ولكنني رغم ذلك أُشيدُ بالأفكار التي ذكرها المؤلِّفُ في ثنايا كتابه، والتي ترتكزُ على الصورة المشوَّهة التي حَمَلها كلٌّ من الجانبين للآخر، وأورثت الكراهيةَ على مرِّ العصور، للوقوفِ على أسبابها، وما حملَتْه من نتائج، نلمَسُ تأثيرها على الأجيال المتعاقبة في الشرق والغرب، ثمَّ نخلُصُ إلى الأفكار التي تنتشل الجيلَ الجديد من مستنقع الكراهية والحقد، ونأخذُ بيده للتخلُّص من التكلُّسِ الناتج من الوقوف على هذه الأحداث التاريخية، لعلنا نستطيع أن نمحوها من الذاكرة السَّلْبية، ونؤسس لذاكرةٍ إيجابيةٍ قائمةٍ على قبول الآخر، بل على هدفٍ سامٍ كبيرٍ يتجلَّى في نبذ التاريخ الذي جَلَبَ للبشرية الحروب والدمار والتخريب، وولادةٍ جديدةٍ للحب والسلام لبني الإنسانية جمعاء.
وأنا لا أزعمُ أنَّ هذا من السهولة بمكانٍ، بل على العكس هو عملٌ شاقٌّ وطويل، وخصوصاً أنَّ المسلمين فيما بينهم غيرُ متفقين، واستطاع التاريخُ أن يفرِّق شَمْلهم بين سُنَّةٍ وشيعة، وأنَّ المسيحيين -رغم تقدُّمهم بخطوةٍ على المسلمين في هذا المجال- لا يزالون في حالة انقسام وخلافٍ حول العقيدة والمنهجية في علم اللاهوت.
ولكنَّ الطريق يبدأ بخطوة، وأصلُ الشجرة العظيمةِ الباسقةِ بَذْرةٌ، عسى أن يأتي بعدنا مَنْ يسقي هذه البذرة ويعتني بها، لنحصد من وراء ذلك سلاماً حقيقياً لهذا العالم.
يذكُرُ الكاتبُ أنه بالعودة إلى النصوص والكتب والتفاسير والقصائد توضَّحَ أنَّ انشغال المسيحيين بالمسلمين فاق انشغال المسلمين بهم، فمنذُ منتصف القرن السابع الميلادي كان يُنْظَرُ للإسلام على أنَّه العدوُّ الخارجيُّ للعقيدة المسيحية، وقد تغلغل فِعْلُ إضفاء الشيطنة على الأعداء في أوروبا الغربية، فَنَمَتْ المعاني وتكاثرت، ومنذُ البداية فوجئ الغَرْبُ بسرعة تقدُّم الإسلام؛ حيثُ ولد النبيُّ محمدٌ صلى الله عليه وسلم سنة /570/م، أي: بعد خمس سنوات من ولادة الإمبراطور "جستنيان" الذي أعاد بناء الإمبراطورية الرومانية البيزنطية إلى أقصى اتساع، لكن في غضون جيلٍ واحدٍ بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة /632/م كان أتباعُهُ يفرضون الحصار على القسطنطينية.
وتحوَّل الاقتتالُ باتجاه الغزو الخارجيّ -وفقاً للمؤلف- وراء شبه الجزيرة العربية، فهزَمَ خالدُ بنُ الوليد في معركة "أجنادين" جيشَ "هرقل" البيزنطيّ سنة /634/م، ثمَّ أطاح بعد عامٍ بجيوشه قُبالة أسوار دمشق قبل أن يدخلها، ثمَّ ما لبثَ أن تسلَّم عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه مفاتيح بيت المقدس سنة /638/م.
وليس غريباً أن يرى الجهازُ الكَنَسيُّ في المسلمين خطراً كبيراً، وفي عمر بن الخطاب خاصيةً أشدَّ خطورةً ممّا رأوا في حُكَّام الفرس الذين سبقوه، ومن نقطة الاتصال تلك نَبَعَ خوفٌ عميق وتوجُّسٌ بين النصارى الأرثوذكس تجاه الإسلام.
وبعد حصارَيْنِ من قبل العرب المسلمين للقسطنطينية ارتبَطَ عِداءُ حركة "محطمو الايقونات" -الذين رفضوا تصوير الربّ بشكل إنسانٍ- بِعِداء المسلمين، وصاروا العدوَّ الأكثرَ شيطانيةً بين أعداء "بيزنطة"، وصار المسلمون هم العدوَّ الخارجيَّ والداخليَّ معاً، بعقيدتهم التي تحدَّتْ المبدأ الجوهريَّ للعقيدة الأرثوذكسية، ومنذُ ذلك الوقت تمَّ "فهمُ الإسلام" من خلال أوصاف الشرّ والدَّمار في العهدين القديم والحديث من الكتاب المقدَّس، هذه الأوصافُ التي بقيت دون نَقْدٍ أو مواجهةٍ على مدى قرون، ثم اكتسبَتْ معانيَ جديدةً من العداء.
ويعتمدُ "فهمُ الأفكار" التي تتناول المسلمَ بوصفه كافراً على طريقة عمل "اللغة"، حيثُ يرى الفيلسوف "فريناند دي سوسير" أنَّ الخطاب هو نظامٌ خالصٌ وشاملٌ من العلامات، تتكوَّنُ فيه كلُّ كلمةٍ من عنصرين، الوصف (المدلول)، والوسيلة التي توصل إلى المعنى (الدالّ)، سواءٌ أكانت الوسيلةُ صوتاً منطوقاً أو علامةً مرئيَّةً كالكتابة.
ولكي يوضح المؤلفُ "هويتكروفت" كيف يمكن للعداوة أن تصنَعَ نسيجَ المعنى وتُزَيِّفه ثم تحافظ عليه أحضر مثالاً من القرن التاسع عشر، عندما طلبت الحكومةُ البريطانيةُ سنة /1860/م من قناصلها في الدولة العثمانية كتابةَ تقريرٍ عن حياة المسيحيين في ظلّ حكومةٍ مسلمةٍ، وبناءً عليه: لاحظ القنصل "بلنت" في البلقان أنَّ المسيحيين كانوا بالتأكيد أحسنَ حالاً منهم قبل عشر سنوات؛ حيثُ كانوا يُرْغمون وَقتَها على الزحف تحت أبوابٍ (أي: أبواب الكنائس) لا يكاد يصلُ ارتفاعُها إلى أربعة أقدام، وبناءً على كلام القنصل "بلنت" كان واضحاً أنَّ الأتراكَ فَرَضُوا على النصارى جَعْلَ أبوابِ كنائسهم منخفضةً لإجبارِ مَنْ يرتادها على الانحناء.
ولكن هناك رواياتٌ أخرى أكَّدَتْ أنَّ أبواب الكنائس كانت كبيرةً، وكانت تفتح في الاحتفالات، وأنَّها احتوَتْ على أبوابٍ صغيرةٍ ترمزُ إلى طريق الخَلَاص مثلاً.
أراد المؤلفُ من ضربِ هذا المثال أن يبيِّن كيف يتمُّ تزوير الحقائق عبر الروايات التاريخية، ثمَّ ساقَ أحداثاً تاريخيةً أخرى، وعَلَّقَ على بعض رواياتها التي كانت تؤجِّجُ العداوة بين كلا الطرفين إلى أقصى درجاتها، وذَكَرَ أنَّ المسلمين أيضاً كان لهم سِجِلٌّ ممتدٌّ من المصطلحات التي تصفُ المسيحيين -وفقاً للمؤلف- بوصف الكلابِ والخنازير وألفاظِ النجاسة، وكانَ المسلمون -بنظر المسيحيين- رمزاً للخطر والخوف، وارتبطت هذه المصطلحاتُ بنظر الجانبين على مدى عقودٍ طويلة.
ويعلِّقُ المؤلفُ على الحروب الصليبية بأنَّها شُنَّتْ بذريعة إنقاذ القدس، ولكنَّها كانت سابقةً بزمنٍ طويلٍ على كلمة "صليبيّ"، فقد صِيْغَتْ بعد جيلٍ من استرداد المسلمين للقدس سنة /1187/م، وقد جنَّدَ البابوات مفهومَ أعداءِ المسيح لإعلان الحروب المقدسة التي كانت مجرَّدَ بدعةٍ داخل الكنيسة.
وعلى الجانب الآخر -وفقاً للمؤلف- طوَّر المسلمون نظريةً متماسكةً عن "الجهاد"، فقسَّموا العالم إلى "دار حرب" و"دار إسلام"، ودَلَّتْ كلمةُ "الجهاد" على السعي في سبيل قضيةٍ خيِّرةٍ. فالحربُ بالنسبة لكل من المسلمين والمسيحيين كانت شرَّاً، ولكن لإضفاء القدسية على المعركة والقتل كانَ لا بُدَّ أن تُلبَسَ ثوباً لجعلها شرعيةً وربَّانيةً.
ونتيجةً لهذه الثقافة من الجانبين فإنَّ كلَّاً منهما بقي مسلَّحاً بإيديولوجيا حربٍ جاهزةٍ، وبذريعةٍ عادلةٍ للحرب.
وفي مواجهات الحروب كانت الراياتُ الإسلاميةُ تحملُ الكثيرَ من الرموز والعبارات، كالآيات القرآنية وأسماء الله الحسنى، فيما سادَتْ صورةُ الصليب على رايات الجانب المسيحيّ.
وناقَشَ الكاتبُ: الصراع العثماني الأوروبي في منطقة البلقان، وما خلَّفه هذا الصراعُ من دمارٍ ووحشيةٍ يتحمَّلُ جريرته كلٌّ من الطرفين، فقد كان الاتصالُ الإسلاميُّ المسيحيُّ في هذا الجزء "مزدوج الشخصية"، وهو الأعنف والأكثر دمويةً، حيثُ خلَّف وراءه صراعاتٍ طائفيةً وعرقيةً ومناطقيةً عديدةً استمرَّت إلى ما بعد انتهاء الصراع التركي الغربي في المنطقة، هذا الصراع الذي ترك إرثاً ثقيلاً من العداوة والوحشية التي استمرَّت بين شعوب المنطقة إلى العصر الحديث.
ففي البلقان بعد عام /1922/ لم يعد هناك عثمانيون، لكنَّ الألبان المسلمين أخذوا مكانهم، وكانوا هدفاً لكراهيةٍ خاصةٍ من حكومة "الصِّرْب"، وفي سنة /1985/ ذكرت الصحف اليوغسلافية أنَّ فلاحاً صربياً تعرَّضَ لهجوم جنسيّ على طريقة "الخوزقة" التركية، وذكرت تقارير أخرى أنَّ دوافع الهجوم تتعلَّق بالأرض وليس بهذه الحادثة، وتناقضت التقارير، ولكنَّ الحقيقة كانت أقلَّ أهمية من رمزية "الخوزقة" وربطها بمذابح الأتراك، وعلى كلٍّ اتهم الألبانُ بذلك، وكانت الحربُ الوحشيةُ التي قتلت الإنسان وهدمت البنيان عاراً في جبين البشرية، وكأنَّ البلقان ملعونةٌ دوماً بتكرُّر الأفعال الدموية.
ثم انتقل المؤلفُ: إلى عصر الطباعة، وتطورها في أوروبا وتأخّر وصولها إلى العالم الإسلاميّ؛ الأمرُ الذي وسَّعَ انتشارَ الذمِّ الغربيّ للشرق، فمنذُ الأيام الأولى للطباعة في منتصف القرن الخامس عشر كان غيرُ المتعلمين قادرين على القراءة بأنفسهم من خلال الصور، فقد كانت أوصافُ الأتراك متخمةً بالرمزية، تذكِّرُ بالعنف والخطر أو الانحراف أو الإفراط الجنسيّ وولعهم بالخوزقة، وعلى النقيض أظهرَتْ صورٌ أخرى رزانة الحياة العثمانية.
إنَّ الصور المطبوعة والأعمال المرسومة والنَّحْت أعطت العداوةَ هويةً مرئيةً، وعلى مرِّ الزمن تطوَّرت الأدوات، وتغيَّر الممثلون، فحتى القرن التاسع عشر كان الكافرُ هو "التركيّ"، ورغم أساليب التقديم الجديدة إلّا أنَّ المواقف القديمة من الغرب تجاه الشرق الكافر بقيت قائمةً.
فالمطبعة كما يرى المولف آلةٌ لا أخلاق لها، لكنَّ قوَّتها هائلة، وفي عصر التنوير وُجِدَ إيمانٌ بقدرة المطبعة السحرية على تحويل المجتمع.
وذَكَرَ: أنَّ محاولة التقنين للفروق بين الشرق والغرب لا يمكن أن تمتَّ بصلة إلى حقائق الحياة المعيشية، إذْ إنَّ نفراً قليلاً في الشرق أو في الغرب -في الماضي والحاضر- عاشوا أو يعيشون حياتهم كلَّها حسب الكتب المقدسة والشرائع، فمعظمُ الناس يقضون أيامهم في توافق مع أخلاق جماعتهم أو طائفتهم الخاصة، وعند السطح المشترك حيث يتصادم العالَمَان تقعُ الحوادثُ في سياقٍ واحدٍ خاص، وهو التجارة العالمية، فهناك زمنُ الساعة، وهناك زمن الإنسان، والغَرْبُ بات محكوماً بزمن الساعة.
وفي القرن الحادي والعشرين بات الشرقُ والغربُ يشتركان في الكثير من البضائع والأدوات، خاصةً وسائل الإعلام والكتب والإنترنت، لكنَّها لم تستخدم في التوقيت نفسه، بل وُجِدَتْ فَجْوةٌ زمنية، فالغرب يطوِّر النماذج الجديدة للاتصالات، ويأخذها الشرقُ في وقت لاحق.
فقد مضت أربعةُ قرونٍ قبل أن تصبح الصور والكلمة المطبوعة شائعةً في الشرق المسلم، ومع الراديو والتلفزيون كانت مسألةَ عقود من الزمن، ولم تستغرق الإنترنت إلا خمس سنوات، لكنَّ التأخير الكبير في قبول ثورة الطباعة كان له عواقبُ وخيمةٌ، فقد كان معناه أنَّ توقيتات الشرق وتوقيتات الغرب لم تكن متطابقة.
وهذا يعني أنَّ الكفار المسيحيين والكفار المسلمين كانوا ينظرون لبعضهم البعض بعين الشَّكّ والارتياب لفترة طويلة، كلٌّ منهم يلعن الآخر بشكلٍ روتينيّ، ومنذ اختراع الطباعة صارت المذمَّةُ الغربيةُ أقوى وأوسع انتشاراً، لكن مع الزمن تعلَّمَ الشرقُ الدرسَ، وبات المسلمون يستخدمون وسائل الاتصال بالمهارة نفسها، وتعلَّموا كيف يمكن لهذه التقنيات الجديدة أن تحمل الذَّمَّ أو الكراهية إلى مدى أبعدَ وأكثر قوةً.
ويختتمُ "هويتكروفت" كتابه بذكر أمثلةٍ من العداوة في التاريخ الحديث والمعاصر، وكأنَّه يؤكِّد لنا -وهو الذي افتتح كتابه بنَقْد التاريخ- أنَّ التاريخ الذي ينتهي في الحاضر لا يكتمل قطُّ؛ حيثُ يبدو أنَّه من الصعب ضبطُ لغة الكراهية والذمّ والعداوة، فالشرُّ كالخير موجودٌ في كلّ واحد من البشر، ولكنَّ رؤيتنا المشوشة تجعلنا نرى في مرآتنا عدواً دون البشرية (نظرة دونية)، وهذا ما تفعله الإدارة الأمريكية في حروبها الصليبية المعاصرة، ليختم الكلامَ برسالةٍ يوجِّهها إلى الغرب، يحذِّره فيها من استمرار إعادة إنتاج لغةِ الحروب الصليبية، فهذه الأيديولوجيا لها ثَمَنُها، وقد يكونُ الثمنُ تفكُّكَ الغرب.
وفي العصر الحديث تطوَّر معنى "الجهاد" وممارساتُهُ، ففي عام /1978/ قبضت حكومةُ "إيران" على طاقم السفارة الأمريكية، ووصف "الخميني" أمريكا بأنها "الشيطان الأكبر" و"الحية الجريحة"، وهذا ليس مجرد شتيمة، ولكن معنى أعمق، فالروايات تتحدَّثُ أنَّ الشيطان اتخذ شَكْلَ حيَّةٍ، وعَضَّ ساقَ الإمام "عليّ" لإخراجه من الصلاة، لكنَّ علياً واصَلَ صلاته رغم الألم.
وبالتالي: فإنَّ قصد "الخميني" أنَّ الولايات المتحدة يمكن أن تجرح، لكنَّها لن تعرقلَ المسلمَ في الوصول لحقِّه، وسوف تستسلم الحيةُ الجريحة في النهاية لقوة الإسلام الإلهية.
وفي الطرف الآخر: أعلن أحدُ القساوسة الذين زاروا الهند سنة /2000/م أنَّ سبب زيارته هو الدعوةُ لحربٍ صليبية.
وما تزالُ حربُ الكلام تستخدم على نطاقٍ أوسع، إلّا أنَّ الحرب من أجل الصليب -حسب "برنارد لويس"- فقدَتْ معناها الأصلي، والمعنى الحاليّ للحملة الصليبية هو حَمْلةٌ حماسيةٌ من أجل قضية خيِّرة اجتماعية أو أخلاقية أو بيئية، ونادراً ما تكون دينية.
كانت كلمات "برنارد لويس" هذه عام /2001/م قد ابتكرت لتبرير زلَّة اللسان المحرجة سياسياً لرئيس أمريكا "بوش الابن" عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والحقيقةُ -وفقاً للمؤلف- أنَّ الحملة الصليبية بقيت قائمةً داخلَ المسيحية الإنجيلية وخارجها، ورغم ما قد تحملُهُ عبارةُ "حملة صليبية" من معنى خَيِّر إلا أنها لسوء الحظ لها تأثيرٌ سلبي على العالم خارج الولايات المتحدة مشابِهٌ لتأثير كلمة الجهاد فيما وراء العالم الإسلامي، فكلا المصطلحين اكتسب قوةً سياسيةً واجتماعيةً جديدة، فهما ليسا حفرياتٍ حيَّةً، بل هما من نِتاج القرن العشرين، وقد اكتسبا مع وسائل الاتصال الحديثة مدىً غيرَ عاديّ.
لقد أدار "جورج دبليو بوش" كارثة /11/ سبتمبر إدارةً تقليديةً، وكان لديه أسبابٌ وجيهةٌ لاستخدام عبارة "حملة صليبية"، وقد كان مقتنعاً أنَّ عليه إيجادَ صياغةٍ لأول كلمةٍ يلقيها بعد الكارثة فقال: (( نحن بحاجةٍ إلى أن نكون منتبهين لحقيقة أنَّ هؤلاء الأشرار ما يزالون موجودين، هذا نوعٌ جديدٌ من الشرّ، ونحن نفهم والشعبُ الأمريكي بدأ يفهم هذه الحملة الصليبية، هذه الحربُ على الإرهاب سوف تستغرق وقتاً)).
كانت عبارة "الحملة الصليبية" نابعةً من أعماقه، واستخدم كذلك: "نوع جديد من الشر"، ولاحقاً "محور الشر"، والآن اكتسبت كلمة "إرهاب" صفاتِ الخوف نفسه التي ارتبطت سابقاً بالتتار والأتراك، فقد أراد "بوش" رأسَ "ابن لادن" في صندوق، ولعلَّ هذا الأمر كان من الممكن أن يبدو مناسباً أكثر للسلطان العثماني في القرن السادس عشر أكثر من ملائمته للإدارة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين.
ويعلِّقُ الكاتب: أنَّ القصور والخطأ الجوهريَّ عند صانعي السياسة الأمريكية يأتي من أنَّهم يسيئون فهم طبيعة خصومهم وقدراتهم، ذلك أنَّ الإدارة الأمريكية لا ترى أمامها "عدواً في المرآة"، بل ترى كائناً غريباً أدنى من البشر، وهذه الرؤيا المشوشة تضمن الفشل السياسي بشكلٍ أو بآخر.
ويرى المؤلف إنَّ تمويل حربٍ طويلةٍ يتطلَّبُ إعادةَ إنتاجِ المذمَّة وإرجاعها إلى لغة الحملة الصليبية، لكنَّ إحياء الماضي له ثمنُهُ؛ لأنَّ إيديولوجيا قائمة على الاستجابات الرجعية سوف تفشل، وربما تفكِّكُ ببطءٍ تطوُّر الغرب اجتماعياً وثقافياً وروحياً.
باعتقادي أنَّ المؤلف استطاع أن يبيِّن الأسبابَ الايديولوجية الدوغمائية التي حرضت ودفعَتْ كلا الفريقين أو العالَمَين نحو تأجيج الحقد والكراهية؛ بحيث أصبحَ كلٌّ منهما يصفُ الآخر بـ"الكافر"، وهو مفهومٌ يعني "إعلانَ الحرب"، بل بقاء هذه الحرب بين الطرفين كـ"حرب باردة " إلى ما لا نهاية، والنتيجة دمارٌ وخرابٌ وإزهاقُ أرواح.
حقاً لقد كان "الكاتب" على مستوى المسؤولية الانسانية، اتسم بالموضوعية والوضوح في مناقشة الأفكار الجامدة والمتحجرة والتي وجدت عند البعض من الطرفين، فغذت الكراهية وأدت الى الصراع بين العالم الاسلامي والعالم المسيحي على مدى قرون طويلة. ان نزاهة المؤلف وموضوعيتةُ جعلته يختم بهذه الكلمات الهامَّة، التي من شأنها أن تسقط القناع عن أيّ وجهٍ يريد أن يأخذ الحروب في كثير من الأحيان إلى توجُّهٍ أو طابعٍ دينيّ، أو أن تجعل الصراع إيديولوجياً، بينما هي في كثيرٍ من الأحيان ذات أبعادٍ سياسيةٍ قائمةٍ على السلطة، أو تكون في حقيقتها لتحقيق مكاسب اقتصادية أو مصلحية.
وفي الوقتِ ذاتِهِ نبَّه إلى ضرورةِ اتباع منهج جديد، ينبذُ خطابَ الكراهية، والحقد لأتباع الرسالات السماوية، وينبذ الأحداثَ التاريخية التي تؤجج الصراع في الوقت الحاضر عبرَ التذكير بالماضي، الذي يحمل في طيَّاته بذور الشقاق ومبررات الحروب.
وأقول - ونحن في عتبة القرن الحادي والعشرين- ينبغي أن يتخذ المفكرون والحكماءُ في العالم موقفاً جازماً لإنهاء خطاب الكراهية، فنحن نعلمُ أنَّ الشرائع السماوية لم تُوْجَدْ وأنَّ الكتب المقدسة لم تُنزَّل إلا لسعادة البشرية والإنسانية، وكفانا افتراءً على الله وعلى رسله وعلى أنبيائه وكبته.
وإني لأدعو إلى تجاوز أطلال الماضي وإلى نبذ الحوادث التاريخية العرضية التي لن تزيدنا إلا تصُّلباً وتشدُّداً في الاحتكام إلى الأوهام، ويجب أن يعلم كلُّ مَنْ يوجِّه خطاباً دينياً من كل الأطراف -الإسلامية والمسيحية- أنَّ الكلمة هي أخطرُ سلاحٍ، فيجب ضبطُها، ويتحمَّل مسؤوليةَ ذلك المؤسساتُ الدينيةُ من كلا الجانبين، الأمرُ الذي يدعونا إلى إعادة النظر في الخطاب الديني الموجَّه للجماهير من كلّ الطوائف والأديان، ويجب أن نستبدل خطابَ الكراهية بخطاب الحبّ، وخطاب الحرب بخطاب السِّلْم، وخطابَ العنف بخطاب الرحمة، وخطابَ التكفير بخطاب التفكير والعقلانية المنفتحة على الآخر، وخصوصاً أننا في عصر الاتصال والتواصل السريع، وهذا يجعل مسؤوليةَ الكلمة أكبرَ، فكلمةٌ قد تقتل، وكلمةٌ قد تحيي النفوس.
وأدعو كذلك المؤسسات ذات القرار والتأثير على العَقْل الجمعي أن تتبنَّى رؤيةً جديدةً، وتضع منهجية مدروسةً للتأسيس لجيلٍ جديدٍ يؤمن بالآخر الشريك بالقيم الإنسانية.
لعلَّنا نؤلفُ كتاباً يحمل عنوان "الإنسان" تاريخ الإخاء الإنسانيّ الإسلاميّ المسيحيّ، بدلاً من "الكفار" تاريخ الصراع بين عالم المسيحية وعالم الإسلام.