العرب والفن والزمن الرديء

لم أستطع يوماً معرفة سبب الشعور الغريب الذي يعتريني عندما أقف في حضرة الفن، لكنّي أعرف حقّاً أنّه لا يولّد شعوراً آسراً فحسب، بل يدخلني في عاصفة من الأفكار والتساؤلات المختلطة تجاه موضوعه.

الكاتب حسن إسميك
  • تاريخ النشر – ١١‏/٠٣‏/٢٠٢١

أثناء مروري في إحدى حارات الشام القديمة وقعت عيناي على صبية تجلس إلى الطريق وترسم مشاهداتها، ثار فضولي حول ما يمكن أن يشكل مصدر إلهامها في هذا المكان الذي تأملته سريعاً فوجدته مجرد طريق يمر به الناس في طريقهم إلى أعمالهم، لكني أعدت النظر في ما حولي وأنا أحاول تتبع الأشياء التي كانت الصبية تنظر إليها، ورويداً رويداً بدأت أرى ما لم ألحظه في المرة الأولى، قطرات مياه متلألئة تتطاير من نافورة، وشاباً أنيقاً يقف بهدوء ويبدو أنه ينتظر أحداً ما، هناك امرأة مسنة تمشي الهوينا بزيها المرقط الساحر، وبائع عربة الكعك تعلو وجهه ابتسامة الرضا والثقة، فتنبهت إلى أنه كيف يمكن لأي من هذه المشاهد أن يكون لوحةً فنيةً.

اقتربت من الفتاة لمعرفة كيف تصيغ هذه اللحظات بطريقة بصرية، فأدهشني أنها ترسم مساحات لونية لم أتمكن من إيجادها في أي مكان، فسألتها: أي مشهد ترسمين؟ أشارت بإصبعها نحو زاوية زقاق متفرع عن الطريق، غير منزعجة من فضولي الذي ربما اعتادت عليه من الآخرين. وعندما دققت بالمشهد الذي أشارت نحوه فهمت أنها تُبسّط كل شخص ومتجر ومبنى إلى لون جميل، وتجمع بينها بخطوط تعبر عن حركة السير. وعندها أدركت أن اللوحات التجريدية التي أراها ولا أتمكن من فهم ما تعنيه، هي في الحقيقة موجودة في كل زاوية لكن لم أفكر في تبسيطها يوماً، ومع ذلك كانت اللوحة جميلة، وكانت الألوان والخطوط، لا الأشخاص والأشياء الحقيقية، موضوعها الأساسي.

عجباً كيف اختزلت الفتاة تفاصيل المكان بتلك الخطوط فخبّأتها في ثنايا ألوانها؟ كانت جميلةً. أعني جميلةً حقّاً إلى حدّ النشوة. هل كان أحدٌ سيلمح تلك الأسرار الجمالية في الأنغام التي عزفتها أصابع فنانتنا؟ أدركت حينها أنّ الجمال منثور في كل ناحية من حولنا وفي كلّ زاوية فينا، ولكنّه في شوقٍ إلى من يلملم تفاصيله وينشئه خلقاً جديداً.

لم أستطع يوماً معرفة سبب الشعور الغريب الذي يعتريني عندما أقف في حضرة الفن، لكنّي أعرف حقّاً أنّه لا يولّد شعوراً آسراً فحسب، بل يدخلني في عاصفة من الأفكار والتساؤلات المختلطة تجاه موضوعه. لا أعرف لمَ تذكرّت قصة إحدى اللوحات المشهورة للفنان "إدوارد مانيه" (الغداء على العشب) التي أثارت سخط الطبقات الأرستقراطية لأنّها تصوّر امرأةً عاريةً تجلس على العشب مع رجالٍ نبلاء يرتدون ثيابهم كاملةً، فاعتُبِرَت تلك إهانة عظيمة؟ قد تكون إهانة من وجهة نظر ما، لكنها ليست أبداً كذلك إذا حملناها على محمل الفن.

إنّ الفن يتجرّأ على طرح أكثر المواضيع حساسية بقالب جمالي فيترك أثراً كبيراً في المتلقّي، وفي حال كان موضوع الفنّ جدلياً يمكن أن يحفز فنانين آخرين لإعادة إنتاج الجمال لمحاكاة الموضوع نفسه مشكّلين تياراتٍ فكريةً تلتقي لإحداث تغيير اجتماعي أو سياسي، لذلك يُعتبر الفنّ أحد أهمّ الطّرق لطرح الأفكار والأيديولوجيات أو حتى التعبير عن الكوارث والآلام البشرية. لكن هذا كله لا يمكن أن يحدث ما لم ينطلق الفنان من تراثه وحضارته وبيئته.

ووجدتني أسأل الفتاة عن علاقتها بالمكان وما الذي يجذبها في الحضارة العربية؟ وبصوتٍ منتشٍ يلفّه الحنين فاجأتني بقولها: إنّها تتوق إلى الهجرة من الوطن، وإنّها عبأت منذ حين تلك الأزقّة والتاريخ والأشخاص وكلّ القطط والعصافير في حقيبة لتحملها إلى مدينة تعرف قيمة الفن وأثره. ففي بلادٍ لا تسمحُ للفنان أن يمارس فنّه وذاته يُصبح انسلاخه عن حضارته وثّقافته أمراً متوقعاً بل ومُسَوَّغَاً، خاصة مع هبوط الذائقة الفنية إلى ما هو تجاري، واعتبار الفن مجرد رفاهية من رفاهيات الحياة، وهذان سببان يدفعان الفنان إلى إنتاج ما يمكن تسويقه حتى يتمكن من شراء الأدوات التي تساعده على ممارسة شغفه، أو قد يضطر لترك هذا الشغف ودفن موهبته، ليتجه إلى مجال آخر يكفل له حياة كريمة. لكن من الخاسر في النهاية؟ لا ريب أنّ الخاسر هو نحن، هو الإنسان فينا، تاريخنا وثقافتنا والحسُّ الجمالي الذي يخبو شيئاً فشيئاً حتى يكاد ينطفئ. وهذا لا يعني أن الفن بحد ذاته غائب، فهو غير مرتبط بمكان ما أو بنوع معين من البشر، إنه كامن في عمق النفس البشرية. ولا شك أن واقعنا الحضاري اليوم يؤدي إلى تراجع الحضور الفني والذائقة الفنية السليمة، ليحل مكانها صورة مشوهة وغير مرضية عن الفن. فالمجتمعات الراقية تقيس تطورها وعمقَ حضارتها بنتاجها الفني.

أتذكر أن أغلب ما حصلت عليه من ثقافة فنية أو بصرية، كان من خلال جهود شخصية أو أحاديث تدور بين بعض الطبقات المثقفة، لكنني أعلم جيداً أن الفن ليس مقتصراً على طبقة النخبة، لكن يقع على عاتقها مسؤولية نشر الثقافة الفنية وتعزيزها. ولكم تمنيت لو أن المناهج المدرسية تعامل مادة الفنون بنفس أهمية مادة الرياضيات، أو أن إدارات المدارس تنظِّم زيارات إلى معارض فنية يطرح فيها الطلبة أسئلتهم بعفوية على الفنان، ليتأسس عندهم ذوقٌ فنّيٌّ منذ الطفولة من شأنه مع دوام المتابعة والاهتمام أن ينشئ أجيالاً تضع الفنّ حيث يليق به. لعلّنا في يوم نطمح أن يكون لدينا متحفٌ يضاهي اللوفر أو الأرميتاج، مع العلم أن هذه المتاحف تعج بآثارنا الفنية السومرية والكنعانية والفينيقية، وفي هذا المقام لا بد من الاعتراف أن الأمارات كانت من أوائل الدول العربية التي شيدت متحف اللوفر في أبو ظبي، فقد ادركت مبكراً أهمية الفن وقدرت قيمته وأثره على التربية بشكل عام والذوق الجمالي خاصة. 

ولكن كيف يكون هذا في مجتمعٍ يعلي من شأن أغنيةٍ هابطةٍ على حساب كل ما هو أصيل ورفيع؟ حقّاً إنّه زمنٌ رديء ذاك الذي يحفظ فيه أطفالنا وشبابنا أسماء عشرات من المغنين ولا يستطيعون أن يسمّوا لنا فناناً تشكيلياً واحداً. لا بأس عليك عزيزي القارئ, لا تجهد ذاكرتك ولا تشعر بالخجل لأنّه ربما لم يحضرك ولو اسم واحد! فأنت وأنا صنيعةُ هذا الزمن الرديء، وضحيّةُ مؤسساتنا الثقافية التي توجّه الذوق العام إلى الفنّ الاستهلاكي الرخيص. هل سمعت بقصة ذلك الرسام العربي الذي قضى سنواتٍ يبدع لوحاته، وباع ذهب زوجته ليستأجر صالةً يقيم فيها معرضه, وهو طامعٌ بل واثقٌ أنّ هذا المعرِض سيحقق له شهرةً وثروةً، لكنّه فوجئ بقلّة الزائرين، الذين لم يتجاوز عددهم الثلاثين في أيام المعرض الثلاثة! وحتى ذلك المسؤول الذي مثّل مديرية الثقافة اكتفى بإلقاء نظرةٍ عاجلة والتقاط صور للإعلام. جمع صاحبنا لوحاته وسافر بها إلى هولندا ليحتفي به وبفنّه أهل الصّنعة الحقيقيون وتباع لوحاته بأثمان عالية، ويصبح اسمه علماً هناك.

إنّها باختصار ثقافة مجتمع، فقد احترم الغرب الفنّ بأنواعه وأعلى من شأن المبدعين، وسما بالذوق وأسس فنّاً جماهيرياً شعبياً راقياً ولم يصل إلى هذا إلا بعد أن أدرك دور الفنِّ في تهذيب الأخلاق وتربية النّفس، وأولى كلّ الاهتمام بالمواهب منذ بروزها مع الطفولة. فهل يبقى بعد هذا عتبٌ على الفنان الصادق إن هو حلم بحمل ريشته ليطوف بها باحثاً عن فصلٍ جديد من الإبداع في بلادٍ أدرك أهلها أنّ الحصول على عشرات العلماء والأطباء أمر أيسر بكثير من نبوغ فنان واحد؟

إننا نعيش في مهد الحضارات البشرية، وبلادنا تطفو على بحر من المخزون التراثي والثقافي الذي ينتظر من ينفض عنه الغبار ويبعثه من رقاده الذي طال. فلماذا نتنازل عن طائر الفينيق كي يصبح فيلماً خيالياً غربياً؟ أو نترك الأهرامات كي تصبح قصة رعب خرافية أجنبية؟ أولسنا أحق بهذه الذاكرة؟ هذا كله برسم المسؤلين عن فنوننا وتراثنا في بلداننا العربية.

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS