الناس كلهم عيال الله... فهلّا يتعايشون؟

لقد بات التعاون بين الناس من مختلف الحضارات والعقائد والأديان ضرورة ملحة وعاجلة لا تحتمل التسويف أو التأجيل؛ وذلك من أجل إنقاذ البشرية من أطروحات صدام الحضارات وصراع الثقافات التي يبشر بها البعض ومن كل المشارب والعقائد الأيديولوجية المتدينة أو المتعلمنة على السواء؛ لأن الصدام –إن حصل لا قدر الله – فإنه لن يبقي ولن يذر ولن يسلم من شره أحد سواء أكان منتصراً أم منهزماً.

الكاتب حسن إسميك
  • تاريخ النشر – ٠٥‏/٠٤‏/٢٠٢١

أخذتني الدهشة وأنا أقرأ ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "الخلق عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله". ثم نظرت فيما وصلت إليه حالتنا الفكرية من ضحالة وعنصرية تجاه الآخرين المختلفين عنا في الدين والمعتقد؛ فكأننا خصصنا أنفسنا فقط، دوناً عن بقية الخلق، بفئة عيال الله والمستحقين رعايته.

ورغم الخطاب النبوي الذي شمل الناس كلهم بالعناية والرعاية وفعل الخير، إلا أننا قزّمنا التوجيه وحصرناه فيمن هم على عقيدتنا دون الآخرين، وحذفنا العائلة الإنسانية من قاموسنا بحيث انعكس ذلك على طبيعة فكرنا الديني، فأدخلنا أنفسنا في عداء مع باقي البشر بحجة أنهم مختلفون عنا، متناسين أن الخلق كلهم عيال الله، وأنهم جميعاً فقراء لرحمته ومحتاجون إلى التعاطف فيما بينهم كأخوة في الإنسانية ونظراء في الخلق.

وبعد كل هذا التردي الذي نراه في خطاب من منعهم تعصبهم من الانفتاح على الآخر بحجة اختلاف العقيدة، أما آن الأوان أن ننبذ هذا الخطاب ونعمل على نقده ورفضه، ونكرس بدلاً عنه خطاب الدعوة من أجل تقديم النفع لكل الناس، وبحسب ما يوصي به الحديث الشريف، أي كان معتقدهم وإيمانهم؟

لقد بات التعاون بين الناس من مختلف الحضارات والعقائد والأديان ضرورة ملحة وعاجلة لا تحتمل التسويف أو التأجيل؛ وذلك من أجل إنقاذ البشرية من أطروحات صدام الحضارات وصراع الثقافات التي يبشر بها البعض ومن كل المشارب والعقائد الأيديولوجية المتدينة أو المتعلمنة على السواء؛ لأن الصدام –إن حصل لا قدر الله – فإنه لن يبقي ولن يذر ولن يسلم من شره أحد سواء أكان منتصراً أم منهزماً. 

لذلك فنحن مطالبون جميعاً، مسلمين وغير مسلمين، أن ننشر مبادئ التعاطف والتراحم وقيم الحوار بين الناس من أجل شيوع ثقافة السلم والتعايش المشترك والتعاون على البر والخير والعمل الصالح. والذي يدفعني لأنبّه إلى أهمية وضرورة ذلك –خاصة في منطقتنا المتدينة شعوبها- هو ما نسمعه ونشاهده من انتشار كبير لمفاهيم غريبة على جوهر ما جاءت به أدياننا وشرائعنا السمحة؛ حيث يكاد الكل يرجون من الله في دعائهم أن ينصرهم على أهل العقائد الأخرى، ويهلك أهلها ويشتت جمعهم ويرمّل نساءهم وييتم أطفالهم ...إلى آخر مفردات معجم الكراهية والتعصب الذي لا يعترف بنظرائنا في الخلق أو المختلفين عنا في الدين والعقيدة.

وأود الإشارة هنا إلى أهمية المادة الأولى من إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام –الذي صدر في 5 آب (أغسطس) 1990 متضمناً: "أن البشر جميعاً أسرة واحدة جمعت بينهم العبودية لله والنبوة لآدم وجميع الناس متساوون في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسؤولية دون تمييز بينهم بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس أو المعتقد الديني أو الانتماء السياسي أو الوضع الاجتماعي أو غير ذلك من الاعتبارات. وأن العقيدة الصحيحة هي الضمان لنمو هذه الكرامة على طريق تكامل الإنسان. وبأن الخلق كلهم عيال الله وأن أحبهم إليه أنفعهم لعياله وأنه لا فضل لأحد منهم على الآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح". 

وأجد نفسي متفقاً تماماً مع الرأي القائل بأن "إسلام الناس هو ذلك الإسلام الفطري الذي يفرح لذكر الله في الصوامع والمساجد والكنائس حيث يذكر اسم الله كثيراً، يغني لله في الأعالي وينشر في الأرض المحبة وعلى الناس المسرة وفي الأرض السلام، أما إسلام الكهنة فهو ذلك الذي يرى أن الإسلام قطيعة تامة مع كل عقائد الأرض، وأن أي وفاق أو وئام بين الأديان هو استلاب في العقيدة ووهن في الانتماء، وأن أصل الإسلام الولاء والبراء، أن توالي إخوانك في المذهب وتعادي الأمم وتتعبد الله ببغض الناس من أي ملة كانوا ومن أي دين كانوا، إلا أولئك الذين يطابقونك في الأصول والفروع "!

وأخلص من ذلك كله إلى القول بإن الإنسان الأحبّ إلى الله من غيره هو الأنفع للناس؛ لأن البشرية كلها بمثابة الأسرة الواحدة في منظور النبي صلى الله عليه وسلم.

لقد غدا التعايش السلمي ضرورة مجتمعية محلية وعالمية؛ ونحن في أشد الحاجة إليه بين الناس أكثر من أي وقت مضى، نظراً إلى أن التقارب بين الثقافات والتفاعل بين الحضارات يزداد يوماً بعد يوم بفضل ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية التي أزالت الحواجز الزمانية والمكانية بين الأمم والشعوب.

وقد صدرت في ذلك عدة دعوات نبيلة وكريمة من عدة جهات في العالم ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما صدر عن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث؛ الذي خصص دورته الخامسة والعشرين لبحث موضوع "العيش المشترك في أوروبا، تأصيلًا وتنزيلًا"، حيث أعلن وثيقة مبادئ العيش المشترك التي تضمنت عدة بنود كان من أبرزها: 

-التسليم بوحدة الأصل الإنساني، فلقد خلق الله عز وجل الناس جميعًا من أصل واحد؛ ويقتضي التسليمُ بوحدة الأصل الإقرارَ بمساواة الناس جميعًا في الاعتبار الإنساني والكرامة.

-احترام الكرامة الإنسانية ومراعاة حقوق الإنسان. فالبشر جميعًا متساوون في هذا الأصل فلا يقبل الاعتداء عليهم أو امتهان كراماتهم أو سلب حقوقهم.

ولا شك أن البشـرية جمعاء في حاجة إلى تأكيد منظومة القيم الإنسانية، كما أن حتمية التعايش مع الآخر لا بد أن تقابل بحتمية العدالة والبر بكافة الناس، والحض على أن التعايش بين جميع البشر على اختلاف أعراقهم وأجناسهم ودياناتهم هو السبيل الوحيد لتعزيز السلام العالمي.     

وليس التسامح مجرد قيمة معنوية زائدة ومجردة، بل هو ضرورة حياتية تبقى الحاجة إليها قائمة ما دام هناك إنسان يمارس العنف والإقصاء والتكفير، ويرفض التعايش السلمي مع الآخر المختلف، بل إن الحاجة إلى التسامح تشتدُّ مع اتّساع التنوّع العرقي والديني، كونه الطريقة الأفضل لامتصاص تداعيات الاحتكاك بين القوميات والثّقافات والأديان، والخروج بها من دائرة المواجهة إلى مستوى التعايش والتراحم والانسجام.   

لهذا كله لم يبق أمام شعوب منطقتنا خيار للحدّ من ثقافة الكراهية والعداء والإقصاء المتفشية في كل مكان سوى قيم التسامح والتعايش؛ وذلك بنزع فتائل التوتر وتحقيق التفاهم بدل الاقتتال والتناحر.                                                                  

كما أننا مطالبون بضرورة النظر لسائر الأمم والشعوب على أنهم عيال الله وخلقه الذين كرّمهم ودعا إلى احترام قيمتهم الإنسانية. وعلينا الاعتراف بأن الاختلاف بين البشر قائم بحكم التنوع الثقافي والعرقي والديني والمذهبي؛ وعليه لا بد من تقبل هذا التنوع والاختلاف واحترامه كسنة من سنن الله في الكون، (وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ).

 

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS