المشهد المحلي والإقليمي بعد استقالة الشيخة حسينة في بنغلادش

من المبكر الحكم بتحقق الاستقرار في بنغلادش والتأسيس لنظام سياسي جديد بعد استقالة الشيخة حسينة وتشكيل حكومة مؤقتة، كما أن توقع أفول أطراف المرحلة السابقة يبدو مستبعدًا لا سيما حزب "رابطة عوامي" الذي يحكم البلاد منذ سبعينات القرن الماضي.

الكاتب ستراتيجيكس
  • تاريخ النشر – ١٣‏/٠٨‏/٢٠٢٤

بعد أكثر من شهر على الاحتجاجات الطلابية والشعبية المتواصلة في بنغلادش، والتي أسفرت عن آلاف القتلى والمصابين من المتظاهرين ورجال الشرطة، تم الإعلان عن استقالة رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد، في 6 أغسطس 2024، ومغادرتها إلى الهند، ليتبع ذلك مباشرة قرار الرئيس البنغالي محمد شهاب الدين بالإفراج عن رئيسة الوزراء السابقة ورئيسة الحزب الوطني البنغالي المعارض خالدة ضياء، وغيرها من المعتقلين، ورفع حظر التجوال، ثم الإعلان عن أداء الدكتور محمد يونس، الحائز على جائزة نوبل للسلام، في 8 أغسطس، لليمين الدستورية رئيساً لحكومة مؤقتة بضغوط من الحراك الطلابي الذي قاد تلك الاحتجاجات. ورغم أنّ تلك الاحتجاجات اندلعت مطلع يوليو 2024 بقيادة حراك "طلبة ضد التمييز" وجاءت بعد عدة شهور من الانتخابات البرلمانية في يناير 2024، ثم تجددت بعد اعتراض الحراكات الطلابية على "نظام الحصص" في إشغال الوظائف الحكومية، إلا أنّها ليست معزولة عن جملة المعطيات التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، كما أنها تطرح العديد من التساؤلات حول جذورها، ومحركاتها، وتداعياتها المستقبلية في داخل البلاد وفي الدول القريبة.

عوامل الحراك وتصاعده

قاد حراك "طلبة ضد التمييز" مسيرة الاحتجاجات الأخيرة في بنغلادش، إلا أنّ نجاح ذلك الحراك جاء في سياق تفاعلات العديد من العوامل الداخلية والخارجية التي عملت على إنضاج الظروف اللازمة لنجاحه، وأهم تلك العوامل:

أولاً: حالة الحراك المعارض المستمرة منذ أن تم انتخاب الشيخة حسينة للمرة الرابعة على التوالي منذ عام 2009، بعد فوز حزبها "رابطة عوامي" في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في يناير 2024، وسط مقاطعة معظم الأحزاب المعارضة لا سيما الحزب الوطني البنغالي والأحزاب الإسلامية، وجاءت نسب المشاركة متدنية إذ بلغت 40%. ومن المرجح أن تكون المعارضة قد اعتمدت على الدعم الأمريكي لتشكيل حكومة محايدة، حيث اتخذت واشنطن خطوات سابقة لدعم عملية انتقال السلطة في بنغلادش لا سيما باعتمادها على نظام تأشيرات جديد يُتيح للسلطات الأمريكية رفض منحها للأفراد والكيانات المتهمين بعرقلة الانتخابات الحرة والنزيهة في البلاد، وبالمثل لم يُرسل الاتحاد الأوروبي مراقبين على الانتخابات بدعوى أنها تفتقر إلى مقومات النزاهة والحرية.

المشهد-المحلي-والإقليمي-بعد-استقالة-الشيخة-حسينة-في-بنغلادش-in-2.jpg

ثانياً: الارتباط البنيوي ما بين نظامي الحكم في بنغلادش والهند، وهو ارتباط سياسي وأمني واقتصادي بدأ مع تأسيس بنغلادش وحكم الشيخ مجيب الرحمن زعيم "رابطة عوامي" للبلاد، وتعزز في عهد ابنته الشيخة حسينة، إذ دعمت الهند الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي فازت بها الشيخة حسينة، لارتباطها بمصالحها الأساسية لا سيما الاقتصادية حيث تجاوز حجم التجارة الثنائية بين الدولتين 15 مليار دولار عام 2022، إلى جانب تخوف الهند من منافسي رئيسة الوزراء الشيخة حسينة سواء الإسلاميين أو الحزب الوطني، المقربين من باكستان.

ثالثاً: حالة السخط الشعبي على نظام الحصص في إشغال الوظائف الحكومية الذي تم سنّه مع تأسيس بنغلادش في العام 1971، ويخصص أكثر من 50% من الوظائف الهامة والمرموقة في الدولة لشرائح محددة كأبناء المحاربين القدامى، والمقربين من الحزب الحاكم وأقربائهم. وقد دفعت احتجاجات طلابية في العام 2018 الشيخة حسينة إلى إلغاء ذلك القانون، قبل أن تُعيد المحكمة العليا العمل به في يونيو 2024.

رابعاً: زادت الأوضاع الاقتصادية من وتيرة الاحتجاج على قرار المحكمة العليا، حيث معدلات البطالة بين الشباب مرتفعة، وهناك ما يقرب من 23 مليون عاطل عن العمل بحسب وكالة رويترز من إجمالي عدد السكان البالغ 170 مليون نسمة، في وقت يُشكل فيه القطاع العام المحرك الأول للوظائف مُقابل انخفاض الطلب على الوظائف في القطاع الخاص.

خامساً: بدأت الاحتجاجات على شكل إضرابات لأعضاء الهيئات التدريسية والطلاب في الجامعات الحكومية، احتجاجاً على تقديم الحكومة مشروع قانون لإصلاح نظام التقاعد، والذي يتضمن خصماً على الرواتب، وقد أدى الإضراب إلى إغلاق جميع الجامعات الحكومية ومن بينها جامعة دكا، إلا أن عدم استجابة الحكومة لمطالبهم أدى إلى انتقال المحتجين للشوارع، ما أدى إلى مواجهات مع الشرطة أسفرت عن مقتل آلاف المحتجين، وفرض حظر التجوال ونشر الجيش للمساعدة في ضبط الشارع إلا أن ذلك لم يُسهم في السيطرة على الوضع الذي تفاقم وتدهور بشدة.

سادساً: حالة الصراع الدائمة ما بين باكستان وبنغلادش، والتي كانت جزءاً من الخطابات المرافقة للاحتجاجات، فقد وصفت الشيخة حسينة المحتجين منذ الأيام الأولى بمصطلح رزاكار (rajakar) والذي كان يُشير إلى المواطنين الموالين لباكستان إبان حرب الاستقلال عام 1971، بالإضافة إلى دور "الجماعة الإسلامية" المحظورة في بنغلادش، والتي تربطها علاقات متينة بالجماعة الإسلامية العاملة في باكستان، حيث أعلن زعيم الجماعة في بنغلادش الشيخ شفيق الرحمن دعمه الكامل للحكومة الجديدة، وطالب الحكومة الهندية بتسليم الشيخة حسينة لمحاكمتها في البلاد.

هل تؤدي الاحتجاجات إلى تأثير الدومينو؟

من المُبكر الحكم بتحقق الاستقرار في بنغلادش والتأسيس لنظام سياسي جديد بعد استقالة الشيخة حسينة وتشكيل حكومة مؤقتة يُديرها رئيس الوزراء الجديد محمد يونس، فبالرغم من أن الأخير اعتبر نهاية حكم حسينة بمثابة "الاستقلال الثاني" لبنغلادش، إلا أن توقع أفول أطراف المرحلة السابقة يبدو مستبعداً، لا سيما حزب رابطة عوامي الذي يحكم البلاد منذ سبعينات القرن الماضي، والهند التي تربطها مع بنغلادش علاقات تاريخية واقتصادية وتشترك معها بحدود يبلغ طولها حوالي 4 آلاف كيلومتر. وهو ما يُنذر بتغذية الاستقطاب الداخلي بين المناصرين للهند وباكستان، وبعودة التنافس الجيوسياسي بين الدولتين والصراع لاكتساب المكانة والنفوذ في بنغلادش.

المشهد-المحلي-والإقليمي-بعد-استقالة-حسينة-في-بنغلادش-inn-1.jpg

أما على الصعيد الإقليمي، فإن تداعيات ما حدث، قد تُلقي بظلالها على مختلف دول المنطقة، وتعزز من مخاوف انتقال الاضطرابات في بنغلادش إلى دول الجوار، وبشكل مشابه لسلسلة الاحتجاجات التي رافقت ما يُعرف بـ"الثورات الملونة" في أوروبا الشرقية، والتي بدأت في جورجيا عام 2012، وامتدت لتصل أوكرانيا عام 2014، أو في أحداث "الربيع العربي" التي بدأت في تونس عام 2011 وامتدت على نطاق واسع من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وهو ما يُعرف بنظرية "تأثير الدومينو" المنسوبة للرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور، والمبنية على "رد الفعل المتسلسل" الناتج عن انهيار قطعة الدومينو الأولى، حيث يؤدي انهيار النظام السياسي في بلد ما إلى انهيارات متتالية في البلدان المجاورة ذات الظروف المتشابهة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.

مع ذلك؛ فإن الحالة في بنغلادش تبدو مختلفة نسبياً، وأقل احتمالاً لانتقالها وفق منظور "تأثير الدومينو" إلى الدول المجاورة وإن كان ليس مستبعداً تماماً، وذلك بسبب اختلاف المعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقلة المساحات المشتركة ما بينها، كما كان حاصلاً في حالة أوروبا الشرقية، أو العالم العربي، فبنغلادش محاطة بالهند من جهات الشرق والغرب والشمال، وبورما (ميانمار) من الجنوب الشرقي، وأقرب الدول إليها بعد ذلك هي تايلاند، ولاوس، وكمبوديا، وبوتان، ونيبال. إلا أن الاضطرابات في بنغلادش يُمكن أن تُغذي حالات عدم الاستقرار القائمة بالفعل في دول مثل بورما (ميانمار)، والتي تشهد سلسلة من الحروب الأهلية منذ عقود بين الجيش ومتمردي أراكان وهم مجموعة عرقية مسلحة تطالب بالحكم الذاتي في منطقة راخين.

وأخيراً؛ تختم الاحداث الأخيرة تاريخ ملئ بالاحتجاجات الطلابية في بنغلادش منذ ستينات القرن الماضي، إلا أن البلاد تدخل مرحلة جديدة مفتوحة على سيناريوهات متعددة تُحددها طبيعة التفاعل ما بين اللاعبين التقليديين والجدد على المستوى المحلي، وكذلك مستوى التدخلات الإقليمية والدولية في شؤون البلاد المستقبلية لا سيما بين مجموعة من الدول شديدة التنافس سواء باكستان والهند أو الولايات المتحدة والصين. وبناء على ذلك فمن المرجح أن تستغرق البلاد وقتاً طويلاً للعودة إلى حالة من الهدوء والاستقرار الداخلي.

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات