المشهد الأوروبي بعد صعود اليسار في بريطانيا وفرنسا
تقدير موقف يتطرق إلى نتائج الانتخابات في بريطانيا وفرنسا وانعكاسها على الانتخابات المستقبلية في مختلف الدول الأوروبية، وعلى مجمل السياسة الأوروبية تجاه الملفات الراهنة.
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ١١/٠٧/٢٠٢٤
شهدت نتائج الانتخابات البريطانية والفرنسية تحولاً في المشهد السياسي للدولتين، بعدما أسفرت نتائج الانتخابات عن تفوق التيارات اليسارية فيهما، وفي ظل ظروف محلية مختلفة بين الحالتين، إذ حصل حزب العمال البريطاني على 412 مقعداً في مجلس العموم البريطاني من أصل 650 مقعداً، في الانتخابات التي أجريت في 5 يوليو 2024، وتعيين كير ستارمر رئيساً للوزراء خلفاً لريتشي سوناك، وفي فرنسا حصل تحالف الجبهة الشعبية الجديدة على المركز الأول في الدورة الثانية من الانتخابات التي جرت في 8 يوليو، بعد حصوله على 182 مقعداً في الجمعية الوطنية من أصل 577 مقعداً، متفوقاً على معسكر الرئيس ماكرون الذي جاء في المرتبة الثانية بحصوله على 168 مقعداً. ومن شأن هذه النتائج أن تنعكس على الانتخابات المستقبلية في مختلف الدول الأوروبية، وعلى مجمل السياسة الأوروبية تجاه الملفات الراهنة وفي مقدمتها الحرب الروسية-الأوكرانية، والحرب في قطاع غزة.
التحول نحو اليسار
يُثير التحول الكبير في الانتخابات البريطانية والفرنسية تساؤلات حول الأسباب التي دفعت الناخبين لتفضيل اليسار، في وقت يتجه فيه مركز الثقل الأوروبي نحو اليمين وأقصى اليمين، فقد تصدرت تيارات أقصى اليمين في الانتخابات الأوروبية التي جرت في يونيو 2024 في عدد من الدول، ومنها فرنسا وإيطاليا والنمسا والمجر وإسبانيا وحلت في المركزين الثاني والثالث في دول أخرى مثل ألمانيا وهولندا. وقد شكل أقصى اليمين الحكومة في هولندا في مايو 2024، فيما تحكم إيطاليا حكومة يمينية بزعامة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني منذ أكتوبر 2022. مع ذلك تُشير التحولات المحلية في بريطانيا وفرنسا إلى مؤشرات داخلية دفعت الناخبين لتفضيل عملية التغيير السياسي، ومن بين تلك المؤشرات نذكر ما يلي:
أولاً: لعبت القضايا الاقتصادية دوراً رئيسياً في تحريك الناخبين نحو اليسار، وتحديداً في ارتفاع تكاليف الغذاء والدواء والطاقة، ففي مارس 2022، ارتفعت أسعار الطاقة في بريطانيا بشكل قياسي وبنسبة بلغت 54%. إلى جانب محاولات الحكومتين المحافظتين في فرنسا وبريطانيا تغيير القواعد الاجتماعية، فكثيراً ما اتهمت الحكومة الفرنسية بسياستها الساعية لتغيير القواعد الاجتماعية والاقتصادية مثل قانون التقاعد الذي أدى إلى موجات احتجاج متعددة، مما يُشير أن الكتلة التصويتية الأكثر حسماً في الانتخابات اتجهت للتصويت بشكل "احتجاجي" تجاه السياسات الحكومية في الدولتين، ورغبة منها بتغيير الوضع الاجتماعي والنهج الاقتصادي القائم في الدولتين.
ثانياً: إن فوز اليسار في الدولتين لا يعني تراجع حقيقي لتيارات اليمين، حيث كان من المتوقع أن يُحقق حزب المحافظين في بريطانيا نتائج أكثر سوءاً من تلك التي حققها، وفي فرنسا حل معسكر ماكرون ثانياً، وتيارات أقصى اليمين ثالثاً. وذلك يُشير أن تعثر اليسار في أي من التجربتين قد يدفع مرة أخرى بالناخبين لتفضيل التيارات اليمينية، وبشكل مماثل لما حدث في الانتخابات الهولندية والإيطالية، وقد أشار رئيس الوزراء البريطاني الجديد في أول اجتماع للحكومة البريطانية الجديدة إلى حجم "التحدي الهائل المتمثل في إصلاح الكثير من المشاكل الداخلية، وكسب تأييد الجمهور الذي سئم من سنوات من التقشف والفوضى السياسية والاقتصاد المنهك".
ثالثاً: إن المكاسب التي حققتها تيارات أقصى اليمين في الانتخابات الأوروبية، لا تنعكس بالضرورة على الانتخابات البرلمانية المحلية في الدول الأوروبية، فبينما تقدمت تيارات أقصى اليمين في الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية، تراجعت حصصها في الجولة الثانية وحصدت التيارات اليسارية الأغلبية فيها. ذلك أن السياسات الأوروبية تختلف عنها في السياسات الأكثر أولوية للمجتمعات الوطنية الأوروبية، وخاصة كما ذكرنا سابقاً السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تصب في اختصاص الهيئات الوطنية.
رابعاً: ركزت تيارات أقصى اليمين حملاتها الانتخابية على القضايا الخارجية، إذ تعتبر قضايا السيادة الوطنية وقضايا الهجرة والموقف من الحرب الروسية الأوكرانية رافعة لخطابات اليمين الانتخابية، في حين ان تيارات اليسار تُركز أجندتها على القضايا الاقتصادية والاجتماعية المحلية، مثل الوظائف والتعليم والرعاية الصحية، مع تقاربها النسبي في السياسة الخارجية مع التيارات المحافظة.
حدود التغيير في المشهد الأوروبي والدولي
قد لا يُشير فوز التيارات اليسارية في دول أوروبية كُبرى مثل بريطانيا وفرنسا بالضرورة إلى أن تشهد بقية دول أوروبا مداً يسارياً بالضرورة، مع الإشارة إلى اختلاف الحالة الانتخابية في كل دولة عن الأخرى، مع ذلك فإن أوروبا تشهد استقطاباً متزايداً ما بين اليسار واليمين، إلا أن انعكاسات نتائج الانتخاب على المؤسسات الأوروبية المشتركة ستبقى متواضعة مُقارنة بالمخاوف السابقة من تصدر تيارات أقصى اليمين للانتخابات خاصة في فرنسا، حيث يعتبر اليسار ذو سياسة خارجية تقليدية تجاه التحالفات الأوروبية والدولية، بخلاف التيارات اليمينية والمحافظة التي قادت بريطانيا للانسحاب من الاتحاد الأوروبي عام 2016. لكن على أوروبا التأقلم على تمرير سياستها المشتركة والوطنية في وسط ملئ بالتوترات، ويبقى الحُكم على الانعكاسات الفعلية بانتظار ما ستفضي إليه الانتخابات الأمريكية، وخاصة إذا ما أعيد انتخاب دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة لمرة ثانية، وأصبحت أوروبا بحاجة مجدداً للبحث عن استقلالها الاستراتيجي واعتمادها الذاتي دفاعياً واقتصادياً وسياسياً، فسيعيد ذلك الاستقطاب تعريف هوية القارة من جديد، خاصة مع بقاء تيارات أقصى اليمين قوة ماثلة تحكم في الدول الكبيرة ولديها قوة تصويتية في البرلمان الأوروبي.
وبشكل عام؛ لا تُشير المعطيات إلى تغيرات جوهرية في سياسة الدولتين تجاه القضايا الدولية، وتحديداً الحرب في أوكرانيا وفي قطاع غزة. فيما القضايا الأكثر أولوية التي سيكون على الحكومة البريطانية العمل عليها في الساحة الدولية تتمثل في التعامل مع التغيرات التي يشهدها النظام الدولي، والعلاقات التجارية مع الصين، مع ذلك؛ يُمكن أن يشهد الخطاب البريطاني تغيراً وضغطاً تجاه الحرب في قطاع غزة، قد يكون في موقف الحكومة البريطانية من التحقيق الذي تجريه المحكمة الجنائية الدولية، والعدل الدولية، وتنشيط دعواتها لوقف إطلاق النار، لكن دون تغيرات جوهرية فيما يتعلق بمجريات الحرب والموقف من إسرائيل.
في المقابل؛ تبدو الصورة أكثر ضبابية في فرنسا، حيث التغيرات في السياسية الخارجية والحرب في قطاع غزة، محكومة بشكل الحكومة القادمة، فمن المحتمل أن يتضاعف الضغط على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تجاه موقفه من الحرب وحل الدولتين وكذلك الاعتراف بالدولة الفلسطينية، في حال كان حزب "فرنسا الأبية" المنتمي لأقصى اليسار جزءاً مباشراً في التحالف الحكومي، وتقل تلك التغيرات في حالة تم اختيار مرشح "تكنوقراطي" لرئاسة الحكومة، حيث لن يكون لتلك الحكومة أي دور في سياسات الدولة الخارجية.
وفي الواقع؛ سوف تسيطر القضايا والسياسات المحلية على أولويات العمل الحكومي في بريطانيا، وستكون التغيرات ملموسة على المستوى المحلي، وخاصة في حاجة التيارات اليسارية إلى إعادة ترسيخ وجودها على الساحة المحلية بعد أن واجهت مخاطر جدية بالانسحاب من المشهد.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات