المصطلح السياسي والتحرر من قيد الماضي
المصطلح مفتاح العلوم ووعاء الأفكار، ولا يقوم المنهج إلى أساس مكين من المصطلحات المتماسكة والدقيقة والمعبرة والشاملة، تحمل –بالإضافة إلى معانيها المباشرة– مجموعة من الدلالات والإشارات المباشرة وغير المباشرة.
الكاتب حسن إسميك
- تاريخ النشر – ٠٤/٠٧/٢٠٢٢
المصطلح مفتاح العلوم ووعاء الأفكار، ولا يقوم المنهج إلى أساس مكين من المصطلحات المتماسكة والدقيقة والمعبرة والشاملة، تحمل –بالإضافة إلى معانيها المباشرة– مجموعة من الدلالات والإشارات المباشرة وغير المباشرة، التي توصل المعنى المطلوب إلى المتلقي دون لبس أو ارتباك، بالإضافة إلى بعض المقاصد غير المباشرة التي قد يرغب المتحدث بإيصالها. وكلما كانت ترسانتك من المصلحات كبيرة وشاملة وتخصصية، كلما استطعت إيصال ما تريد بشكل أفضل وأمثل وأسهل.
حتى مادة "صلح" في اللغة العربية تكون على معنيين، الأول: "الصُّلْحُ" والثاني: "الصَّلاحُ". الصُّلح تصلح القوم بينهم، والصَّلاحُ نقيض الفساد، والصَّلاحُ بمعنى المصالحة، وتصالح القوم واصطلحوا بمعنى واحد، وبين المعنيين تقارب في دلالة كل منهما، فمن المعلوم أن إصلاح الفساد بين القوم لا يتم إلا باتفاقهم. أما تعريف "المصطلح" اصطلاحاً: فهو اتفاق مجموعة على تسمية الشيء باسم ما فينقله –وهنا مربط الفرس– عن موضعه الأول، وهو أيضاً إخراج اللفظ عن معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما. فالمعنى الدلالي إذن هو ما يجعل من لفظ أو كلمة ما "مصطلحاً". ويقال في العربية إنه «ينبغي لمن يتكلم في علم أو فن أن يورد الألفاظ المتعارفة فيه مستعملاً معانيها المعروفة عند أربابها، ومخالف ذلك إما جاهلٌ بمقتضى المقام، أو قاصدٌ الإبهام أو الإيهام».
لا تقلل العربية إذن من أهمية المصطلحات، بل تنصفها وتظهر دورها وضرورتها، هذا في النظرية، لكن ما حال التطبيق؟ وهل تمتلك لغتنا ما يكفي من المصطلحات لتناسب الحداثة والعصر الذي نعيش فيه، وإذا بتنا نتكئُ على استخدام المصطلحات الأجنبية في العلوم والمجالات التقنية وحتى بعض الفنون، فهل هذا ممكن في السياسة، والسؤال الأهم: هل هو مجدٍ في زمن بات من اللازم فيه على الخطاب السياسي العربي أن يواجه جملة من التحديات الإقليمية والعالمية ليضمن حداً أدنى من المكانة والتأثير لدولنا العربية في المشهد السياسي العام؟
ليست "أزمة المصطلحات" في اللغة العربية خافية على أحد، لكن الاعتراف بها في مجال العلوم التطبيقية مثلاً أعلى بكثير منه في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وفي مقدمتها السياسة، والتي بدل أن تشهد عملية تطوير وعصرنة، وإنتاج لمصطلحات جديدة وحداثية، لا تزال تعيش حالة من النكوص تتجلى في العودة إلى مصطلحات قديمة، أوجدتها بواكير الثقافة العربية الإسلامية الأولى بهذا الشأن، أي يتجاوز عمرها ألف عام ونيف، وإذا كانت في ذلك الزمن تعتبر مبتكرة وإبداعية تكسر النمط السائد لتؤسس مكانه نظاماً اجتماعياً فكرياً سياسياً جديداً، إلا أنهى اليوم باتت عاجزة عن تأدية ولو جزء من هذا الغرض، بل صارت تؤثر عكسياً بمجتمعاتنا وتعود بها إلى زمن ما قبل الحداثة، وتقف حائلاً بينها وبين مكاسب كبيرة في السياسة، خاصة وأننا نعيش اليوم ما يمكن تسميته "حرب مصطلحات" على حد تعبير الصحافي الإنكليزي المخضرم روبرت فيسك.
أبسط مثال يمكن إيراده في هذا السياق، هو الجدل المستمر حول مصطلحي "الشورى" و"الديمقراطية"، الذي تجاوز البعد الإجرائي لكلا المصطلحين –المتقارب بعض الشيء– ليعبر عن دلالات أخرى أبعد وأكبر، فهو جدل بين الديني والعلماني، بين العربي والأعجمي، بين الشرق والغرب، بين الإسلام والأديان الأخرى، بين حكم الشرع وحكم الشعب.. وبالطبع "الشورى" ليست "الديمقراطية" على الإطلاق، كما يحاول الكثير من "المصلحين" الادعاء لرأب الصدع بين أنصار هذه وتلك، ومن يدعي ذلك كمن يختبئ وراء إصبعه، فالأولى تختلف كثيراً عن الثانية، مثلما تختلف "الرعية" عن "الشعب"، و"وولي الأمر أو السلطان" عن "الرئيس أو الحاكم"، ومحاولة نبش كلمات من الذاكرة اللغوية لتناسب مفاهيم عصرية هي تصرفات سلبية، وغياب هذه المفاهيم العصرية عن اللغة العربية لا يقلل من قيمتها ولا من مكانتها، بل على العكس، يظهرها ضعيفة وغير مرنة وغير قادرة على مواكبة العصر.
والأسوأ من هذا وذاك أن رفض البعض للمصطلحات الحديثة، لا يقتصر على الجانب اللغوي فقط، بل هو رفض لقيم الدولة الحديثة، وأهمها الديمقراطية والمواطنة والتعددية، والتي باتت قيماً كونية يؤمن بها الجميع ويحاولون تمثلها وتبنيها، ولا أرها تتعارض أبداً مع روح الإسلام ولا مع مبادئه، فلماذا هذا الموقف الأصولي المتشدد منها، ولماذا نعمل بأيدينا على عزل أنفسنا عن العالم، ونرفض أن نواكب تطوره وحداثة فكره، فنخرج عن الإجماع الدولي حول منظومة المصطلحات العامة المستخدمة من قبل الجميع في التفاعل على الصعيد العالمي؟
أخشى فيما أخشاه أن هذه النزعة الارتكاسية في استخدام المصطلحات جاءت نتيجة ضعف النظام السياسي العربي بالعموم وعدم قدرته على الفصل بين مجالي الدين والدولة في ما ينبغي أن يكون فيه فصل، وتفاقمت أكثر مع تعاظم تيارات الإسلام السياسي، والتنظيمات الإرهابية المرتبطة به، فعدنا نسمع في العقدين الماضيين مصطلحات مثل: الولاية والخليفة والجزية والخراج والرق والسبايا والوصيفة ونكاح الجهاد.. ولكن في المقابل ارتبطت هذه النزعة بضعف منظومتنا المعرفية بالعموم، فلم يعد العرب من منتجي المعرفة، ومن ينتج المعرفة هو من يمتلك العلم والمنهج، وهو القادر على الابتكار والإبداع، وبالتالي يمتلك المعرفة وقوة المنطق ومنطق القوة وهو بالضرورة من ينتج المصطلح. أما مكمن الأزمة فيتلخص بأننا عندما لا ننتج مصطلحاتنا، فسينتجها لنا الآخرون، وبالتالي نكون من المستهلكين وليس من المنتجين، وهذه هي حالتنا اليوم يا للأسف؟!
عندما تمتلك المعرفة يصبح إنتاج المصطلحات أمراً هيناً، فكثيرون هم من ينتجون المصطلحات، السياسيون وكبار رجال الدولة، وسائل الإعلام، والأكاديميون (مثلما أوجد جوزيف ناي مصطلح "القوة الناعمة"، أو صموئيل هينتنغتون مصطلح "صدام الحضارات)، مراكز الأبحاث تؤدي هذه المهمة أيضاً خاصة في الولايات المتحدة. ولئن كان الشرق الأوسط أقل قدرة في العقود الأخيرة على إنتاج المصطلح، إلا أنه كانت المادة الدسمة لإنتاج الكثير من المصطلحات، والتي تبرر حروب ومخططات الدول الكبرى فيه، وأول هذه المصطلحات هي: fragmentation and integration أي (التجزئة والدمج) creative chaos أو (الفوضى الخلاقة) كما باتت تعرف عندنا، وغيرها الكثير.
وليس تطوير المصطلحات العربية بالأمر المستحيل، ولا هو مقتصر فقط على تعريب الكلمات من اللغات الأخرى، وقد كانت للعرب تجارب رائدة في هذا المجال في عصر الترجمة العربية، أبرزها طبعاً ما قام به مجموعة من المترجمين في عصر المأمون، وما قام به لاحقاً فلاسفة العرب مثل: الكندي والفارابي وابن سينا ... في مجال الفلسفة والسياسة، وما قام به الفيلسوف والمفكر العربي ابن خلدون، أحد المؤسسين لعلم العمران أو الفكر السياسي الحديث، والذي كان من أوائل دارسي نشوء الدولة وتطورها وعوامل قيامها ونهوضها، وأسباب ضعفها وانحدارها وسقوطها. وأوجد لهذا الغرض مجموعة من المصطلحات الجديدة، مثل الوازع والعصبية والملك، والعمران طبعاً، ورغم كل التفكك الانحلال وتراجع القوة والدور الذي كانت تعانيه الدولة العربية في عصره، إلا أنه كان قادراً على العودة إلى القرآن الكريم والسنة النبوية بالإضافة إلى التاريخ وأحداثه المختلفة بالعموم، ليبني على أساسها نظريته الجديدة في الاجتماع والسياسة –وما يتفرع عنها في عدة علوم أخرى كالاقتصاد مثلاً– وبمصطلحات مستحدثة تتناسب معها، فكان مؤسس علم الاجتماع وما زالت نظريته مرجعاً يدرس في كثير من دول العالم العربية وغير العربية.
يقول عبد السلام المسدي، الأكاديمي والدبلوماسي التونسي: «مفاتيح العلوم مصطلحاتها، ومصطلحات العلوم ثمارها القصوى، وما من مسلك يتوسل به الإنسان إلى منطق العلم غير ألفاظه الاصطلاحية». فكم من هذه المفاتيح يمتلك العرب اليوم، في علم السياسة على وجه التحديد، وإلى متى سيظل كثيرون يستخدمون مصطلحات سياسية عفا عليها الزمن ظناً منهم أنهم يعيدون إحياء الدولة العربية الإسلامية الأولى، وفي الحقيقة هم يصرون على استخدام المصطلحات الدينية التي كانت رائجة زمن العثمانيين (والمستمدة بالأصل من الآداب السلطانية المعروفة بربطها المطلق بين الشرع وبين كل ما هو متعلق بالسلطة)، ولا يجهل أحد ما حمله هذا الزمن على العرب من تخلّف وتراجع وتقهقر في مختلف المجالات الحضارية، بل وأقول إن تأثيراته السلبية ما زالت إلى اليوم تلاحق المجتمعات العربية التي لمَّا تتخلص منها كلها بعد.
وفي النهاية لا بد من القول، أن دعوتي هذه للتجديد لا تقلل من أهمية التراث السياسي للإسلام والمسلمين، بل أتمنى لو نغرف منه كل ما يتناسب مع زمننا وعصرنا، وأن نستفيد من نتاج الحضارات الأخرى في الوقت ذاته، ولا نتعصب للغتنا، فهي وإن كانت لغة المقدس (أي القرآن الكريم) إلا أنه ينبغي أن لا نحملها بذاتها، من حيث كونها لغتنا كبشر، صفة القداسة، بل ولنركز عليها من هي آداه أو وسيلة للتواصل مع الأمم والشعوب، وبالتالي يجب ان تكون كائناً حياً متطوراً، قادرة على استيعاب كل جديد في عالم المعرفة، بحيث تساير سيرورة التقدم العلمي والتكنولوجي المعاصر، وهذا أمر في غاية الأهمية، وهنا تكمن المرونة والقدرة على التطور.. هذا التطور لن يأتي إذا ما بقينا عالقين في الذاكرة الإصلاحية الفقهية، نحاول أن نُلبس المستقبل ثوب الماضي. يقول جورج أورويل في مقاله الشهير "السياسة واللغة الإنكليزية": إنَّ «تدهور اللغة يجب أن يكون له في النهاية أسباب سياسية واقتصادية، ولا يرجع لتأثير هذا الكاتب السيء أو ذاك، لكن يمكن أن تصبح النتيجة سبباً، وتعزز بدورها السبب الأصلي، ليُعاد إنتاجها بشكل مكثف، وهكذا إلى أجل غير مسمى». وفي حالتنا العربية الراهنة، قد يكون تراجع قدرتنا على إنتاج المصطلحات، ومحاولة تطبيق القديم على الحديث، ناجمة عن جملة من الأسباب السياسة والاقتصادية والثقافية، لكن هذا الارتكاس قد يصبح بحد ذاته مغذياً لتلك الأسباب ومعززاً لها، هذا ما يجب التنبه إليه قبل فوات الأوان.
حسن إسميك
رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS