لبنان مع دول عربية في مجال الطاقة هو المشروع الواعد لتصدير الكهرباء من الأردن عبر سوريا، بالإضافة إلى توقيع اتفاق نهائي في يونيو 2022 لتوريد الغاز المصري إلى لبنان.

ويؤمل من الكهرباء الاردنية والغاز المصري تخفيف أزمة انقطاع التيار الكهربائي في لبنان، حيث بالكاد توفر شركة الكهرباء اللبنانية ما يزيد عن ساعتين من الكهرباء، ويتوقع أن ترتفع هذه المدة إلى 10 ساعات يومياً.

وإن تم حسم ملف ترسيم الحدود الجنوبية تحديداً والشمالية، فإن لبنان سيشرع في استخراج الغاز وسيكون قادراً في بضعة سنوات - إن أحسن إدارة العملية الانتاجية والتوزيعية- على الاستغناء تدريجياً عن الربط الكهربائي والغازي. 

وبالإضافة إلى المكاسب الاقتصادية للبنان من ترسيم حدوده البحرية، يُفترض أن يسهم التنسيق الاقتصادي في خفض التصعيد الإقليمي، ويمكن لمنتدى غاز شرق المتوسط أن يكون منطقة لبناء مصالح مشتركة، فهو غير مغلق أي يمكن انضمام أعضاء جدد إليه، كلبنان وتركيا التي تعتبر المنتدى منصة تقوض تأثيرها في شرق المتوسط.

ولا تريد الورقة رفع سقف الآمال بالحديث عن منتدى سلام، فذلك يتطلب وقتاً وخطوات استراتيجية تقرّب المواقف ولا تقصي أي طرف، بما فيها السلطة الوطنية الفلسطينية المشارِكة في المنتدى كعضو مراقب.

فلن يخسر أحد إلا إذا أراد طرف تعظيم مكاسبه على حساب حقوق الآخر، ولن يكسب أحد مكاسب استراتيجية تتجاوز البعد المادي إلا إذا تم التوافق على صيغة لتقاسم الثروات في شرق المتوسط تتجاوز تعقيدات السياسة وميزان القوى، وعلى قاعدة احترام سيادة الدول والمساواة "النسبية" فيما بينها، وعندها يمكن للحديث عن "سلام اقتصادي" أن يكون واقعياً ومنطقياً وليس مجرد تنظير أجوف.

ختاماً؛ لا يمكن لأي دولة معالجة تهديد خارجي بدون داخل موحد أو غير منقسم في الحد الأدنى، وبعيداً عن حالة الاستقطاب بين الفرقاء -أو الشركاء - فإن ترسيم حدود لبنان البحرية يجب أن يكون عاملاً يوحد الجهود لتقوية موقف لبنان التفاوضي، لعدم تفويت فرصة خروج لبنان من مأزقه الاقتصادي.

ومن مصلحة الدولة اللبنانية تهيئة البيئة الإدارية للتعامل مع استخراج الثروات الكامنة في قاع البحر، وأن لا تكتفي بالتعامل مع ترسيم الحدود من زاوية سياسية أمنية، فدون اتباع معايير الحوكمة الرشيدة في إدارة هذه الثروات، فإنها ستخضع لمنطق المحاصصة التي تقصي هذا الطرف أو ذاك، فمنذ اتفاق الطائف تعيد معظم النخب السياسية في لبنان تدوير الملفات وفق توافقات لا يكون المستفيد منها لبنان الكلي، وإنما نخب تقود هويات فرعية تناصرها وتنتصر بها في معاركها الجانبية.

 

 

 

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات