العرب والقراءة... ماذا يعني إغلاق المكتبات؟
يُظهر البحث السريع على الإنترنت أرقاماً مخيفة بحق، من قبيل أن الطفل العربي يقرأ كتاباً واحداً سنوياً مقارنة بالأطفال البريطانيين الذين يقرؤون سبعة كتب في السنة، والأطفال الأمريكيين الذين يقرؤون 11 كتاباً. وفي المتوسط ، يتم إصدار كتاب واحد لكل 12000 مواطناً يعيشون في العالم العربي مقارنة بكتاب واحد لكل 500 مواطن بريطاني وواحد لكل 900 مواطن ألماني.
الكاتب حسن إسميك
- تاريخ النشر – ٠١/٠٨/٢٠٢٢
منذ نحو ستة أعوام، وفي 16 حزيران/يونيو 2016 بالتحديد، نشرت صحيفة الإيكونومست البريطانية الأسبوعية مقالاً عن الكتب في العالم العربي، تأليفها وطباعتها ونشرها، واستُهلَّ هذا المقال الذي عدتُ إليه اليوم بالآتي: «إذا أردنا أن نحكم بناءً على "مكتبة أنطوان" في بيروت، فصناعة الكتب تسير بشكل جيد في الشرق الأوسط. يحتوي الفرع الُمشرق ومتجدد الهواء في أسواق بيروت، وهو مركز تسوق، على أرفٍّ ممتدة من السقف إلى الأرض في جميع طوابقه الثلاثة. ومع ذلك، حتى لو كان وضع هذه المكتبة انسيابياً مثل أي مكتبة في شارع رئيس بريطاني أو أمريكي، فإن النشر باللغة العربية يعاني». حتى هذه المكتبة الرائعة، والتي كانت تنقل صورة إيجابية –وإن كانت غير صحيحة– تقفل أبوابها اليوم، وتسقط كما سقطت قبلها مكتبات عربية عريقة أخرى، في هاوية الأزمات الاقتصادية الخانقة التي تعيشها دول عربية كثيرة، وتروح ضحية العزوف العربي العام عن القراءة.
يُظهر البحث السريع على الإنترنت أرقاماً مخيفة بحق، من قبيل أن الطفل العربي يقرأ كتاباً واحداً سنوياً مقارنة بالأطفال البريطانيين الذين يقرؤون سبعة كتب في السنة، والأطفال الأمريكيين الذين يقرؤون 11 كتاباً. وفي المتوسط ، يتم إصدار كتاب واحد لكل 12000 مواطناً يعيشون في العالم العربي مقارنة بكتاب واحد لكل 500 مواطن بريطاني وواحد لكل 900 مواطن ألماني. ويقرأ العرب بمعدل ست دقائق في السنة مقابل 200 ساعة في السنة لغير العرب في أوروبا والولايات المتحدة. لا مصادر موثوقة لهذه المعلومات، وحتى في حال وجود مصدر إلا أن المنهجية المستخدمة في الوصول إليها والمعايير المعتمدة تظل موضع شك وتساؤل.
كذلك قد يكون عنصر المبالغة في هذه الأرقام كبيراً، خاصة إذا ما قورن مثلاً بـ "مؤشر القراءة العربي" لعام 2016، والمُعدِّ بالشراكة ما بين مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم والمكتب الإقليمي للدول العربية/برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، والذي يقول إنَّ العرب بشكل عام يقرؤون في المتوسط 35 ساعة في السنة، ويصل هذا المتوسط في مصر مثلاً إلى نحو 63 ساعة في السنة؛ كذلك يقول المؤشر أن عدد الكتب التي يقرؤها العرب يتراوح ما بين 10 إلى 28 كتاباً كل عام، وأن العرب في المتوسط يقرؤون نصوصاً رقمية أكثر من النصوص المادية.
قد تبدو هذه الأرقام مقبولة بالنسبة للبعض إلا أني ما زلت أراها منخفضة وضعيفة بالنسبة للعرب، ذلك الشعب الذي لطالما كانت يبجل الكتب والمكتبات، والذي يُنقل عنه أنه أبدل يوماً الأسرى بالكتب، وأن إحراق الكتب كان شكلاً من أشكال التعذيب الذي استخدمه عدوهم ضدهم.
لقد كانت الحضارة العربية الإسلامية يوماً مركز إشعاع معرفي، علمي وثقافي، للعالم كله، وكانت المكتبات العربية –العامة منها والخاصة، الأكاديمية منها والمدرسية والملحقة أيضاً بدور العبادة، من قبيل بيت الحكمة في بغداد، خزانة بني أمية بالأندلس، دار الحكمة الفاطمية، مكتبة المدرسة النظامية والمستنصرية والفاضلية.. وغيرها–منارة من منارات التعليم، وضمت نفائس الكتب الأصيلة في التراث والفقه، وفي السير وفي أنواع العلوم المختلفة كالطب والكيمياء والفلك والرياضيات، إضافة إلى عيون الكتب المترجمة عن اليونانية واللاتينية والفارسية وغيرها.. ولا يمكن لأحد أن يُنكر في مشرق الأرض ومغربها أهمية الدور الذي أدته الحضارة العربية في سيرورة الحضارة العالمية، خاصة من ناحية تأثيرها على أوروبا الجارة، ونقلها من عصور الظلام التي كانت تعيشها، ووضعها على طريق التنوير والعلم والمعرفة الصحيح.
لا أورد هذه الأمثلة من باب جلد الذات أو إلقاء اللوم على أشخاص أو دول بذاتهم، فالحال الذي وصلنا إليه اليوم ليس وليد ليلة وضحاها، بل ناتج عن تراكمات طويلة بدأت مع سيطرة العثمانيين الذي عملوا في البداية على إقصاء كل ما هو عربي لصالح كل ما هو تركي، فبدل أن يبنوا حضارة توازي الحضارة العربية، عملوا على تحجيم الأخيرة لصالح الأولى، وإلى قمع كل محاولات التنوير العربية وإعادة إحياء الإرث العربي.
ولا تقف الأمور هنا، فحتى بعد زوال الإمبراطورية العثمانية، جاء الانتداب الأوروبي الذي عمل على فرض لغاته على الدول العربية، ثم ظهرت الحركات والأحزاب القومية، والتي رغم تسميتها بالعربية لم تؤد أدواراً إيجابية في الدفع نحو تأسيس "دولة عربية حديثة" تأخذ بناصية العلم والمعرفة، بل تسلقت هذه الحركات على المشاعر العروبية لدى الشعب العربي، للوصول إلى السلطة وتحقيق السيطرة الفردية، وبدل أن تشجع المعارف وتدعم صناعة الكتب والمكتبات، عممت ثقافة الخوف والحظر والمنع، فلا ينشر كتاب إلا بعد المرور ليس على رقابة واحدة، بل على رقابات، ولا يوزع آخر إلا إذا توافق تماماً مع أفكار هذا النظام أو ذاك، وأحياناً يجب أن يتوافق مع رؤى ووجهات نظر شخصية للحاكم الفرد.
يؤسفني القول إننا إلى يومنا هذه، ورغم عصر العولمة والانفتاح وحرية الوصول إلى المعلومة، لا نزال أسرى لهذه "الذهنية التحريمية" خاصة فيما يتعلق بالكتب الورقية المطبوعة، وفي الكثير من الدول العربية، ليس في السياسة فقط، بل وفي الأدب والفكر وحتى الثقافة والفن.. حتى باتت علاقة العربي بالكتاب مأزومة بطبيعتها، وبات يخشاه ويرى فيه تهمة، ولم يعد أمر اقتناء الكتب وقراءتها يشكل أي أولوية عند العربي.
تتفاقم هذه المشكلة وتزداد تعقيداً وفداحة بنتيجة الأزمات الاقتصادية الخانقة التي تعيشها العديد من الدول العربية، التي كانت يوماً مقراً لأعرق المكتبات، مثل سوريا ولبنان والعراق وغيرها.. لقد صار شراء الكتاب رفاهية لا يقدر عليها معظم أفراد الشعب، فهم يفكرون أولاً بالطعام والشراب والمأوى والملبس، ولا أدري إذا كان الكتاب متذيلاً لقائمة أولوياتهم، أم أنه بات خارجها تماماً. لقد أُغلقت مكتبة نوبل العريقة في دمشق العام الماضي، لأن أحد مالكيها اضطر للهجرة، بعد أن تضاءلت مبيعات المكتبة إلى حد لم تعد تكفي لتغطية مجرد جزء من تكاليف فتحها، في ظل الظروف القاسية والأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر فيها البلاد.
ولا يختلف الحال كثيراً في مكتبة أنطوان في أسواق بيروت التي لم تستطع إلى اليوم التعافي من مقدار الدمار –المباشر وغير المباشر– الذي سببه الانفجار الضخم في مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020. هذه المكتبة العريقة التي تجاوز من العمر تسعة عقود ويسبق تأسيسها استقلال دولة لبنان، أغلقت مرة بسبب الحرب الأهلية وانتقل بها أصحابها إلى "شارع الحمرا" الشهير، ورغم أنهم عادوا إلى وسط بيروت عام 2012، معلنين إيمانهم برسالتهم التنويرية وبمستقبل بلدهم، إلا أنهم لم يستطيعوا إتمام عقدهم الأول، واضطروا إلى إغلاق هذا الفرع الأثير والحداثي والضخم وذو الرمزية الكبيرة، والاكتفاء بأشقائه من الفروع الأصغر.
لقد بات واضحاً للجميع أن المكتبات في العالم العربي هي الضحية الأولى للأزمات الاقتصادية، وكأنها الحلقة الأضعف في مجتمعاتنا العربية، وهذا يعقد أزماتنا ويزيد من استفحالها ومن صعوبة الخروج منها، فالقراءة كما كانت في الماضي، لا تزال إلى عصرنا هذا، الأداة الأهم بيد الإنسان للاستفادة من علوم ومعارف الآخرين، وليفهم ذاته أولاً ومن ثم الآخر ومحيطه ومجتمعه بالعموم، القراءة هي السبيل الأفضل لبناء القدرات والمهارات، ولتعزيز التواصل على المستوى الشخصي والمهني والاجتماعي، هي حجر زاوية الإبداع والابتكار، وبدونها لا يتقدم الأفراد ولا المجتمعات، ولا يجدون سبيلهم نحو التطور والتغيير والازدهار، ألم تكن أولى كلمات الوحي الإلهي التي تلقاها النبي محمد ﷺ هي "اقرأ"، ليبدأ بعدها رحلة تحرير العرب من براثن الجاهلية والأمية وينطلق بهم إلى مشروع بناء دولة وحضارة عالميتين تتجاوزان حدود المكان والزمن.
ومن هنا يجب على الجميع الدفع وبقوة نحو إعادة إحياء ثقافة القراءة في المجتمع العربي، الدول أولاً من خلال أنظمتها التعليمية، ففي المدرسة يتعلم الطالب أن يحب الكتاب أو أن يصير صديقه، أن يعتاد رفقته في كل الأوقات، وأن يشعر بأنه سبيله الأهم والأفضل والأجمل لتغذية العقل والروح، وللانعتاق من أغلال الحاضر مهما كان سيئاً، بالمعنين المجازي والحرفي. من المعيب حقاً أن نطالع على صفحات التواصل الاجتماعي صوراً لطلاب يسارعون إلى تمزيق كتبهم المدرسية لحظة إتمامهم الامتحان وخروجهم من قاعاته.
كذلك على المثقفين والمطلعين والكتاب أنفسهم التخلي عن طرق الكتابة وأساليبها التقليدية التي استخدمت على امتداد قرون مضت، ولم تعد تلائم القارئ، ولم تعد تثير فيه إلا الملل. لا أعني هنا أن تلك الطرق خاطئة على الإطلاق، لكن مواكبة العصر الجديد تتطلب أفكاراً جديدة وطرقاً مستحدثة للتعامل معه. وأزعم بكل ثقة وعن تجربة شخصية أن هذا "التحديث" لن يضعف محتوى أو مضمون ما هو مكتوب باللغة العربية، بل على العكس، سيزيد من وصوله وانتشاره. كذلك لدى هؤلاء الكتاب حججهم، المعروفة للجميع (من قبيل: الصعوبات في فرض حقوق التأليف والنشر، ونقص الموزعين الجيدين للكتب، والعقبات البيروقراطية التي تحول دون إنشاء شبكات توزيع إقليمية، وانخفاض القوة الشرائية للقراء العرب، وندرة المكتبات الخاصة والعامة، وتحديات الرقابة)، لكن رغم هذه العقبات لا يمكن لأحد أن ينكر تغير الجو العربي العام، انطلاقاً من دول الخليج، والتي تشهد تطورات كبيرة وقفزات نوعية فيما يتعلق بموضوع القراءة والتشجيع عليها، سواء أكان ذلك لدى الأطفال والشباب والنساء، وفي المجتمع ككل. لا بد من ركوب هذه الموجة والاستفادة منها، معنوياً ومادياً أيضاً، لتحسين وضع القراءة عربياً ولتطوير واقع الإنتاج الفكري العربي بالعموم.
لا أبالغ إذا قلت إن وسط بيروت لن يكون اليوم مثلما كان قبل إغلاق مكتبة أنطوان، فأسوأ أزمان الانحطاط هو زمن إغلاق المكتبات، وكم آسف لكوننا شهوداً عليه، فإغلاق المكاتب يشبه إغلاق نافذة عقولنا على العلم والمعرفة، وإقفال أبواب التعلم وبالتالي التمدن والتحضر والتطور. وعندما نغلق مكتباتنا نحرم أنفسنا فرصة كبرى للتنمية والنهضة الحضارية، بل ونحرم دولنا أي قدرة لأن تكون سيدة مصيرها، وصاحبة تأثير فعلي في محيطها الإقليمي والدولي، ليس فقط من ناحية الفكر والأدب، بل في الاقتصاد والسياسة والحرب أيضاً.
هل نسينا تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان بعد حرب 1967 عندما سئل عما إذا كان قلقاً بشأن الخطط الحربية التي تم نشرها قبل تنفيذها، لقد ردَّ حينها بمقولته الشهيرة: "العرب لا يقرؤون"؟ لا يجب أن ننسى هذه الجملة، بل علينا تذكرها دائماً، كي نثبت خطأها أولاً، ولنؤكد للعالم أننا مؤهلون من خلال القراءة والاطلاع على أن نكون في مصاف الأمم المتقدمة، نملك ناصية المعرفة ونستطيع أن نثبت لأنفسنا أقداماً في عالم الثقافة الواسع والممتد.
حسن إسميك
رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS