قبل قرن من الآن كانت الشعوب العربية تأمل و تطمح إلى (بعد أن تتخلص من مرحلة الاستعمار) تشييد كيان سياسي أو اتحاد يجمعهم، ولكن وبعد رحيل المستعمرين لم تتحقق أمانيهم تلك؛ حيث لعبت عدة عوامل –لا مجال لذكرها هنا- في إجهاض هذا الحلم، وتوافقوا على تحقيق الحد الأدنى من المشروع الوحدوي، من خلال إنشاء جامعة الدول العربية، كمظلة تجمعهم على شكل اتحاد كونفدرالي؛ بحيث تحتفظ كل دولة باستقلالها الوطني وسيادتها الوطنية، على أن تنسق فيما بينها في السياسة الخارجية والاقتصاد والدفاع...الخ.
هكذا تمَخَّضَ النضال العربي فولد جامعة الدول العربية على صورتها التي هي عليها الآن؛ فوضعها الحالي لا يُسرّ عدواً ولا صديقاً، بسبب التباينات بين بعض دولها حول مواضيع كثيرة تعكس عمق الانقسام والتشظي في العقل الجمعي للعرب، بحيث يكاد يصدق علينا ما قاله المفكر السعودي الراحل عبدالله القصيمي حين وصف العرب بأنهم " ظاهرة صوتية"!
لقد أدى تردد العرب وافتقارهم لروح المبادرة الفعالة والسريعة في حل الأزمات العربية إلى إتاحة الفرصة لبعض القوى الإقليمية، كإيران وتركيا، في أن تتدخل في ملفات عربية، كان يجب أن تعالج عربيّاً وبحكمة وعقلانية، لو تمت لساهمت في معالجة المشكلات، التي انفجرت في بعض الدول العربية التي تعاني من اضطرابات وتدخلات خارجية مثل سوريا، على سبيل المثال لا الحصر؛ وهو ما عبر عنه بدقة سفير دولة الامارات العربية في واشنطن يوسف العتيبة -في مقابلة مع صحيفة "المونيتور" الأمريكية- بقوله: "هناك شعور من عدم الرضا لأن اللاعبين المقررين لمصير سورية أغلبهم غير عرب، وبأن هناك مطلب لأن يلعب العرب دوراً في مستقبل سورية".
كذلك هي باقي مشاكلنا العربية نجعلها تتفاقم فيما بيننا حتى ينفذ من خلال شقوقها كل طامع وطامح في السيطرة علينا وعلى خيراتنا. ويبدو لي - كما أشرت في مقالات سابقة - أننا كعرب أسرى لعدة سجون منها سجن الذات والتاريخ، بحيث أننا لا نريد الفكاك من ذلك!؛ صحيح أن هناك خلافات بين الدول والشعوب الأخرى لا تعد ولا تحصى، إلا أنهم لا ييأسوا من البحث عن سبل الحل والمبادرات السياسية الخلاَّقة من خلال تسويات تاريخية تغلق دفاتر التاريخ والماضي وتتجاوزه إلى آفاق المستقبل، والمصالح المشتركة.
لقد آن لنا كعرب؛ شعوباً، ودول، ومؤسسات أن نعي خطورة التشرذم الذي لم ولن يخدم إلا من هو طامع فينا؛ فما زالت قضايانا كالجرح المفتوح على سعته، وهي بحاجة الى معالجات سريعة ومواقف جريئة لعلها تساهم في تضميد جراح بعض دولنا التي ما زالت تنزف، وتسد باب التدخلات الإقليمية والدولية في شؤوننا. وهذا لا يحتاج - في الوقت الحاضر على الأقل - الى تعديلات في ميثاق جامعة الدول العربية ومواثيقها بقدر ما يحتاج الى التقاط اللحظة التاريخية التي نعيشها "لإنقاذ ما يمكن إنقاذه». لأن سياسية الإنزواء والانعزال وترك الميدان لغيرنا سيفاقم الأمور ويزج ببعض أوطاننا العربية في أحضان بعض دول الإقليم؛ التي تريد عودة أمجادها الإمبراطورية السابقة وأعني هنا إيران وتركيا اللتان استغلتا الواقع العربي المأزوم في وضع موطئ قدم لهما في بعض دوله، وكل ذلك يحدث دون رد فعل سياسي عربي كابح لتدخلات هاتين الدولتين.
وسؤالي هنا بعد كل هذا الذي جرى ويجري هل يمكن للعرب أن يسلكوا طريقا ثالثا؟
أحسب أن الأمة التي تستسيغ تكرار أخطاءها (التاريخ يعيد نفسه!) هي في طريقها إلى غياهب المجهول؛ فالعالم من حولنا تغير ويتغير إلا نحن كأن سنة التغيير لا تجري علينا أو لا تشملنا!، لقد سقطت إمبراطوريات قديمة وحديثة ودول عظمى وظهرت أخرى، واستفاقت شعوب ونهضت من بين ركام الدمار في سنين معدودة، فما بال شعوبنا مصرّة على النكسة تلو النكسة والصعود نحو الهاوية؟
إن انتهاج استراتيجية تسوية الخلافات التاريخية وسلوك طريق ثالث سواء بين العرب أنفسهم، أو بين العرب والأطراف الإقليمية بما فيها إسرائيل، من شأنه أن يخرج منطقتنا العربية من وضعها البائس، ومن دائرة الخيارات الضيقة (الأبيض والأسود) إلى أفق أرحب ومفتوح. اما التمترس خلف خيارات وممارسات ثأرية تكتيكية على حساب الأمن القومي والاستراتيجي لمنطقتنا، فإنه سيجعل العرب كالريشة في مهبِّ الرِّيح.
وعليه، نحن العرب بحاجة ماسة إلى اتخاذ خطوات فعالة وجريئة تعالج مختلف الملفات في منطقتنا العربية، على قاعدة أن السياسة هي "فن إدارة المصالح»، ولا ضير في أن تختلف وجهات نظرنا حول قضية ما ولكن المأمول هو أن نتجاوز سياسية "دفن الرأس في الرمال"؛ لأن الكوارث بكافة أشكالها لا تعرف حدوداً ولا حواجز وما جائحة كورونا عنا ببعيد، فهل يسلك العرب طريقاً جديداً في إدارة خلافاتهم بحيث يتمكنوا من "تدوير الزوايا الحادة»، والابتعاد عن خيار اللعبة الصفريّة؟